المكان و في ديوان -رأيت يافا مرتين- سامي عوض الله (البيجالي)


رائد الحواري
2024 / 1 / 10 - 19:58     

المكان و في ديوان
"رأيت يافا مرتين"
سامي عوض الله (البيجالي)
أي فعل/عمل لا يعتمد على الأرض لا يمكن أن يكون ثابتا، فالأرض/الجغرافيا هي أساس الفعل الإنساني، البشري، حتى الرسل/الأنبياء يأتون برساله من السماء إلى لأرض، ليحققوا شيئا عليها، وليكون لهم أثر فيها، هذه الحقيقة استوعبها الفلسطيني/السوري منذ أن تواجد على هذه الأرض، فنصهرا معها وشكلا معا حالة ثقافية/معرفية جعلتهما كيانا واحدا، وهذا ما وجدناه في أسم الشاعر (البيتجالي) حيث يقرن نسبه/اسمه/كيانه/وجوده إلى بيت جالا، كحال العديد من الفلسطينيين/السوريين الذين يصرون على وجود المكان ملازما/ملاصقا لاسمهم.
أما على صعيد عنوان الديوان "رأيت يافيا مرتين" فهو يؤكد وحدة الجغرافيا الفلسطينية التي يعدها الشاعر وطنه وجزء من تكوينه الشخصي/الوطني/القومي/الديني، من هذا الباب يدخلنا "سامي البيتجالي" إلى الأرض الفلسطينية مؤكدا ارتباطه بها، فيحدثنا عن بداياته وفي أول قصيدة "أرض الحكاية":
أعود..
يوم كنت الشاعر الصبي
وكان ملعب
من الحصى والرمل
لم نزل ندوبه بينة
من كثرة السقوط
في ساقي وكانت الجبال
ذات الطرق العذراء
والصنوبر الذي يسير
كالأشباح في مقبرة
وكان صندلي
يسكنه جني
وكان بيتنا
محيطه السماء
كنت استحم
من جفاف الروح
في الوديان
كان للسماء آنذاك
دمعها السخي
وكنت صخرة
صعدت كالقديس فوقها
مصليا" ص7و8.
فكرة المقطع تؤكد حضور المكان وأثره على الشاعر، حتى انه بدا أسيرا له، وعندما تناوله من خلال ذاكرة الطفولة أراد أن (يبرر/يفسر) إقران اسمه به، فهما وجدا معا وتكونا معا، لهذا كان لا بد للشاعر أن يوفي/يعطي حق المكان عليه وفيه، ونلاحظ أنه يستخدم لغة بسيطة بعيدا عن اللغة المعجمة، وهذا يقودنا إلى الحالة العمرية التي يكتب بها الشاعر، فهو يتحدث عن حالة تكوين "سامي البيتجالي" عن تكوين الإنسان "سامي" مع جغرافيا "بيت جالا" فكان لا بد من استخدام اللغة التي تشكل منها "سامي" في تلك الأرض وفي ذلك الزمن.
من هنا سنتوقف عند الألفاظ المجردة المتعلقة به كإنسان: "الشاعر، الصبي، ندوبه، ساقي، صندلي، استحم، صعدت/ مصليا" التي نستطيع منها أن نصل إلى حالة التماهي بينه وبين المكان الذي كان حاضرا موجودا وبفاعلية عالية: "ملعب، الحصى، الرمل، الجبال، الطرق، الصنوبر، المقبرة، بيتنا، الوديان، صخرة" نلاحظ أن عدد الألفاظ التي تصف/متعلقة بالمكان أكثر من تلك المتعلقة بالشاعر، وهذا كاف لإيصال العلاقة التكوينية الجامعة والموحدة بين "سامي وبيت جالا"
واللافت في هذه العلاقة أنها تأخذ بعدا دينيا، فهناك علاقة بين الأرض والإنسان من جهة وبين السماء/الله من جهة أخرى: "السماء/للسماء، كالقديس، مصليا" وهذا ما يعطي العلاقة بينهما القدسية، وما وجود "أستحم" إلا تأكيد للحالة الجديدة المتقدمة التي وصل إليها الشاعر "كالقديس" بمعنى أنه يحمل رسالة/إيمان وعليه واجب تجاه الأرض التي منحته اسمه "البيتجالي" وواجب تجاه السماء التي كونته من الأرض وجعلته قديسا/شاعرا، وهذا ما يدفع "سامي" ليكتب لقومه/لشعبه/لأمته كتابه: "رأيت يافا مريتين"
الشاعر يعيش مغتربا عن وطنه في أمريكيا، وهذا يشير إلى البعد الجغرافي/المكاني بينهما، لكن بما أن هناك حالة من الروحية/القدسية كونت الشاعر فقد استمر التواصل بينه وبين وطنه، يقول في قصيدة "غريب":
"لو ضل هذا القلب
أو تابا
تظل ذكراك
ملأ القلب
محرابا
عصي المكان
عليّ من زمن
فاشعل سراجك
كي أرى البابا
وخذ الجفاف العاطفي
بقبلتي
واسقيه من شفتيك
ليمونا واعنابا
فداك عمري،
غيبتي طالت
أنعود بعد ضياع العمر
أحبابا؟" ص18و19.
