نقد (محدش غيرى) د.ابوزيد بيومى


اشرف عتريس
2022 / 11 / 23 - 13:24     

"محدش غيري"، ليست هذه الجملة مجرد عنوان، بل هي نقطة انطلاق مركزية، يوزعها الشاعر بين ثنايا ديوانه،
لتصبح جزءا رئيسا من فنيات العمل. إنها تنفي الآخر منذ البداية،
لتصنع من الذات الشاعرة بؤرة تدور حولها كل الرؤى التي تحملها النصوص،
والتي هي في الأصل نص واحد ممتد، إلا أن عبارة "محدش غيري" تجعل منها فواصل معنوية،
بين مشاهد يطرحها الشاعر أشرف عتريس،
ليقدم من خلالها سيرة ذاتية، لكنها تختلف عن السير الذاتية التقليدية، في أنها سيرة ذاتية خاصة بالجوانب الشعورية،
التي تصبح شاخصة أمام الجميع في صورة لفظية، وكأن عبارة "محدش غيري" تضيف تشخيصا لفظيا لهذه السيرة.
إن الشاعر يعي تماما الإضافة الفنية التي قصدها منذ البداية، فإذا كان ينفي الآخر من ناحية،
إلا أنه من ناحية أخرى يورطه في التحالف مع المعنى المطروح،
حين يقدمه من خلال رؤية تبدو ذاتية، لكنها ذاتية تدفع ذلك الآخر للوقوف في البؤرة الشعورية نفسها،
من خلال إعلان الشاعر بطريقة غير مباشرة، أنه صادق في نواياه ،إن الشاعر يصنع عالمه الخاص،
من خلال مشاهد يومية معتادة، لكنه يخرجها من اعتياديتها، من خلال مفارقات، تقوم على لقطات بسيطة في صورتها الظاهرة،
إلا أنه يبطِّنها من خلال لغة الشعر باستخدام جمل تعيد إنتاج دلالة المشهد
وإذا كان الشاعر يقدم هذه المشاهد اليومية، بطريقته الخاصة، التي يؤمن بها، التي تحمكها الرؤية الذاتية،
إلا أنه يشعر من حين لآخر بحاجته إلى تقديم مبررات لهذه الرؤية. خاصة مع شعوره بالغربة الذي أفصح عنه منذ البداية
من خلال عنوان الديوان، هذه الجملة المحورية التي ينطلق منها من حين لآخر، إن هذا الشعور بالغربة هو الذي يدفعه لأن يوظفها فى
عبارة استفهامية، يبحث من خلال الإجابة عنه، عن الجانب الوجودي، ليس للشاعر فقط، بل الجانب الوجودي لكل شاعر صاق،
بل للإنسان عامة، خاصة في هذه الحياة التي غطتها آليات مادية، قتلت الجانب الشعوري في كل كيان، فقتلت معها الحياة الطوباوية،
التي هي البؤرة التي يدور في فلكها عتريس
إنها الضريبة التي يدفعها الشاعر، حين يجد نفسه وحيدا، فلا أحد يشعر بهزة يده على المكتب،
حين يسطر أفكاره التي تحمل عالما من الخيال، ليواجه به عالما بعيدا كل البعد عما يحلم به.
إلا أنه رغم إحباطاته، يتمسك بالأمل في أن يأتي من يؤمن به وبأفكاره من تلاميذه أو أبنائه، ليشكل امتدادا،
يشبه ذلك المدق الذي اختاره ، منذ البداية، أن يسلكه بين الجبال على وعورته وصعوبته، والذي دعا إليه من يحبه أن يصاحبه فيه
إلا أن الشاعر من جهة أخرى، رغم إيمانه برؤيته للعالم من حوله، يكشف عن لحظات ضعفه،
التي لا يعرف أحد من المحيطين به عنها شيئا، وكأنه حرفيا يورط الآخر معه في جانبه الإنساني المشترك،
وكأنه يستقطب المتلقي، إلى قضيته الكبرى "الإنسان"، فهو بشر كأي بشر، فلماذا يبقى رغم هذه الجوانب المشتركة،
يبقى على وحدته، ولماذا لا تتفق وجهتهم، إلى يوتوبيا يعيش فيها الجميع، بلا صراع ولا أطماع ،
إن هذا الذاتية رغم قوتها وصلابتها، يضطر صاحبها لأن يرغمها على التعايش مع الواقع،
لأنه إنسان على كل حال. هو يرغب دائما في قراءة الواقع، والتقاط مشاهده، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال ذلك التعايش.
لكنه تعايش يحيط به الوعي، الذي يجعل يصاحبه يعلن في أريحية واضحة أمام الجميع،
"محدش غيري"، إنها العبارة التي لا يقولها إلا الصادق في مشاعره،
الثابث على مبادئه، هو يدخل هذا العالم، لكن لا يسمح للعالم أن يخالط صدقه مع ذاته، ولا أن يشوه هذا الاتساق معها،
إن هذه المشاهد الخاصة، لا تنفصل عن المشهد العام ،
وهذه الهزائم المتكررة، على مستوويها العام والخاص،
هي التي تدفع الشاعر في كل مرة أن يعلن صراحة، أنه مضطر إلى العودة إلى الذات،
وكأنه يريد أن يواجه العالم من حوله بقوله : "محدش غيري". لكنه في الوقت نفسه يقدم معالجة فنية،
من خلال الشعر، الذي يفكك فيه تفاصيل الواقع، ليقدمها بصورة تبدو بسيطة في لغتها، باستخدام المتداول منها،
بينما هي عميقة في دلالالتها، حيث يعمقها الشاعر بطرح الجوانب الشعورية، التي تحمل رؤيته للعالم، وهو في هذا المزج المتميز،
يستدرج المتلقي للوقوف معه في بؤرة شعورية واحدة. دون أن يدخل معه في جدل عقيم.
ذلك الجدل الذي طغى على الساحة، فغامت معه الرؤية.
إنها خبرة الشاعر أشرف عتريس الذي استطاع أن يقدم مسرحا معنويا، تدور عليه الأحداث،
ليمكِّن كل واحد من رؤية الواقع بشفافية وحيادية. بل ويمكِّن كل واحد من رؤية ذاته بصدق.
فهذه المشاهد التي تبدو ناعمة في لغتها، هي في الحقيقة، لاذعة في معانيها، صادمة في مراميها،
تتغلغل في جوهر الذات البشرية لتقدمها واضحة، مكشوفة من جميع جوانبها.
وسوف نعاود القراءة لاستكمال مايطرحه عتريس فى ديوان الذى يدفعنى للاحتفاء به منفردا ومشاركا اياكم تلك البهجة ..