مقالات نظرية (ماذا يقول ماركس في رأس المال)؟ ساندرا بلودوورث .
تيار الكفاح العمالى - مصر
2022 / 9 / 15 - 18:34
يستنتج ماركس قرب نهاية المجلد الأول من رأس المال، بعد سرد طويل للتحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، أن "الرأسمالية وُلِدَت وهي تقطر دماً وقذارة، من جميع مسامها". شرح ماركس في مقدمة الطبعة الأولى أن هدف الكتاب هو "أن يكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث". الكتاب ليس بالأطروحة المملة التي قد يوحي بها العنوان، ولكنه مليء بالمراجع الأدبية، والطرف، والكره العميق للرأسمالية. وتنضح الصفحات بتعاطفه مع العمال المُستغَلين من الطبقة الرأسمالية.
تعرض المجلدات الثلاث منهج ماركس في "الانطلاق من المجرد إلى الملموس"، ويبدأ المجلد الأول بتحليل السلعة. هذا ليس تجريد عشوائي، فهو يمسك بالصفة المحددة والمُعرَّفة والفريدة للرأسمالية، وهي إنتاج السلع على نطاق واسع للتبادل في الأسواق. ومن نقطة الانطلاق هذه، يفصل ماركس نظرية قيمة العمل، والتي تجيب عن تساؤل في قلب الرأسمالية، وهو ما العامل المشترك بين السلع المختلفة، مثل الملابس والآلات والطاولات والكتب، والذي يتيح إمكانية مقارنتها ببعض في السوق؟ لا يمكن أن يكون العامل المشترك هو القيمة الاستعمالية لأن لهم استعمالات مختلفة كليًا. العامل المشترك لأي شيء ينتجه البشر هو مقدار العمل المبذول في إنتاجه. ولكن كيف يمكن مقارنة الأنواع المختلفة من العمل الملموس المبذولة في إنتاج السلع؟ طرح ماركس أن ما يمكن مقارنته هو العمل المجرد ويمكن قياسه بـ"وقت العمل الضروري اجتماعيًا" أو مقدار الوقت الذي يحتاجه عامل متوسط المهارة والإنتاجية لإنتاج سلعة. يفترض ماركس في هذه المرحلة أن العمل المجرد يحدد القيمة التبادلية للسلع "إذًا، ليس لقيمة استعمالية ما أو شيء نافع ما، من قيمة إلا أن ثمة عملاً بشرياً مجرداً قد تشيّأ أو تجسد فيها".
تجبر المنافسة في السوق الرأسماليين باستمرار على محاولة إنتاج السلع أرخص من منافسيهم باستخدام أحدث الآلات، فهم كما يصف ماركس في البيان الشيوعي "يقومون بتثوير مستمر لوسائل الإنتاج". قد ينتج رأسمالي 3 سيارات فقط في اليوم مقارنة بمصنع آخر ينتج 6 سيارات باستخدام آلات أو طرق إنتاج جديدة مما يخفض قيمتهم إلى النصف ويقلل من سعرهم. وحينها يمكن للرأسمالي الأول أن يبيع سياراته بالسعر الجديد غير المربح أو لن يبيعها على الإطلاق. الرأسمالية بطبيعتها غير مخططة وفوضوية ومهدرة للموارد. وعملية بيع السلع من أجل الربح في السوق أو إذا كانت ستُستخدَم من الأساس هي محض تكهنات.
• الاستغلال والأرباح
يحول ماركس اهتمامه إلى قوة العمل، أو قدرة العمال على العمل لتطوير فهم لديناميكيات النظام. يبرز ماركس "الإرهاب الذي لا يرحم" الذي انتزعت به الرأسمالية البدائية الفلاحين من أراضيهم، وخلقت جموع من الناس ليس لديهم خيارٌ إلا الخضوع لـ"قوة العنف العمياء للعلاقات الاقتصادية" والعمل كعمال مأجورين، وأصبحت قوة العمل سلعة على نطاق واسع.
من الصفات المشتركة بين المجلدات الثلاثة أن السوق وحقيقة أن قوة العمل سلعة كباقي السلع يخفيان طريقة عمل النظام، فنحن لا نعرف من ينتج الأشياء التي نشتريها، والعمال لا يعرفون من سيستخدم السلع التي ينتجونها، أو حتى إذا كانت ستُباع أو ستُهدَر. أو كما يقول ماركس، يبدو الجميع متساوين طالما بقينا في "عالم التداول" (السوق)، حيث يسعى الجميع إلى مصلحتهم الشخصية. وهذه الأيديولوجيا الرأسمالية، حيث يظهر العمال والرأسماليون كبائع وشاري للسلع في السوق. وينطبق هذا أيضًا على سوق قوة العمل نفسها، فيعرض أرباب العمل أجرًا أقل أو أعلى من السعر العادل للعامل نظير قوة عمله. ولكن يُدفع للعمال مقابل جزء من القيمة التي ينتجونها في اليوم، بينما ينتجون في الساعات الأخرى "قيمة مضافة" يُستخرج منها الربح. وكما يشير ماركس، لن تكون هناك أرباح بدون هذا الاحتيال، هذا استغلال أيًا كان الأجر المدفوع.
