الشاعر حازم الشمري يرثي طفولته ويُودَّع عيديَّةُ العيد
داود السلمان
2023 / 12 / 6 - 13:03
إذا كان الشّعر هو الاحساس الداخلي، الكامن المعبّر، من خلال التدفق المنبجس من روح ومخيال، لمن يمتلك هذه المشاعر الناضجة؛ والاحاسيس المتدفقة، فأنّ الشاعر هو بمثابة الفنان النحات، الذي يبدع عمله الفني، أو المصور الفوتوغرافي الذي يلتقط الصورة الواضحة، أو الرسام الذي يرسم الطبيعة الخلابة (وكل هذا يسمى جمالاً). فالشاعر يصنع كل هذا الجمال من خلال أحاسيس متدفقة، وتخرج من طيات تلك الاحاسيس، مثل الصورة المجسمة، تحمل كل معاني السّمو الجمالي والجلالي معًا. وبهذا المعنى، فأن الشاعر أكثر من سواه، من يُصقل ترجمة المشاعر من هذه الاحساس، ترجمة حية، غير مواربة، لأنها رُسمت بأنامل صادقة نبيلة، تُعد فوق مستوى الابداع الذي ابدعته تلك الانامل، أعني لدى النحات والفنان والمصور، والسبب كون اولئك الفنانين، رسموا بمشاعر صامتة، أي من خلال النظر- الابصار، لكن الشاعر رسم صوره الشعرية من توهجات داخلية، وحريق جوانية، ألهبت تلك المشاهر، فحولتها الى صور شعرية، صادقة مُعبرة. وهذا هو الفرق، بين الشاعر الذي تكون ادواته المشاعر والمخيال والوعي والتفكر، وبين سواه من أرباب الفنون الأخرى.
وهذا ما قام به الشاعر حازم الشمري، من خلال هذه الصورة الشعرية، أنها صورة جسّمت كل هذا الذي نوهنا اليه في هذه المقدمة القصيرة. فهي مصداق صارخ، لما ادعيناه، وقد اثبتناه، من خلال وصف لهذه الابيات القصيرة، كمثال لصدق ما نقوله وليس ادعاء بلا مبرر. وهو ما صدح به الشاعر حازم الشمري في هذا النص:
(ما عادَ للعيدِ كفٌّ
كي أصافحَهُ
وودَّعت عيدَنا
عيديَّةُ العيدِ)
إنها ذكريات الطفولة، تلك التي غادرناها بصمت، بل الصحيح هي التي غادرتنا بلوعة، على حين فجأة، ولاذت بالصمت المبرح. الذكريات هذه، وإنْ كانت في احايين كثيرة، كان طابعها الألم والقسوة، والفقر والعوز والحرمان. لكنها تبقى ذكريات تطرق ابواب الذاكرة باستمرار، وتقرع الأحاسيس حين تمرُّ في خواطرنا، خصوصًا بعد أن غادرنا تلك المرحلة حيث لا عودة، فأصبحنا صبيان يافعين شبابًا، واخيرًا شيخوخة هرمة، تعشعش فيها الامراض في جميع صنوفها، كذلك انتابها النحول المقيت.
الشاعر رسم للعيد "كف"، أراد أن يصافحه، (صورة أتراجيدية) وهذا انزياح لا يستطع الركون إليه، والتعايش مع مدلولاته، الا الشاعر ذاته، فلو قالها أي شخص آخر سواه، مبدع، فنان، فيلسوف، مفكر، لا يصح له هذا القول (إلى حدٍ ما) ، حتى لو كان من باب المجاز، فالشاعر يجوز له ما لا يجوز لغيره، وعلى وجه الخصوص رسم الصورة المغايرة، المُعبرة، الممزوجة بالمعاني السامية، والقيم النبيلة، والالفاظ الجزيلة.
فـ "العيدية" هي فرحة الطفل في أول يوم، من أيام العيد، وهو يحصل على تلك العيدية، التي هي عبارة عن بعض النقود، التي نسعد بها، ونحن في أوج الانشراح والافراح الغامرة. وبتعبير آخر، العيدية تمثل لنا بهجة العيد، بل هي المعنى الحقيقي للعيد (فضلا عن الملابس الجديدة- الملونة، التي نجعلها تحت افرشتنا من الليل حتى صباح يوم العيد، ثم نرتديها منذ الفجر، في صورة لا استطيع أن اصورها، فهي بهجة لا توصل، ولذة لها طعم خاص) وبلا تلك العيدية لا يتم الفرح، ولم يكن للعيد معنىً حقيقي.
