أول الراحلين
مأمون أحمد مصطفى زيدان
2023 / 2 / 13 - 11:36
رأيتها يوم رأيتها، بالعين، بالقلب، بالنفس، تمسك النسمة برقة الفرح والحبور، بأنامل من ياسمين مقطر، تفتش فيها، تستل النعومة والطراوة، تقطف شعاعا من شمس تطل بخجل وحياء من بين ثنايا عتمة، تحشو النعومة والطراوة في الشعاع، وتستدعي النور من عينيها، يسيل برقة، تفتح له مسارات في العتمة، يتنفس الصبح أنفاس الحياة، تنثره على المسافات والفضاءات، تتنفس، يتنفس المجهول رحيق رضابها، فيزهر الغامض وردا تتفتح أزراره شذى يتورد تورد الإيمان باليقين، يكتسي اليقين بالإيمان، فينهض الهديل من سبات الليل، يتلاحم من صياح الديكة، مع غناء بلابل ترفع الوسن بابتهال وتسبيح.
رأيتها كلما رأيتها، تنادي النهار، ببحة صوتها المعبأ بالحنين، الموشى بالأنين، وحين يحط بين يديها العاجيتين، تهدهده بكل ما في الأم من رحمة، توشوشه، تخبره بنصيب الغروب منه في اللحظات القادمة، تنتشل الوصف من روح المعنى، تبثه في ضيائه، بحنو الرأفة، تهمس للشفق المتبوع بالغسق، تستدعي السكينة والهدوء، تبذرها في تدرج العتمة، وهي ممسكة بالنهار بلمى شفتيها، كي تنفخه حين يحين الرحيل في قلب الإياب، إياب الضوء من قلب العتمة التي تمددت بهدوء وخشوع في رنات صوتها وهي تنشد له أناشيد الإيثار والتضحية.
بالفجأة المنزوعة من الفجأة، رأيتها وهي تلملم الندى عن السويقات والتويجات والبراعم، عن هدأة الصبح وتيقظه وهو يتمطى بسحر التكون في حوصلة دوري يراقب حبة قمح تغتسل بالصحو، تبحث وفي يديها كومة من حبات ندى منداة برحمتها وشوقها، عن حبة تراب وحيدة يسكنها التوق للتندي، تحملها بين يديها، كطفل خرج توا من رحم، ترضعها ما لملمت من ندى، تعيدها برفق وهي تسقيها الشوق المضمخ برائحتها التي لا يستطيع الوطن بكل مكوناته البقاء على ما هو عليه من وطن، ما لم يشمها وهي تبثه الوجود والبقاء والمعنى والقيمة.
كان الليل يأتيها، قبل تسلل العتمة لقلبه، يهز رموشها، يبثها تحسبه من الظلمة، فتحمله بين أحداقها، تُحمله البصيرة والرؤى، وتزرع رؤى عينيها السابحة في الخفي المستتر تحت سهوم يمسكهما ليبدو عالما عصي على الفهم والاستيعاب والإدراك، تمد نظراتها للأعلى، بها تقطف النجوم، تحلب الشموس، تدير القمر نحو زوايا الشمس، كي يبقى في الليل المستجير بما فيها من كرم، ضياء يرشد الظلمة نحو منارات التجلي المنبجسة بالكائنات في أماكن سكنها وتخفيها.
كنت أرقبها وهي تتحدث، تهمس، تبتسم، تضحك، فأرى الطيور المهاجرة نحو آفاق جديدة، تلتقط الصدى الموزع في ذرات الفضاء والمدى، تستدير كلها دفعة واحدة، تغير اتجاهها، تنساق لرنين الصدى الذي يقودها نحو المرفأ الأكثر خصوبة، المكتظ بالخير، المحشو بالبركة، المنقوع بالجود، ترفرف، تزقزق، يعلو التوق ويشهق الشوق، تتبادل الأقمار دورتها، يتحول الجزر لمد، ويعود المد نحو الجزر، تخرج الكائنات من تحت الماء، تلتقط الصدى، تبدأ هجرتها نحو الرائحة المحملة في الشهيق، يتوقف التبخر لهنيهنة، مخطوف الأنفاس، يتبع الصدى فيحمل الماء نحو السماء، يدخله في قلب الغيم، يثقل، يتحول لمعصرات حبلى بالمياه الثجاجة، تتبلل الصحارى، تنتشر رائحة الشهيق، تنسل الكائنات من مهاجعها، تضج الحياة بالنماء، تورق الرمال، تخضوضر الكثبان، يتشابك المدى المفتوح فوق المسافات، تتحول الفضاءات خيرا يُسقط خيرا، تتباهى التناقضات بائتلافها في نواة الصدى والشهيق، صدى صوتها وشهيق رائحتها.
