دستور قيس سعيد .
فريد العليبي
2022 / 6 / 20 - 16:08
تُعرف الدساتير غالبا بمن جاء بها أو بالبلد الذي فيه تمت صياغتها ، وفي تونس يُعرف دستور 1958 بأنه دستور بورقيبة، أما دستور 2014 فيُقال عنه دستور النهضة أو الترويكا . ومن المُرجح أن الدستور القادم إذا ما تم اقراره يوم 25 جويلية المقبل خلال الاستفتاء المنتظر سيعرف بدستور قيس سعيد ، دون أن يعني ذلك أنه ليس له من شريك في وضعه ، ولكن العناوين الرمزية في السياسة تقترن عادة بأشخاص اعتباريين ،وعلى رأسهم بطبيعة الحال رئيس البلاد في واقع الحال .
واذا كان بورقيبة قد اختار ومن بعده حركة النهضة ومن معها سبيل المجلس التأسيسي لصياغة الدستور ، فإن قيس سعد سار في طريق آخر فقد كون لجنة للقيام بذلك وعهد الي رئيسها الصادق بلعيد بالإشراف على حوار وطني سبقته استشارة الكترونية ، وهي التي ستتولى تقديم المشروع النهائي اليه .
ويُعرف عن قيس سعيد نقده لدستور النهضة ، والمُرجح أنه كان في حرج من أمره ، يوم أقسم علي التقيد بأحكامه ، وهو الذي كان يكرر باستمرار أن الحمار قد أكله ، وأن الدستور الحقيقي للانتفاضة التونسية هو ذاك الذى خطه الشبان الثائرون على الحيطان، تعبيرا عن أمانيهم المحبطة .
والمعروف أيضا أن سعيد نتاج أزمة ذلك الدستور والواقع المحيط به ، ويصح القول أنه جاء من رحمها لمداواتها بالصدمات ، صدمة تلوى أخرى ، ومنها صدمة الدستور ، مُعطلا عددا من فصوله ، مُوظفا أخرى لتجريد خصومه من سلطات أساؤوا استعمالها ، فعندما تفشت النزاعات تحت قبة البرلمان وعم الهرج والدجل وسالت الدماء، كانت الفرصة سانحة أمامه لتصفية حساب طويل مع حالة سياسية قبيحة ، فالتقطها ، وهي التي تقترب الآن من مفصل أساسي من مفاصلها ، ونعني إقرار دستور جديد .
يقول أرسطو في وصف حالة مماثلة قبل آلاف السنين ، عندما شهدت أثينا ميلاد دستور صولون أنه لما استعبدت الأقلية الأكثرية في أثينا وثار الشعب على الأعيان ، وطال الصدام، اختار المتخاصمون مُصلحا بينهم ورئيسا عليهم ، فجاء صولون وكان حكيما وشاعرا فنقد الجميع ، مُحملا إياهم المسؤولية عن الخراب الذي حل بالمدينة، وأنه ينبغي السير في اتجاه جديد ، وألقى فيهم قصيدة يقول فيها :" أعرف سوء المنقلب وقد استقر الألم في الحشا لدى رؤيتي أينيا ( دولة أثينا ) العريقة جدا في القدم، يعبث فيها الذبح والقتل " ، محرضا على وضع حد للتنازع . ولكنه كان غالبا منحازا الى الفقراء ، حاثا الأغنياء على الإقلاع عن الجشع والاستغلال والسير عوضا عن ذلك في طريق العدل والاعتدال ، فوضع لهم دستورا طالبهم بالعمل به طيلة قرن كامل ، فوجد كلامه صداه عندهم فنقشوا الشرائع على لوحات مثلثة تدور على محور، ووضعوها في الرواق الملكي وأقسموا جميعهم على احترامها والتقيد بها فكان نجاحه ، وهو الذي يصفه ارسطو بأول زعيم للشعب.
وبالعودة الى قيس سعيد ودستوره المنتظر نلاحظ أن أعداءه هم من مهد وا له السبيل لكي يصعد على الركح ويؤدي دوره باعتباره منقذا، فقد غدت السياسة في زمنهم خساسة فضج الشعب من نزاعاتهم البائسة بما يشبه حالة الاثينيين واصبح مطلب حل البرلمان على الألسن . واليوم يمكن القول إن التونسيين قد مروا من دستور الرئاسة مدى الحياة الى دستور الاضطراب الكبير، وهم على أعتاب دستور لم تتحدد ملامحه بعد ، ولكنه لن يكون في كل الأحوال أسوء من سابقيه .
والمهم اليوم أيضا أن يراعي ذلك الدستور التغيرات التي مرت بها تونس على مدى النصف قرن الذي مضى على الأقل ، وأن لا يكون منفصلا عن الواقع ، وأن تكون الديمقراطية المختصرة بين جنباته متطابقة مع ما حلم به المنتفضون ولا يزالون يأملون رؤيته وقد تحقق، دون تبعية أيديولوجية للديمقراطية الليبرالية التي هرمت في موطنها نفسه .