مستقبل الإشتراكية


أحمد زوبدي
2022 / 12 / 26 - 00:51     

مستقبل الإشتراكية /


كيف يمكن التفكير في ( إعادة) بناء الإشتراكية بعد فشل الإشتراكية القائمة بالفعل ؟
سؤال معقد جدا خاصة أن جل إن لم أقل كل من يساهم أو يجتهد في مجال الإشتراكية وإعادة بنائها فكرا وممارسة لم يستطيعوا أن يثبتوا الأدوات الدامغة للوصول إلى هذا المبتغى أي بناء مجتمع اشتراكي عادل في أفق الانتقال الطويل إلى الشيوعية. مثال المشروع الفكري عند كل من آلاه باديو ( Alain Badiou) وسلافوج زيزيك ( Slavoj Zizek )، على سبيل المثال لا الحصر، كما سنرى لاحقا.
هناك من لم يقتصر اجتهاده على الفكر لكن له امتداد مشروع سياسي مثل سمير أمين. أمين يقول أن الرأسمالية تهالكت وأن تجاوزها رهين باضمحلال قانون القيمة ( dépérissement de la loi de la valeur) المعولم وأن الانتقال إلى الشيوعية يطول وبالتالي فمرحلة الانتقال تستدعي في المقام الأول بناء البديل الوطني الشعبي( alliance nationale et populaire) وأن الأداة التي تقوم بهذه المهام التاريخية هي الشعوب.. وليست الطبقة العاملة، كما يظن البعض ( الطبقة العاملة وحزبها سيكونا جزءا من هذا التحالف الشعبي). في هذا المنحنى، سمير أمين لا يستبعد بل يقر بقيام الثورات التي تقوم بها الشعوب إلى جانب تبني المعارك السياسية على كل الواجهات من قبل القوى اليسارية والتقدمية، مع العلم أن الثورة (أو الثورات) ستقابلها الثورة المضادة أكيد والتي ستتم تعبئتها من طرف الرجعية والامبريالية ولو كلف ذلك إبادة البشر.
في سجل آخر وهو المهيمن، الكتابات في مجال الإشتراكية تكتفي بعرض تاريخ الفكر الاشتراكي ومعه التجارب الإشتراكية وبالتالي تعتقد هذه الكتابات أن شروط اشتراكية جديدة غير متوفرة بحكم هيمنة الرأسمالية وبالتالي فإن مستقبل الإشتراكية يبقى غامضا وأن المهمة الأولى اليوم هي العمل على توفير شروط الدولة الإجتماعية ( État social) وديقراطية ما بعد الحداثة في ظل الرأسمالية. هذه الرؤية التي يخيم عليها الكسل الفكري والردة تكون قد تمت إقبار مشروع إعادة بناء الاشتراكية وبالتالي التخلي عن توفير شروط تجاوز الرأسمالية المتهالكة.
فريق آخر من المفكرين الذين نحثوا بعض الأفكار حول شكل الإشتراكية التي ستعيشها البشرية في المستقبل غير المنظور، أكدوا على أن هذا المشروع يلزمه الكثير من العمل المضني أي ضرورة العمل على هدم بنيات الرأسمالية على المدى الطويل أي تغيير شكل التراكم الذي يهيمن عليه التراكم الرأسمالي الصرف في اتجاه إضفاء الطابع الإجتماعي عليه عوض الطابع الاقتصادي أو قل الاقتصادوي (économisme). تبقى إذن تعبئة كل الوسائل المتاحة لأجل تجاوز هيمنة منطق الاقتصاد أو المصلحة أو الربح أو النفعية في اتجاه تغليب منطق المصلحة الجماعية، يعتقد أصحاب هذه الرؤية. أعتقد أن هذه الأفكار لا ترقى إلى مستوى الوصول إلى الهدف المنشود أي بناء الإشتراكية لأن الإشتراكية لا تتوقف عند المستوى الإجتماعي وحتى الاقتصادي( سياسة التخطيط الإجباري مثلا) بل يكون فيها العامل السياسي العامل الحاسم في سيرورة التغيير و بالتالي فالمشروع هذا لا يختلف عن مشروع المفكرين الاشتراكيين الديموقراطيين والديموقراطيين الاجتماعيين ومنهم حتى بعض المفكرين الليبراليين المتنورين بدءا بآدام سميث أو ريكاردو أو ستيوارث ميل مرور بميردال وبيرو وهيرشمان حتى أمرتيا سين. أفكار لا يستغني عنها الباحث العلمي، لكن بناء الإشتراكية يستدعي تجاوز منطق السوق أي الاستلاب السلعي الذي أدى إلى استلاب السلطة (fétichisation du pouvoir).