يقسم ماركس وسائل الإنتاج (المدخلات المستخدمة في إنتاج السلع) إلى نوعين: "رأس المال الثابت"، مثل الأدوات والمباني والمواد الخام وتكنولوجيا الإنتاج، والتي تنقل قيمتها بالكامل إلى السلع المنتجة، و"رأس المال المتغير"، أو قوة العمل، لأنه الطريقة الوحيدة لخلق قيمة جديدة، لأن العمال يستطيعون إنتاج قيمة أكثر مما يحتاجون للعيش ومما يتقاضون كأجر. ومع ذلك يحسب الرأسماليون عوائد استثمارهم بالنظر إلى مجمل المصاريف، مما يخلق مظهر زائف أن كلًا من رأس المال الثابت والمتغير يساهمان في القيمة المضافة التي يُستخرج منها الربح.
يوضح ماركس علاقة رأس المال والعمال عبر استدعاء واحد من أعظم تشبيهات الأدب الأوروبي حين يقول إن "رأس المال عمل ميت، وهو كمصاص الدماء، لا يعيش إلا على امتصاص العمل الحي، ويزداد حيوية كلما ارتشف المزيد". يمكن أن تتعرف على هذه الصورة في الجزء الأول من فيلم "Matrix" حيث تغذي الجثث البشرية الآلة المركزية.
• معدل الربح والأزمة الاقتصادية
بالنسبة لماركس، تُعد التجريدات التي يبدأ بها نقطة انطلاق لفهم وشرح كيف تعمل الرأسمالية. تسمح التجريدات لنا بعزل السمات الأساسية، ولكن بعد ذلك يجب أن نشرح ارتباطها بما يمكن ملاحظته تجريبيًا. يشرح ماركس في المجلد الثالث كيف يتدفق رأس المال من وإلى القطاعات المختلفة بحثًا عن أعلى معدل ربح. إعادة التوزيع الثابت لرأس المال من صناعة إلى أخرى "يخلق تناسبًا بين الطلب والعرض يجعل الربح الوسطي واحدًا في مختلف ميادين الإنتاج"، وبالتالي ينشأ معدل عام للربح عبر الاقتصاد. ويعكس معدل الربح العام هذا القيمة المضافة الكلية المنتجة مقارنة برأس المال المستثمر عبر الاقتصاد ككل. ولا يحصل الرأسماليون على نسبتهم من القيمة المضافة الكلية بما يتناسب مع التركيب العضوي من رأس مالهم (النسبة بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير مُعبرًا عنه بصيغة القيمة) بل بما يتناسب مع رأس المال الكلي الذي ينفقونه.
يستنتج ماركس أن "مجموع أسعار … كل السلع التي ينتجها مجتمع … تساوي مجموع قيمها". ولكن سعر السلع المفردة يختلف عن قيمتها لذا يجب تعديل قانون القيمة بينما ننتقل من المجرد إلى الملموس. تخلق المنافسة ديناميكية نحو التركيب العضوي الأكبر على الإطلاق لرأس المال عبر الاقتصاد ككل، مما يسبب ميل معدل الربح للانخفاض (نتيجة استثمار المزيد في رأس المال الذي لا يخلق قيمة جديدة)، ويجعل الرأسماليون يستخدمون الأرباح للمضاربة في سوق الأسهم، أو ادخارها، أو إنفاقها في شراء رفاهيات بدلًا من الاستثمار في الإنتاج.
أدرك ماركس أن هذا ليس قانونًا حتميًا، وكرس قسمًا كاملًا للعوامل التي تقابل هذا الميل. أشهرها هو زيادة كثافة الاستغلال عن طريق تسريع الآلات وزيادة ساعات العمل و/أو تخفيض الأجور. ولكن هناك حدود لذلك إلا إذا كنت مستعدًا لإنهاك وإصابة وقتل عمالك أو القبول بعمل رديء الجودة. ويخاطر ذلك أيضًا بإثارة إضرابات واحتجاجات مزعزعة للاستقرار لأن العمال ليسوا آلات.أهم طريقة لإعادة إنتاج النظام وانتزاع الأرباح من حالة الركود هي الأزمات نفسها. طرح ماركس أن معادلة معدل الربح، عندما يسير كل شئ بشكل جيد، تضمن "أنهم يتقاسمون الغنيمة المشتركة على نحو جماعي، بما يتناسب وحجم الحصة التي وظفها كل واحد منهم". ولكن عندما يتعلق الأمر بالخسائر "فإن كل واحد منهم يسعى، قدر الإمكان، إلى أن يقلل حصته من هذه الخسارة، وأن يلقيها على كاهل غيره. لكن الخسارة محتومة بالنسبة إلى طبقة الرأسماليين بأسرها. أما مقدار ما يتحمله كل رأسمالي مفرد منها، وما مدى النصيب الذي يتعين أن يقع عليه عمومًا، فتلك مسألة تتوقف على القوة والدهاء، وتتحول المنافسة، عندئذ، إلى صراع بين الإخوة الأعداء".
