القاص حميد عمران الشريفي أمام وجوه راقصة
داود السلمان
2023 / 12 / 18 - 10:24
الكاتب الناجح عليه أن يرتكز على ثوابت خاصة بأسلوب الكتابة كـ (الرواية، القصة، الشعر، المقال، الرسائل). والثوابت يعيها الكاتب المبدع، الذي يمتلك ناصية الكتابة، ويتربع على عرشها، وهو ما نجده عند كبار الكتاب. ولكل كاتب أسلوبه المعروف به، وسنذكر، بعد قليل نماذج مهمة ومناسبة، لبعضهم الكتاب. فمن هذه الأمور التي أطلقنا عليها ثوابت، هي "المدخل" أو "الافتتاحية" للبدء في الموضوع، أو الكلمة الأولى، تحديدًا؛ مثلا، نجيب محفوظ في أحدى روايات، التي لا أتذكرها الآن، أفتتح ذلك بقوله: "في البدء كان الألم" وراح يسرد ويفصّل. وللأسف، لا أجد مثل هذا، وأنا اقرأ للكثير من كتابنا العراقيين - بحسب اطلاعي وحدود علمي ومعرفتي - وليس هذا فحسب، بل البعض، وهُم ايضًا كثير، لا يعرف اين يضع الفارزة (،) وأين يضع الفارزة التي تحتها خط (؛) – وهذه الفارزة (؛) لا أجد أبدا من يضعها في المكان المناسب بين السطور؛ فالكل قد اهملها – وأيضا لا يعرف أين يضع النقطة (.)، و وجدت بعضهم، يسوّد صفحة كاملة، أو اكثر بدون نقاط بتاتا، والبعض الآخر، يملأ صفحة كاملة، أيضًا، فقط، فوارز بدل النقاط، وهكذا دواليك.
نماذج لافتتاحيات مهمة:
النموذج: (1)
"لقد فرغ صبري، فما أنا آخذ بكتابة قصة خطواتي الأولى في طريق الحياة. وكان يمكنني مع ذلك أن أستغني عن هذا. إنّ هناك شيئا محققاً لا ريب فيه، هو أنني لن أكتب سيرة حياتي غير هذه الفترة، ولو قدَّر لي أن أعيش مائة سنة".
دوستويفسكي، المراهق، ترجمة سامي الدروبي.
نموذج: (2)
"لابد وأن أحدهم لفّق الأكاذيب على ك. فقد فقُبض عليه في صبيحة يوم مشمس دون أن يرتكب أي خطأ".
فرانز كافكا، المحاكمة، بترجمات مختلفة.
نموذج: (3)
"هل يمكنني، يا سيدي، أن أقدم خدماتي بدون المخاطرة بالتطفل عليك؟ أخشى أنك ربما لن تكون قادرًا على جعل نفسك مفهوما من قبل الغوريلا الجديد الذي يترأس مصير هذه المؤسسة".
ألبير كامو، السقوط أو السقطة، بترجمة إسماعيل زين العابدين.
النموذج: (4)
"تملّكتنا الرغبة في تمضية فترة السهرة وقضاء الليل بواحدٍ من تلك القصور التي تحوّلَ الكثيرُ منها إلى فنادق، هو بقعة خضراء مُربعة ضائعة في امتدادٍ من البشاعة القاحلة؛ بقعة صغيرة من المسالك والأشجار والطيور وسط شبكةٍ ضخمة من الطرقات".
ميلان كونديرا، رواية البطء، ترجمة خالد بلقاسم.
نموذج: (5)
"لا مناص: فرائحة اللوز المرّ كانت تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية. ذلك ما ادركه خوفينال اوربينو منذ دخوله البيت الذي مازال غارقا في الظلام، إذ حضر على عجل للاهتمام بحالة تعد مستعجلة بالنسبة له منذ سنوات عديدة، فاللاجئ الانتيلي جيرمادي سانت – آمور مشوه الحرب، ومصير الأطفال وأكثر خصومة رأفة في لعبة الشطرنج، قد تخلص من عذابات الذكرى باستنشاقه ابخرة سيانور الذهب".
ماركيز، الحب في زمن الكوليرا، ترجمة صالح علماني.
هذه نماذج أعتقد تفي بالغرض الذي نحن بصدده، حيث نوهنا إليها قبل قليل.
