تَدويرُ الزَّوايا الحادَّة ... واللَّغْوَصَة
علي طه النوباني
2021 / 11 / 2 - 16:44
خطر لي أن أبحث في المعاجم عن أصل كلمة "لَغْوَصَة" التي يشيع استخدامها في العاميَّة في العَديدِ من اللَّهجات العربية. ولكنّي لم أجد الكلمة حرفِيّا إلا في مُعجَمِ تَيمور الكَبير في الألفاظ العاميَّة، فقد قال:" لَغوصَ في كَذا، وأيَّ لَغوصَة بِمعنى الزروطة"، وَحيثُ أَني لا أعْرف معنى "الزروطة" فقد قمتُ بالبحثِ عن معناها؛ فلم أجدهُ في أيٍّ من المَعاجمِ الَّتي وَصَلَتْ يدي إليها، وإنَّما ذَكرتُ هذا لأَنَّه يُعَبِّرُ بِشكلٍ قريبٍ جِدّا عَن مَعنى "لَغوَصة" التي هي موضوع بحثنا.
يَبدو أنَّ أصلَ حَرفِ الصّاد في كلمة "لَغوصَة" هو سين حَوَّلَتها العاميَّةُ إلى صاد بِقصدِ التَّشديدِ والمُبالغَة. وَإِذا صحَّ اجتهادي فأصلها "لَغوسَة".
فما هو معنى " لَغوصَة" أو لَغوَسَة".
وَردَ في لسان العرب: اللَّغْوَسَة: سُرْعة الأَكل ونحوه. واللَّغْوَس: السريع الأَكل. واللَّغْوَس: الذئب الشَّرِه الحريص، والعين فيه لغة؛ قال ذو الرمة: وماءٍ هَتَكْتُ السِّتْرَ عنه، ولم يَرِدْ رَوايا الفِراخِ والذِّئابُ اللَّغاوِسُ ويروى بالعين المهملة. وذئب لَغْوَس ولِصٌّ لَغْوَس: خَتُول خبيث.
وقد ورد في تهذيب اللغة للأزهري: ذئب لغوس، وذئاب لغاوس، ولص لغوس: ختول خبيث.
وقد ورد في معجم اللهجات أن "اللغوصة تأتي بمعنى القذارة او الشيء المقرف، فلان ما هذه اللغوصة؟".
وعليه، فإن اللغوصة تنطوي على دلالات كثيرة منها الخداع والجشع، والبدء من الصفر دائماً، وتجاهل الحقائق والالتفاف عليها، وإظهار أشياء مخالفة لما تَعمَلُ من أجل تحقيقهِ على أرضِ الواقع. كما أنَّ "المُلَغوِصَ" شَخصٌ نَرجِسيٌّ يَرى نَفسَه في مَركَزِ الكَون، وَيَعتقد أنه قادر على تجاوز أبراجِ السموات والأرض حتى لو كان ذلك دون أيِّ سلطان، بل إِنهُ قادِر على التَّلاعُبِ بالحَقائقِ وَتَزويرها على مَرأىً من الجَميعِ دونَ خجلٍ مِمَّن يَرونَهُ سافِرا في وَضَحِ النَّهار.
اللَّغْوَصَةُ هِيَ إِشاعَةُ الفَوضى بِقصدِ كَسر المَعاييرِ، وَقَلبِ هَرَمِ المَنطِقِ رَأساً عَلى عَقب، وَقد شاع في السِّياسَةِ لَفظٌ أَحسَبُهُ شَكلاً مَدَنِيّا مُتَأَنِّقاً لِ "اللَّغوصَة" وَهو "تَدوير الزَّوايا الحادَّة" مع حَرَكَةٍ في اليَدَينِ تُشْبِهُ تَقليبَ قِطَعِ اللِّيجو، وابتِسامَةٍ خَبيثَة تَنطوي على فَوقِيَّةٍ تافِهةٍ غَيرِ مَبنيَّةٍ عَلى شَيءٍ ذي قيمَة.
يَقول الدكتور عمر الحضرمي في التَّعليق على مصطلح "تدوير الزوايا الحادة": " مُصطَلَحٌ استعارته العلوم السياسية من الصِّيغ اللغوية البلاغية، ويُقصدُ به عدم خوض الصِّراع بِصورَةِ المُواجَهَة، ومحاولةُ تَحاشي الحَدِّيَّة في التَّعاطي مع الأَحداث، وبالتّالي إصدار القرارات بصورة مُواربة للواقِع والحَقيقة، وعلى شكلٍ من التَّحايُل والالتِفاتِ والابتِعادِ عن المُقاربة المُباشِرة، وهذا في مُجمَلِهِ تَدليسٌ وَرِياءٌ وَتَزويرٌ للحَقائِق".
لقد أَصبَحَ مِن المُمكِنِ لِأَيٍّ كانَ بِموجَب تَعبيرٍ مَدَنِيٍّ مثلِ " تدوير الزوايا..." أَن يُطالِبَكَ رَسميّا بِالمُشاركةِ في اللَّغوصَةِ والفوضى دونَ أَنْ يَستعملَ كَلِمَةً عامِّيَّة مَمجوجة مُدَّعِياً الذَّكاءَ والدَّهاءَ والمَهارة، وهوَ في الواقع لا يستحق أكثر من كَلمةِ " مُلَغوِص" أو مُلَغْوَص" في أحسن الأحوال. فاحذر يا صديقي أن تقع في فخاخ اللغة المنصوبة بكثرة، واعلم أنَّنا نَراكَ على حَقيقتكَ مهما تَزوَّقت وَتَزيَّنت بالزَّوايا الحادَّة والمُنفَرِجَة، وَمهما تَأَنَّقتَ بالأَلفاظِ الَّتي هِي مَهما تَراكَمتْ تعودُ إِلى جَذرها الحقيقي وهو دون مُوارَبَةٍ " لَغْوَصَ".