الذكريات، في حلاوتها وفي مرارتها، تكون ذكريات تعيد الشخص الى عالمه ذاك، العالم الرحب الجميل، تعود به الى تلك السني الشاهقة، الشاهقة بالبراءة بالبساطة، وبالسذاجة أيضا. الشاعر، هنا، عصفت به ريح الذكريات، فمزقت اشرعة الماضي، وعادت به القهقرى، فهاجت به الشجون والاحزان، وبالتالي افلت، كأن الحياة هي عبارة عن ساذج، بمشاعر خادعة. الحياة ليس فيها طعم، لا سيما بعد انتهاء مرحلة الطفولة، تلك الطفولة الجميلة، الخالية من النكد.. الحياة ظهرت على حقيقتها، إذ كنا لم نعِ مدلولاتها، ونحن في تلك المرحلة. الحياة هي غير تلك التي رسمنا لها صورتها في خيالنا، مثل فتاة حالمة، أنها حلم مبعثر لا نستطيع تجميعه. وقد عبّر عنها الروائي الكبير تولستوي أحسن تعبير، في كتابه "عن الحياة" يقول، بعد أن بيّن الفرق وبين الحياة الحقيقية والحياة المزيفة: "حياة الانسان الحقيقية هي تلك الحياة التي يؤلّف منها مفهوما عن كل حياة أخرى؛ أي السعي صوب الخير الذي يمكن تحقيقه بإخضاع المرء شخصيته لقانون العقل. لا العقل ولا درجة التبعية له يمكن أن يتحددا بالزمان والمكان. تكتمل حياة الانسان الحقيقية خارج نطاق الزمان والمكان" (تولستوي، عن الحياة، ص 93، منشورات الرافدين، ترجمة يوسف نبيل، الطبعة الأول لسنة 2022)
ويضيف تولستوي في كتابه "اعترافات" بقوله: "إن الحياة الحقيقية التي تكون بإرضاء الله ليست هي الحياة الماضية أو المستقبلة؛ بل هي الحياة الحاضرة أو ما يعلمه الإنسان في الدقيقة الحاضرة؛ ولذا لا ينبغي أن تتثبط عزائم كل واحد، بل يجب عليه أن يكون نشيطًا ذا عزم ثابت وإقدام لكي يحصل على الحياة الحقيقية، وغير مطلوب من الناس أن يحافظوا على حياتهم الماضية أو المستقبلة، كلا، إنما ما يُطلب منهم هو أن يحافظوا على الحياة التي يعيشون بها الآن ويُتمِّمون بواسطتها إرادة أبي جميع الناس، وإذا لم يحافظوا عليها وأهملوا الاعتناء بها والسير بحسب إرادة الله ووصاياه؛ فإنهم يكونون كذلك الحارس المعين لحراسة البيت طول الليل، فإنه إذا نام ولو بُرهة يسيرة؛ فإنه يكون أهمل واجباته؛ لأنه يحتمل أن يأتي السارق في تلك البُرهة ويسرق البيت؛ ولذلك يتحتم على الإنسان أن يوجِّه كل قوته إلى الساعة الموجود فيها، ويتمم بها مشيئة الله التي هي صلاح وحياة لجميع البشر؛ ولذلك فالذين يعملون الصلاح هم وحدهم يحيون". (راجع: الاعترافات، الطبة الأولى لسنة 2022 من منشورات مؤسسة هنداوي).