تعلن الشركات إفلاسها، مما يسمح للآخرين بشراء ممتلكاتها ووسائل إنتاجها بأسعار رخيصة. وتساعد البطالة الرأسماليين على تخفيض الأجور وظروف العمل. تضع الأزمة حجر الأساس لاستعادة معدل الربح وتسمح للاستثمارات بالتدفق مرة أخرى. ونجد نفس التأثير في الدمار الناتج عن الحرب أيضًا.
منذ أن شرح ماركس تقلبات السوق، تغيرت الطريقة المحددة لوقوع هذه التقلبات على مر الوقت. ينتج إفلاس الشركات (وليس فقط مرورها بأزمة) والاستحواذ عليها بواسطة المنافسين شركات أكبر من ذي قبل. أطلق ماركس على هذا تركز وتمركز رأس المال. يؤدي هذا، بالإضافة لتدويل رأس المال، إلى عواقب وخيمة على حل الأزمة. يوقظ السماح بإفلاس الشركات متعددة الجنسيات شبح قدرتهم على جر الشركات الأخرى إلى هاوية لا يمكن تخيل أبعادها. وهنا تسارع الحكومة بعمليات الإنقاذ مثلما شهدنا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
• الأسهم والأوراق المالية
تنقل وسائل الإعلام أخبار سوق الأسهم كأنه يتمتع بحياة مستقلة، وبمعنى ما فهو لديه حياة مستقلة بالفعل، ويجعل من مصدر الأرباح وطريقة عمل النظام لغزًا. يكتب ماركس عن الأسهم والأوراق المالية: "إلا أنها لا تتيح إمكانية السيطرة على رأس المال هذا. إذ لا يمكن سحب شيء منه. فلا تعطي صكوك الملكية هذه سوى الحق القانوني في الحصول على جزء من فائض القيمة الذي سيجري الاستيلاء عليه"، وتصبح "نسخًا ورقية عن رأس المال الفعلي"، ولكنها تصبح مادة للمضاربة والتجارة كأن لهم قيمة في حد ذاتهم، وكأنها تكتسب قيمة منفصلة عن رأس المال الأصلي: "تصبح ممثلًا اسميًا لرؤوس أموال غير موجودة".
الخلاصة:
يكشف" رأس المال" لماركس جنون الرأسمالية. يشرح الكتاب نظامًا أطلق العنان لإبداع مذهل وخلق ثروة مهولة في الوقت ذاته الذي يحرم فيه المليارات من الطعام والمأوى على نجو منهجي، ناهيكم عن الحرمان من الرعاية الصحية والتعليم.
إن الأزمة حتمية نتيجة الخضوع لمنافسة السوق والإنتاج من أجل الربح فقط. لن تكشف قراءة "رأس المال" عن الأسباب المباشرة لأزمة معينة، فيمكن أن يكون سبب واحد أو عدة أسباب. يمكن أن تقل الأرباح عن أن تحافظ على تدفق الاستثمار، أو أن جائحة أو حرب زعزعت استقرار التجارة، أو التضخم. ربما تسبب أشخاص جشعون بانهيار سوق الأسهم عن طريق المضاربة بثروة كان يمكن استخدامها لحاجات البشر.
كما يقول ماركس في المجلد الثاني، "إذا تصورنا أن المجتمع القائم ليس رأسماليًا بل شيوعيًا، فإن رأس المال النقدي كله يتلاشى أولًا، وتتلاشى معه الأقنعة التي ترتديها الصفقات من خلال ذلك. وتُختزل المسألة، عندئذ، ببساطة إلى ضرورة أن يحسب المجتمع سلفًا كم من العمل ووسائل الإنتاج ووسائل العيش يمكن له أن يُنفق، دونما إلحاق أي ضرر، على فروع الإنتاج تلك، مثل مد سكك الحديد، التي لا تقدم أية وسائل إنتاج أو عيش … أما في المجتمع الرأسمالي حيث لا يفرض العقل الاجتماعي نفسه أبدًا إلا بعد وقوع الواقعة، فإن اضطرابات كبيرة يمكن وحتمًا ستقع باستمرار".
يوضح عمل ماركس البارز أن الرأسمالية لا يمكن أن تضمن حياة كريمة للغالبية العظمى، وأن كل ازدهار ينتهي بأزمة وتدمير حيوات بشرية. وبالطبع تعتمد الرأسمالية على هذا البؤس لكي تنمو.
ملاحظة التحرير :
* المقال بقلم ساندرا بلودوورث .
المصدر: https://redflag.org.au/author/sandra-bloodworth
* الترجمة: مصطفى عبد الغني.