قراءة في مذكرات محسن الشيخ راضي ج2
كاظم الموسوي
2022 / 12 / 9 - 02:33
حمل الجزء الثاني من مذكرات السياسي العراقي الدكنور محسن الشيخ راضي، مثل الجزء الاول عنوانا ثانيا، بعد العنوان الرئيس: كنت بعثيا، وهو، القطيعة والحل الاوحد- حزب العمال الثوري العربي. وهو الموضوع الابرز في هذا الجزء من المذكرات، وفي كشف تجربته في العمل الحزبي وانتقالاته في الاطار القومي العربي. في الوعي والتجاوز والقطيعة وبدايات العمل وما آل اليه، مصيرا وتجربة وخبرة للتاريخ.
حرر المذكرات في جزئيها وعلق عليها د. طارق مجيد تقي العقيلي، كاتبا مقدمة احتلت عشر صفحات من الكتاب، والتي بلغت 189 صفحة من المذكرات، موزعة على فصول مرقمة من 1 الى 21 سجلت ما اراد السياسي العراقي الدكتور محسن الشيخ راضي ان يدونه فيها ويريح نفسه من اثقال التاريخ واعباء السياسة في بلده العراق. اضافة الى ملاحق، من صور شخصية بالاسود والابيض، وبعضها لولا التعريف بها لا يعرف محتواها، ومعها نص مصور تحت عنوان: حزب العمال الثوري العربي، الابحاث التي دارت حول المجلس القومي لحزب العمال الثوري العربي، تشرين الثاني 1965.
لخص د. العقيلي في مقدمته كما في الجزء الاول محتويات الكتاب ورأيه فيها وتعليقاته حولها وقد تكون بعضها موضع نقاش ايضا، ولكنه في النهاية استمد من جرأة صاحب المذكرات وشجاعته في النقد والاعتراف بالاخطاء والخطايا التي عاشها، من موقع المسؤولية فيها او الممارسة الفعلية لها عمليا، او اتهاما بها، كما وصفها، لمواصلة الكتابة والنشر والرصد بالمواصفات ذاتها، واعتبارها سمات لمؤلف المذكرات، التي ميزّته ووضعت ما نشره امام الجميع، ممن كانوا معه في العمل السياسي والادارة الحزبية والتحولات الفكرية التي مرّ بها، فردا وتنظيما، وهو ما رصده المحرر ايضا وعلق عليه. ورغم ذلك شعر المحرر بخيبة امل من الصمت او التهرب عن كشف الحقيقة وسرد الوقائع كما حصلت او ما انتجت من تداعيات، من الاحياء من رفاق المؤلف او معايشيه. "او من القيادات البعثية الادنى التي عاصرت وشاركت على مستوى الاحداث الواردة في المذكرات، على وصف انها تاريخهم السياسي وتاريخ حزبهم، وهم الذين صنعوا مواقفه ووقائعه، لكي يساهموا باضافة المزيد من المعلومات التي لا زالت ذاكرتهم تختزن اسرار الاحداث، لاسيما احداث انقلاب 8 شباط 1963. لكنهم التزموا الصمت وآثروا السكوت لحد الان. وحسب اعتقادي ان جراة المذكرات وصراحتها بنقد قاس على دموية ممارسات الحزب، وتعرية نبي البعث والتقليل من قيمة اناجيله، قد شكلت صدمة لهم" ( ص9). وما اشار المحرر له في وصفه هذا عموما، كما يبدو، لا يتوقف عند طرف واحد، وانما يرتبط بالثقافة السياسية وطبيعة المجتمع وقدرات القيادات في تلك الفترات والظروف، واستمرارها بشكل او اخر، مما يطرح اسئلة اخرى، وانتظار اجابات صريحة وجريئة، كما حصل في المذكرات من كل الفداعلين السياسيين في الحركة الوطنية والقومية.