القاص حميد عمران الشريفي، في قصته القصيرة "وجوه راقصة" وهي من ضمن مجموعته "ألوان تسقط من كفي" وقد ضمت المجموعة ثمانية عشر قصة؛ وهي من اصدارات "أتحاد الأدباء والكتاب في العراق" لسنة 2023.
القصة لم تكن رمزية، بل واقعية تشير إلى عدة مفاهيم، وفيها اسقاطات كثيرة أسقطها الكاتب على مجتمعاتنا العربية عامة، وعلى مجتمعنا العراقي خصوصًا. وبطبيعة الحال، أن المجتمع العراقي – كغيره من المجتمعات الأخرى – يعج بأزمات نفسية وأخرى اجتماعية، لكونه مجتمع منوّع بأطيافه، وهذا التنوع خلق فيه قضايا كثيرة توصف بالسلب والايجاب معًا، منها ظاهرة وآخر باطنة؛ وكلها متأثرة بالواقع السياسي، وبالثقافات المستوردة من الخارج، البعيدة عن الثقافات المحلية، خصوصًا في العقود الخمسة الأخيرة.
نقرأ في مدخل القصة "استلقى الصبي على مصطبة قريبة من كابينة شرطي المرور التي وضعت للسيطرة على حركة سير السيارات في الشوارع المتقاطعة.. شعر بالراحة في ساقيه وذهنه، اتعبه الوقوف والصياح والتوسل بطرق زجاج السيارة وضوضاء الشارع التي لا تنتهي".
نلاحظ في هذه المقدمة (المدخل) كما يظهر مدخل بسيط وتقليدي؛ وكان يفترض بالكاتب أن يدخل دخولا اكثر قوة وجاذبية، حتى يكون له وقع على القارئ – المتذوق، بحيث يشدّه كي يواصل القراءة حتى النهاية، وهو مأخوذ الفكر، مستلب الذهن، يروم الوصول إلى النهاية بثيمة، حيث خطط لرسم فكرة عامة عنها، ولعله يسأل نفسه: هل تخطيطه أو حدسه مطابق للواقع الذي رسمه كاتب القصة مسبقا؟.
وعلى أية حال، نفهم من القصة أن الصبي، بطل القصة، كان يجيئ ويذهب، وهو قرب اشارات المرور يبيع الكلينكس (ظاهرة غريبة على المجتمع العراقي، وهجينة في الوقت، أفرزتها أحداث واقع مؤلم). الصبي المسكين لم يحالفه الحظ ببيع بضاعته، أو جزء منها على أقل تقدير، كما كان يطمح، حتى أنه أخذ بضاعته، بعد يأس، وهام على وجهه، وراح يلهو ويلعب في الشوارع، مبتعدا عن مكان البيع، ناسيًا نفسه، لأنّ اللعب أخذ منه كلّ مأخذ.
وعلى حين فجأة، يدخل الى الطرق والأزقة، حتى يصل محطة القطار، فقذف بنفسه داخله، والقطار متجه إلى اماكن لا يدركها الصبي، فما عليه إلّا أن راح يقذف ببضاعته في الهواء، وهو يراها تطير في لجة الهواء، كطيور تسبح في الفضاء.
القاص كان يرسم أحداث هذه القصة، مثل لوحة يكسوها الوجوم، من حيث مأساة هذا الصبي، وهو تعبير صارخ عن حالات كثيرة، تعصف في المجتمع العراقي، بل ولها مثيل آخر في معظم المجتمعات العربية؛ وإن كان القاص لم يعممها؛ لكن على القارئ النبه لابد أن يلاحظ ذلك بنفسه.
وفي ختام القصة، وهي ثيمة القصة، وفيها تظهر فلسفة القاص وابداعه، حيث يرمي اسقاطات واقع متضعضع، وفيه يعبّر عن حالات إنسانية، نجدها تتكرر، لكن بصيغ مختلفة، في كثير من المجتمعات، أي أنها ليست حالة انفرادية، اقتصرت على مجتمع بعينه، وهذا هو دور الكاتب – المثقف، حيث يقع على عاتقه، رصد كذا الحالات الإنسانية بهدف ايجاد الحلول الناجعة لها. فهل القاص الشريفي قد نجح في توصيل هذه الظاهرة، أم لم يستطع؛ ولندع القارئ الكريم يشاطرنا الرأي.