اللافت في هذه القصيدة الانسيابية التي جاءت بها، واللغة السلسة التي تكونها، فرغم أنها تحمل مضمون (الصراع) الذي يعيشه الشاعر في المغرب: "ضل/تابا، عصي المكان/أشعل سراجك، الجفاف/اسقيه، غيبتي/أنعود" إلا أن القافية "محرابا، البابا، وأعنابا، أحبابا" خففت من حدة الصراع وجعلته أقرب إلى الانتصار، كما أن طريقة لفظها وما فيها من مد تجعلها تحمل معنى/فكرة المسامحة، وما الخاتمة "أحبابا" إلى من باب فتح صفحة جديدة بين الشاعر والمكان.
واللافت في القصيدة ارتباط فاتحها بخاتمها، فالضلال/ضل، يعترف به الشاعر في الخاتمة: "غيبتي طالت" وهذا يؤكد توبته/تابا التي نجدها "أنعود أحبابا"
من ميزات المجتمع الفلسطيني/السوري التعدد والتنوع، فهو يتشكل من مجموعة أفكار/عقائد لكنها مجتمعة/موحدة/منصهرة في توليفة واحدة وعلى أرض واحدة، يقدم لنا الشاعر هذه التوليفة من خلال قصيدة "ذكرى مكان لم يزل":
ما زات أذكر
في طفولتي البعيدة
شارعا يفضي
إلى (الأفريست)
يحرسه الصنوبر
من هجوم الريح
في أعلاه أشهد
كيف يلقى الطفل ربه..
وإلى الشمال الغرب
بيت أبي القديم
وفي الشمال الشرق
يبدو الأصفران
جرس.. وقبة
وأقول: هذا عالمي
وتطير في قلبي،
وتحملني إلى الجهتين:
أجنحة المحبة.." ص58و59.
نلاحظ حضور المكان وأثره على الشاعر من خلال مضمون/فكرة القصيدة "ما زلت أذكر" التي تأخذنا إلى الزمن الماضي، مما يجعل فكرة القصيدة مرتبطة بالمكان وبالزمان، لكن اللافت في تناوله للزمن ـ رغم أنه ماضي ـ إلا أنه يستخدم صيغة الحاضر/المضارع: "أذكر، يحرسه، يلقى، وأقول، وتطير، وتحملني" وهذا يشير إلى استمرار حضر المكان في الشاعر، وما وجود واو الوصل إلا من باب تأكيد انسياق/ارتباط الشاعر إلى ماضيه، إلى المكان الذي أعطاه صفة الشمولية، والاتساع "شمال غرب، شمال شرق" فعندما استخدم شرق وغرب جمع وشمل كل الجهات/الأماكن التي يمكن أن تتسع لها ذاكرة الطفل، ونلاحظ أنه انبهر بالأصفرين "الجرس، والقبة" اللتين أخذتاه إلى جهتين "أجنحة ومحبة".
وهذا يقودنا إلى تعلق الشاعر بحالتين/بمكانين، الشرق الكنسية والمسجد، والغرب بيته" ونجد هذه الثنائية واضحة في "الأصفرين، جهتين" وكأنه من خلال هاتين الحالين يقول: إنه يتزود/يتقوى بأكثر من طاقة ليبقى محافظا على إيمانه/على ذاكرته من الضياع أو الخراب، وما ختمه القصيدة ب "أجنحة المحبة" إلا تأكيدا لثبات إيمانه وذاكرته.
يأخذنا الشاعر إلى حالة التماهي بين الأرض والسماء، إلى التماهي بين السماء والإنسان في قصيدة "هجران":
"ماذا تبقى لنا
في الدار من صور؟
منذ مات أبي
ماتت بقاياها
لا أنس يشرب
عند الصبح قهوتها
ولا القرآن يتلى
إذا ما الليل غشاها
أرواح تؤنسها
ورب ميت
من التذكار أحياها
هل خنت حلمي
إذا ما عدت أذكرها
وهل نسيت نفسي
وذاكرتي فأنساها؟
وهل ستخفض لي
جناح الذل من عز
وها ستغسل ذنبي
حين ألقاها؟" ص35و36.