تبقى في الجزء الثاني والاخير من المذكرات، ومع تقدير المحرر، " الحقيقة ملك القاريء الواعي المتجرد عن الاحكام المسبقة او سلطة ايديولوجية منغلقة على ذاتها" (ص7). ويوجه اسئلة موضوعية او يحكم بتعليقاته وهوامشه على مجريات فصول الكتاب، وخصوصا الاساس منها بما تعلق بمسار التحولات الفكرية لدى المؤلف والمجموعة من قيادا ت حزب البعث معه، وما انتهت اليه، سواء بمؤتمرات او باعلانات ومسميات اكدها في العنوان الثاني، القطيعة والحل الاوحد. وهو موضوع المذكرات الاساس وتعليق المحرر عليه في التقديم والهوامش العديدة التي افصح المحرر عنها في منهج عمله في الكتاب بجزئيه. ومنه تساؤله عن التحولات وتجربة المؤلف فيها ومن استنتاجاته على الابرز منها في هامش ص 44 حيث كتب: "ولد حزب العمال الثوري العربي ميتا منذ لحظة تاسيسه". وهذا حكم لسؤال مهم يطرح بعد قراءة المذكرات ومسار التجربة واهمية ما ورد فيها وعنها، ليس في شؤون حزب البعث وحده، بل وتاريخ العمل السياسي العربي عموما، وارتباطه بالتشكيلات الاجتماعية والطبقية في المجتمع العربي والتحديات التاريخية ودور القوى الامبريالية الخارجية.
اختصر المحرر في تقديمه الجزء الثاني والاخير بفقرة معبرة، و براي له في المذكرات ايضا، "التي يسجل (المؤلف) فيها لمرحلة ثانية من حياته السياسية بعد فصله مع رفاقه البعثيين من حزب البعث العربي الاشتراكي الذين شكلوا من داخله وبموازاته تيارا وحزبا بعثيا يساريا يتناقض كليا مع يمين البعث ومناهضا لتوجهات ميشيل عفلق وكافرا بقيادته القومية اليمينية، ثم تبدا تدريجيا مرحلة نضج فكري وسياسي اخرى تتحول فيه مجموعة من البعثيين اليساريين عن قناعة لمغادرة حزب البعث العفلقي ونبذه كليا وشطبه نهائيا من قاموسهم السياسي، ليتحولوا نحو اعتناق الماركسية اللينينية ويتبنوا شكلها العربي بعد تعريب اسسها وافكارها بما يخدم توجه التطلعات القومية العربية، حسب اعتقادهم، ايذانا بتاسيس حزب العمال الثوري العربي". ويختمها "ولعل الكثير من العراقيين وربما بعض المتخصصين بتاريخ العراق المعاصر الذبن عاشوا الانغلاق الفكري والسياسي في ظل سلطة حكم البعث الثاني لم يطرق مسامعهم بوجود هذا الحزب في العراق" (ص ص10-9). وواصل المحرر انصافا لعمله ومحتواه في السؤال عن الدور والفاعلية والنتائج التي انتهت اليها مسيرة صاحب المذكرات وتياره وحزبه، حسب وصف الكتاب واصداره ومواصفات الجرأة والتجاوز والتميز بالروح القومية والوعي الوطني والاجتماعي.
بدأ المؤلف فصله الاول، او الرقم واحد من تسلسل المذكرات، بعنوان: ما بين الماركسية والقومية.. المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس، مبينا اهمية المؤتمر ومنطلقاته التي كتبها وطرحها المفكر الماركسي القومي ياسين الحافظ، كما عرّفه، وقناعاته مع مجموعة اخرى فيها وفي التحولات الفكرية التي حصلت في المؤتمر والحزب. واستمر حتى الرقم السادس من مذكراته في استعادة تلك الصراعات والتحولات التي كشفت نوعها وتطورها وتعمقها في قراءة الواقع ومتغيراته والايمان بضرورة التجديد والتجاوز والانحياز الى اليسار، فكرا وتنظيما. (هذه التحولات، واعلان تبني النظرية الماركسية اللينينية، عند فصائل التيار القومي العربي، التي عرفت به، في تنظيمي حزب البعث وحركة القوميين العرب بانقساماتهما وتعدد مسمياتهما، تحتاج الى قراءة وبحث ودراسة، في الاسباب والنتائج، في الوعي والنضج السياسي والفكري). وقدم فيها شهادته عنها، وتفاصيل منها للتاريخ، "وعلى اي حال، رغم ان الحزب في بدايات تاسيسه الاولى كان غني ! بثقافة الفكر السياسي ومعبأ بالعقائدية لكنه ضعيف في الجانب التنظيمي، ورغم انه ليس انشقاقا عن حزب البعث انما كان انتقالا وتحولا عقائديا وفكريا بحكم الضرورات التاريخية والمراجعات.. "(ص 44). ورغم كل ذلك لم يتمكن قادة الحزب من بنائه وتقدمه، وقد نعاه المحرر كما اشير سابقا. وظل الحزب والمؤلف في صراعات داخلية متواصلة مع الحزب الاول الى الانقسام والى التجاوز. واعترف: "ان المشكلة التي واجهت حزب العمال الثوري العربي في الجانب الحركي والتنظيمي، فضلا عن عدم قدرتنا على تنضيج افكاره العامة عمليا رغم قوتها الفكرية والعقائدية، انه قائم منذ بداية انطلاقه على الشللية والتكتل.." (ص 50).