كنت أنا دائم الحضور في بحة صوتها، عمق الغريب الساكن سهوم عينيها العصية على العقل والمنطق، على المعلوم والمدرك، يوما كانت هناك، تحمل روحها على جناح ملائكة، وقلبها على بريق شعشاع من صبر لا يشبه سوى صبر الأولياء والأتقياء، في المسجد الأقصى، ترابط مرابطة الأتقياء الأنقياء، تركع وتسجد، تحمد وتسبح، تشكر وتدعو،
قالت: "خيا حبيبي، أبو المعتصم، الآن صليت، دعوت الله لك ولأولادك، طمني عليك يا حبيبي، على أولادك، سلم عليهم جميعا، الله يحميكم ويخليلي إياكم".
من لسانها سال الشهد، ومن عيني سالت الدموع، من قلبها فاحت روائح الأقصى، من قلبي نزف الحنظل، من روحها تطاير شذا المعراج، من روحي فاضت مرارة المرارة، صوتها تشابك مع الآذان، صوتي وقع في قاع بئر مهجورة، وصلني التسجيل المرئي، كانت تلوح بيديها، وفي ملامحها فرح يستغيث بفرح، وصدق يستجير بصدق، على قسماتها كل خرائط اللهفة ومعاجم اليقين، مثل طفل صغير ناغته الفطرة وكتبت على تقاسيمه البراءة التي تفتت الرواسي والراسيات، كتلة من نور متدفق من نور، وضياء يلوذ بالضياء.
حملت دعوتها ورحت أركض وأركض، أتجول بين أحزاني التي تتكالب وتتعاظم، بين أسى يمزق نياط القلب، وكرب يولد من كرب، لهثت بين شدة وشدة، تشد على الروح، وضيق يضيق بذاته، كطيف ممسوس، مقدود من وجع وألم ونصب، من رهق منحوت من رهق، من وجع يئن وجعا.
ماتت أختي، تاج وجودي ودرة عمري، مات الصوت ومات الصمت، مات الرعد ومات البرق، فقط صدى في تسجيل مرئي وسمعي، يهاجمني كلما أنست هدأة في النفس أو الروح، يحثني على التجمر والتوقد والتمخض، مات الدعاء الذي كان يتلحف ظهر الغيب، صدر السر، ناداني الخريف بأنين ناي يبحث عن خضرة، عن خير، عن بركة، وجاءت السماء تبكي مطرا منهلا فائضا باللوعة، نُهب ماء العينين، وجاء الصيف يُجففني، يُنشفني، كعود لا يقوى على حمل نملة أو نحلة.
أول الراحلين من معنى الأشقاء، من فيحاء الظل والطل، أحن الأشقاء، أفضل الأشقاء، أغلاهم وأنفسهم بالخلق والخُلق، خيمة الطيبة والوفاء، سقف المحبة المنقاة من الشوائب، المغسولة حتى السويداء من الأنانية، المُطَهِرة للطهارة، المنزهة للنزاهة، هي الجذر والساق والفرع، الأصل والأصالة، الأم والأب، الأخ والأخت، الشقيق والشقيقة، الأبن والأبنة، الحفيد والحفيدة، هي الدنيا والدنا، الكون والأكوان كلها، النفس والقلب والعقل والروح، أول البدايات، وأول النهايات، فيها أناي وأنيني وأناي، ذاتي وعشقي وذاتي.
ماتت أختي، يا كون هل تسمع؟ ماتت أختي، يا شمس، يا قمر، يا صبح يا مساء، ماتت أختي، هل تصدقون؟ صبحية الحياء والعفة والخفر، اختارت الرحيل، اختارها الرحيل، هكذا، بخطف البرق تلاشت، ذابت، تبخرت، غابت، وكأن الغياب كان ينتظرها منذ الميلاد.
لمن سأقطع المسافات الآن؟ لمن سيتحرك لساني عن لفظ غاب في الغياب؟ لمن سأقول وأصرخ وأنادي، يا أختي؟ وأختي؟ وأختي؟ لأي حجر سألجأ يوم تعضني الأيام؟ لأي صدر سألقي برأسي يوم تذبحني الأشواق؟ لأي قدم سأخفض هامتي ورأسي وأنا أتفجر عزة وكرامة؟ لمن سأهمس، يا حبيبتي؟ وحبيبتي؟ وحبيبتي؟ من سيناديني ببحة الصوت الذي يقطر ولها؟ يا حبيبي، وحبيبي، وحبيبي؟
" مهداة إلى من فتحت القلب على منافذ الروح، ورسمت بصوتها المعاني والدلالات والصور، صنو روحي وسويداء قلبي، إلى أختي التي اختارها الرحيل فاختارت الرحيل كي لا تؤذي إحساساته، إلى أختي صبحية أحمد مصطفى محمد زيدان، صدقة جارية بإذن العفو الغفور تشملني معها إن شاء ربي خالق الموت والحياة"
فلسطين- مخيم طول كرم