بداية يستوقفنا أعطى الدار صفات إنسانية والذي يشير إلى العلاقة الجامعة والموحدة بين الشاعر وبين الدار، فقد أقرن وجود الحياة فيها بوجود الأب، بمعنى أنه لا يتحدث عن مجرد مكان، بل مكان اجتماعي، مكان يضم أسرة، لهذا نفى شرب قهوتها، ونفي المعرفة والتقرب إلى الله "ولا القرآن يتلى" واللافت في هذا الصورة أنه لا يذكر الأم مباشرة وأعطى الدور للدار، فمن المفترض أن تكون الأم هي من تعد القهوة، وهذا يشير إلى حجم الخلل الذي أحدثه رحيل "الأب" مما جعل الشاعر (يفقد القدرة) على التركيز ويتحدث بطريقة (غير منطقية).
ونلاحظ الحالة الإيمانية/الدينية التي حلت على الشاعر بعد رحيل الأب من خلال "لا قرآن يتلى" مما جعله (يعوض) هذا النقص من خلال استخدامه تناص قرآني: "إذا ما الليل غشاها، جناح الذل، ستغسل ذنبي حين ألقاها" فحديثه نابع من رجل يريد التقرب إلى الله، ويريد أن يبقي تلاوة القرآن في الدار، كل هذا يؤكد أن الشاعر يتحدث من قلبه/من داخلة، وإلا ما كانت هذه الألفاظ وها الإيمان حاضرا بهذه القوة وهذا الشكل في القصيدة.
وإذا ما توقفنا عن الألفاظ سنجد أن حجمها صغير ويتخللها العديد من الحروف: "في، من (مكرر)، لا (مكرر)، إذا، هل (مكرر)، ما، ها، لي" وهذا يشير إل حالة (التعب وعدم القدرة) على الكلام عند الشاعر بعد أن فقد والده، فبدا متعبا/منهكا مضطربا، وهذا ما يتركه رحيل الأحبة على الأهل.
وفي قصيدة "عزلة" ينقلنا إلى حالة إيمانية آخرى:
"سأدخل فوهة الليل
وأبكي طويلا..
علني أستعيد القدسية
والهدى والسبيلا
فما يغسل القلب
كالملح والليل
ولكنني حين ابكي
سأبكي لوحدي
فإن الفضيلة أن لا يسمع
من أحد سواك العويلا
وأعتزل الناس والضوء
عل في هجري
أجد الرسولا
أو أرى المجدلية
في الولادة
أو أرى قبسا من النار
يضيء الدليلا
هل يجيء (المخلص)
قبل مجيء القيامة
والصعود الأخير؟
خفيف هبوط الملاك
ولكن في الوحي
حملا ثقيلا" ص153و154.
نلاحظ حالة تعبد في أعلى درجاتها، فالشاعر يتحدث عن طريقة تعبده/صلاته بصوفية مطلقة، من هنا جاء اعتزاله للناس وكل المظاهر الخارجية ليكون مع الله كاملا صافيا بعيدا عن الدخلاء وكل ما يعكر صفوة هذا اللقاء، من هنا نجده اهتم بالوقت المناسب لهذا اللقاء فكان "الليل، وأعتزل الناس والضوء" هو الأنسب والأفضل، من هنا وجدنا بكاء الشاعر في ثلاثة مواضع "سأبكي طويلا، حين أبكي، سأبكي لوحدي" وهذا يشير إلى حالة التوبة والتوجه إلى الله مباشرة بعيدا عن أي تدخل بشري، فهو يصبوا/يريد أن يصل إلى حالة التماهي/القدسية/الصوفية لهذا اختيار والوقت "الليل" والانفرادية/العزلة عن الآخرين: "لوحدي، أحد سواك، وأعتزل الناس"
ونلاحظ أن "الليل" الذي يريده الشاعر ما هو إلا لولادة الضوء/النور: "أجد الرسولا، أو أرى المجدلية، أو قبسا من النار، يجيء المخلص" اللافت في هذا الضوء أنه يمزج صفتين/حالتين معا، طبيعة الضوء/النور (المادية) وما يحدثه في النظر من أثر، وما يحدثه في القلب من إيمان وسكينة "الرسولا، المجدلية، المخلص"
ونلاحظ أن الوصل إلى ذروة الإيمان يتماثل مع حالة المخاض، فهناك ألم صراع يلازم الولادة، من هنا جاءت ألفاظ قاسية وأخرى ناعمة/هادئة: "الليل وأبكي/استعيد القدسية والهدى والسبيلا، هجرتي أجد الرسولا، المخلص/القيامة، الوحي/ثقيل" وبهذا يكون الشاعر قد أوضح أن الوصول إلى الصفاء والنقاء يسبقه ألم وتعب لتكون الحالة الجديدة خالية من أية شوائب أو تشويهات، فهي حالة صافية وناصعة البياض.
الديوان من منشورات الرعاة لدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، وجسور للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2024.