اصيب المؤلف بعد هذه التجارب الفاشلة والضغوط المتنوعة بالاحباط، والاخفاق السياسي، كما وضعه في عنوان الفصل او الرقم السابع، والعودة الى العراق. وشعر "ان الحزب قد خيمت عليه النخبوية، والافلاس في القواعد الجماهيرية العمالية، حتى ادركت وكانها مقدمات لبدايات انحسارنا السياسي عن الساحة السياسية في العراق" (ص 65). فضلا عن تفشي امراض اخرى، رغم عقد مؤتمرات ولقاءات ومحاولات تجميع الكادر الحزبي، في العراق وخارجه. وتلك تجربة حزبية سياسية عربية سجل احد اركانها ما عاشه فيها وما تركت عنده من تداعيات، كما اشار الى الاختراقات الخارجية وادارتها العمل الحزبي والسياسي والى ادوار افراد في القيادات الحزبية، في الانقلابات والممارسات الدموية التي طبعت تلك الفترات من التاريخ السياسي. "على العموم، لقد ادركنا بان نجاح انقلاب 1968 المشبوه كان بارادة دولية تقف وراء دعمه" (ص86). ولصراحته في المذكرات افاد عن مرحلة تحوله من النضال السياسي الى البحث عن امل شخصي، السفر والدراسة وقبلهما الزواج، ومن ثم التفرغ الى العمل الاقتصادي، وختم المذكرات بالموقف الحاسم من احتلال العراق عام 2003 وتثبيت موقف واضح منه والمتخادمين معه، وما نشره في الفصل الاخير، او الرقم 21 برنامج عمل وتقدير موقف من الفترة التي تلت الاحتلال وموقفه منها.
قدمت السيرة الذاتية وفصول المذكرات وملاحظات وتعليقات المحرر ايضا، اعترافات جريئة لقائد حزبي وسياسي عراقي، خاض الصراعات اليومية وشهد لمسار الحركة السياسية وسجل شهادته الشخصية، فيها وعنها، ونشر فيها خبرته التي استخلصها منها للتاريخ وللاجيال التي لم تعشها. وحملت بين طياتها دروسا عن دور القيادات في الاحزاب والحركة السياسية، وعن طبيعتهم وطبعهم في القيادة الحزبية وادارة الدولة، ومجريات ما حصل وما دفع بالاوضاع الى ما نحن عليه الان. منذ غياب الحياة السياسية الديمقراطية وخداع الشعارات الحزبية وفشل اغلب من تسلم السلطة في ادارة الدولة وضياع بوصلة الحس الوطني وشيوع التخادم الاجنبي وتفشي روح التسلط والاستبداد والدكتاتورية والتسقيط والمخبر السري (الحزبي) وتقارير الانتهازيين والنفعيين الانتقامية وكتابات فاقدي الضمير وتشوه المواقف والمصالح والقدرات والاخلاق، كلها اثرت على المشهد السياسي في العراق، وما تزال.. ومن هنا فتسجيل المذكرات عموما، ونشرها، ومنها هذه المذكرات مهم وضروري في الشهادة للتاريخ وتحفيز الذاكرة وتصحيح ٱلاراء والاخبار وإنعاش الحوار الموضوعي بوعي ديمقراطي والصدق والوفاء الانساني لبناء الحاضر والمستقبل.