هل إعادة بناء اشتراكية ( الجديدة) المستقبل رهينة بإنقاذ الماركسية انطلاقا من نصوصها من خلال تجاوزها من الداخل( النقد من الداخل لتطويرها أو تجاوزها ) أو العمل على تجاوزها والقطع معها في أفق البحث عن مشروع فكري وسياسي يؤسس لاشتراكية ليست بالضرورة ماركسية وليست كذلك اشتراكية اجتماعية أو اشتراكية ديموقراطية ؟ يقول في هذا الإتجاه الفيلسوف كلود موريلهات (Claude Morilhat) أن فكرة الشيوعية تتأرجح بين رؤتين : الأولى أن شيوعية ماركس هي رؤية من الرؤى الممكنة في الشيوعية ويتعين فهمها كلحظة من حركة شاملة. هذه الأطروحة يعبر عنها كل من باديو و باليبار ( Étienne Balibar)؛ أما التوجه الثاني والذي يقوده زيزيك ولوسيان سيف( Lucien Sève) و اندري طوزيل (André Tosel), فإنه يقول أن التفرد الراديكالي(singularité radicale) لفكر ماركس يكون نقطة الانطلاق النقدي الراهن لأفق يستدعي تعديله في النظرية كما في الممارسة.
هناك من يحاول الحفر في النصوص معتبرا أن الصراع الطبقي والطبقية وتناقض المصالح وبلترة الطبقات الشعبية والطبقة العاملة وحزبها، كل هذه الترسنة المفهومية تكون مفتاح لمشروع سياسي بديل، أي اشتراكي، وذلك انطلاقا من زاوية أن الرأسمالية حولت اليوم الإنسان إلى بضاعة وأصبح الاقتصاد هو محرك كل مناحي الحياة البشرية من خلال تركيز الثروة في يد الطبقات الغنية و أن الثورة الرقمية من المفروض أنها تقوم بتغيير علاقات الإنتاج توافق حجم القوى المنتجة ولم تفعل ذلك بحكم ضعف القوى المناهضة للنظام الرأسمالية. الحفر في النصوص يستدعي تفكيك النصوص إياها واقتراح برامج عمل فكرية جديدة وإلا أن أصحاب هذه الأفكار سيتم تصنيفهم ضمن الفكر الكنائسي والأصولي.
انهيار الرأسمالية سيكون لا محالة لكن ليس في المستقل المنظور لأن الرأسمالية الإمبريالية تحولت إلى فاشستية وبالتالي تمكنت من أن تطيل عمرها خاصة مع انهيار التجربة الإشتراكية.
الصين الشعبية التي انطلقت ثورتها ثورة شعبية اشتراكية وتمكنت من فك الارتباط مع التراكم الرأسمالي، عرفت تحولا كبيرا، بعد انهيار المعسكر الشرقي الذي التحقت الأغلبية الساحقة منه إلى حضيرة المعسكر الغربي، وانتهجت اشتراكية جديدة اسمها اشتراكية السوق( socialisme de marché) مع الاحتفاظ بالتخطيط( الإجباري)، أي الربط بين ملكية الدولة ( وليست الملكية الجماعية) والقطاع الخاص ( للمزيد راجع ,Rémy Herrera, La Chine est- elle capitaliste ( 2019. في هذا الباب هل يحق للصين أن تصنف دولة اشتراكية تترجم مشروع اشتراكية المستقبل ؟ هذا سؤال كبير، صعب وشاق يمكن الاضطلاع على عناصر إجابة عليه هنا وهناك، لكن تبقى إجابات في حاجة إلى عمق نظري وبالتالي فالشرط الأساسي لترقى الصين الشعبية إلى مقام دولة تحمل مشروع اشتراكية المستقبل، فضلا عن موقعها الاقتصادي-الجيواستراتيجي في النظام-العالم الذي أكدت فيه على أنها قوة في طريقها إلى تغيير ميزان القوى، من موقع دفاعي إلى موقع هجومي، لصالح دول البريكس( BRICS) ودول أخرى في نفس المعسكر مثل فينزويلا وكوبا وطبعا كل دول الجنوب، هو الاحتفاظ بالثراث الماركسي والماوي واللينيني وكل الأعمال الكبيرة التي ساهمت في هذا المجال فكرا وممارسة مع تفكيك هذا الثراث وتطويره وتحديثه في ضوء مشاكل العصر. هذا المشروع الإشتراكي الضخم المتنور يبقى البديل الوحيد للديموقراطية والعدالة والتحرر.