أيضًا، الشاعر حازم الشمري، يعترف، كما اعترف تولستوي، لكن الاعتراف هذا الشاعر الملهم، مختلف جدا عمّا اعترف به تولستوي، اعتراف الشاعر له طابع خاص، اعتراف يكمن في أن "المحبة" قد تغيرت، خصوصًا لدى بعض الناس لبعضهم، والقلوب هي ليست القلوب تلك، القلوب النظيفة المتحابة، الخالية من الحقد والانانية، والتكبر والغرور، ونكران الجميل. وسبب هذا التغير أن الزمن ما عاد مثل ذاك الزمن، ولا الحياة مثل تلك الحياة. الزمن قد غير النفوس وبدل القلوب، وصار الانسان يبغض اخيه الانسان، إذ تبدلت المحبة الصادقة الى حقد وقسوة، والى بغض مقيت. وهذا أجمل تعبير عبّر عنه الشاعر، فهو ترجمة حقيقية لما نمر به الآن، في زماننا الحاضر، نحن بنو البشر، الذين نعيش على سطح هذا الكوكب. وليس هذا فحسب، كما يعبر الشاعر، بل يرى حتى المواعيد تبدلت، يا ليتها توقفت عند المحبة فحسب، وانتهى الامر، وهذه ربما طامة كبرى. هنا الشاعر يبث شكواه بحزن وبتأسف، وبحسرة تنبثق من سويداء قلبه، وهذه من اقسى المحن، خصوصًا لدى الشاعر، حيث يكون فرهف الحس جياش المشاعر، إذ عنده الكلمة التزام، والموعد امانة، وهذه هي صفات جميلة من صفات الأخلاق.
(ولم تعد مثلما كانت
محبتُنا ولا مواعيدُنا
مثلَ المواعيدِ)
وماذا بعد لديك من محن وصعاب وشجن، قل ولا تبخل علينا ايها الشاعر، قل لكي نشاركك في المحنة هذه، لعلنا نخفف عليك من قسوة، وإنْ كانت محنة الانسان، في هذا الزمن، محنة واحدة، فلا تفاوت بين إنسان وآخر، في هذا العصر بل وفي كل عصر.
يقول:
(وغادرتنا
أراجيحٌ وأمكنةٌ
وشارعٌ فاضَ حباً بالزَّغاريدِ
إذ انها رحلت عنَّا
وما تركت في وجهِ فرحتِنا
غيرَ التَّجاعيدِ).
كأنما تلك كانت مقدمة، لما يريد أن يسرد، هذا الشاعر الحزين، ثم يتلو بما هو أشدُّ منه، من خطوب ومن ارهاصات، أراد أن يفضي بها تباعا، ويبثها للمجتمع ( حتى يعي لما يجري من حوله) لا يبثها للخواص فحسب، بل يريد أن يعممها، لكي تصبح قضية رأي عام، لأنَّ مثل هذه القضية لا يجب السكوت عليها.
يتكلم الشاعر، في هذا المقطع، عن تحول ملموس، من مرحلة إلى أخرى، بمعنى يشرح مراحل العمر التي يمر بها الإنسان، بل كل حيوان يدب على هذه الارض، لكن هنا خصوصية للبشر، فضلا عن الحيوان الآخر، فالمرحل التي يمر بها الإنسان، بعد المخاض العسير الذي تمر به الأم (هذا المخلوق العظيم الذي هو كتلة كبير من المشاعر الجياشة، لا سيما تجاه الأولاد والرسالة الموكلة لها، الواقعة على عاتقها) بعد طرح ما في رحمها من مولود، ذكرًا كان أم أنثى، يمر المولود بعدة مراحل، إلى أن يصل إلى الكبر، فالشيخوخة، فالهرم، واخيرًا ينتظر الموت ثم بعده الفناء "يامن قهر عباده بالموت والفناء" بتعبير الدعاء المعروف.
وخلال هذه المراحل المتعددة، التي يقاسيها الإنسان، يصاحبها: آلام ومعاناة وضنك وتعثرات وامراض، وغير ذلك الكثير. كل ذلك قد شكل عقبة شائكة في حياة هذا المخلوق، المتكبر المغرور الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه من ابسط فايروس يتعرض له بغتة.
وقد ابدع الشاعر في وصف هذا الحال، وصفا دقيقا، فهو هنا، أخذ دور الفيلسوف، ودور المؤرخ، ودور العالم الفيسيولوجي، بل وحتى العالم الاجتماعي، حيث فلسف حياة الانسان من خلال ابيات قصيرة، لكنها عجّت بمعاني سامية كبيرة.