أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(12).


ماجد الشمري
2020 / 1 / 11 - 19:25     

..ربما يكون أيوب فعلا قد انهى صراعه وتصالح مع ربه وآب لحضيرة التقى،مأواه الوحيد.واستكان لاستراحة المحارب الطويلة من الدعة والخمول والسلام اللذيذ الذي غمره الله به.ولكن من حقنا نحن قراء سفر ايوب ان نسأل:ان كان ممكنا تصور عقل ومنطق لوجود سامي متعالي،وبلا اسس من عدالة وقوانين الهية ثابتة؟.او نتخيل مشيئة عاقلة واعتباطية،مرنة بميوعةرجراجة دون سنن قويمة ومحددة وملزمة!.بعد تلك القراءة لسفر العذاب الايوبي نعتقد-بلا يقين جزمي طبعا-احتمالية وامكانية وجود عقل ميتافيزيقي مدبر-مدير،ولكن لايترتب على ذلك ضرورة او حتمية وجود مفهوم للعدل،او ادنى قيمة اخلاقية حقيقية كأعتبار ملزم.فالاخلاقية ليست محمولة على العقل الالهي ولاتلزمه،وبالتالي لاقيم ولاقوانين ولامقاهيم قيمية هناك.وهذا يسري على البشر ككائنات طبيعية قبل-ثقافية.ولكن سيبقى هناك عقلا وعقلانية،اذا كان لدينا قدر ضئيل من حس او ادراك العدالة الذي يتجلى عبر عقل الكون-الله.اذا توصلنا لاستنتاج او قناعة مفادها:انه لاوجود لاي عدل الهي،مع تمسكنا او اقرارنا بوجود الله او اي شكل من اشكال الالهة،فأي نوع من الالهة سيكون عليها الها بتلك المواصفات وعلى هذه الشاكلة والسمات؟!.وجوابنا المتواضع هو:اما ان يكون الرب الها عاجزا عن تحويل مبدأ عنايته او عدله الضمني الى فعل مشروط والزامي،والا سيكون الها معطلا او مستقيلا،او انه لايكترث بعدل او ظلم وعناية اوتخلي،حتى بالمعنى والمفهوم البشري،ومع ذلك يملك عقلا!.وهذا بالتالي نوعا من العرض الاجتماعي-الاخلاقي-الديني.اذا كانت الحجة الاساسية الملحة للاصرار على الايمان بالله هو مجرد عملية خلقه للعالم ومخلوقاته،ثم تركه لمصيره المجهول وفوضاه الجزافية.عندها سيكون من العسير جدا او عبثيا لدرجة المفارقة،الدفاع عن فرضية انه لايمتلك القدرة او المشيئة لجعل العالم اقل خطرا وفوضى وظلما،واكثر عدلا وعناية ورحمة وتنظيم،وان كان لايعني حقا،ويملك عقلا،فلا يمكن ان يكون من النوع الذي نعنيه ونفهمه نحن البشر،ومخالف لمعايير الله.من الثابت في سفر ايوب ان الله لم يفدم اطلاقا اي حجة او تبرير يدحض او يفند او يرد او يوضح ويقنع ايوب بأدراكه وفهمه ورؤيته هو الخالق العارف القادر لماهية العدالة،عدالته المطلقة.وخلافا لما يجب ان يظهره ويبديه وماينسجم مع المنطق.بل انهال بوابل من الاسئلة والاحاجي وغير ذات صلة او ارتباط بموضوعة ايوب وسؤاله المركزي عن طبيعة عدل الله وقدرية الشر او الظلم الطائش الذي يضرب مرة بتسديد ومرة خبط عشواء،وحقيقة وجوهر اخلاقية الله وشريعة رعايته وحدبه على مخلوقاته واولها الانسان.ولان ايوب ابن بيئته وثقافته وعصره،والسفر هو الصورة الخيالية للحكاية التي دونها كاتب السفر كحاخام او اديب لاهوتي او من العامة،لتلحق باسفار التناخ نصا لاهوتيا مقدسا يتعبد به من قبل معتنقي ديانة العهد القديم(اليهودية)وديانة العهد الجديد(المسيحية).فكان من الطبيعي في سيرورة السرد ومفهوما ان يسلم ايوب امره لرهبة وغموض ومشيئة ربه الغاضب،ويتراجع عن تمرده اللحظي الذي لجمه الرب بلائحته التكوينية وقصة الخلق.وبوعي مغيب وارادة مكسورة تائبة،ويخضع طائعا لجبروت واكراه الاله.ان موقف ايوب جدير بالتوقف عنده والتأمل والتمعن فيه.تلك البرهة الانسانية الاستثنائية المتحررة جزئيا من التعلق الوجداني،والتي تجلت بأنتفاض الكرامة الذاتية وتحرك التوق الانساني الاخلاقي الرافض للحيف امام القهر المجحف والانتهاك القدري المتسلط والمنتهك لقيمة الانسان.وعلى الرغم من محنته الرهيبة التي حطمته جسديا ولكنها لم تقهر روحه الصلبة.تلك البرهة النادرة التي اكتشفت فيها ذات ايوب قوتها المعنوية الكبيرة ومديات حرية الارادة المفتوحة على التقرير المصيري رفضا او قبول،فمزق ايوب شرنقته وصب جام غضبه على الجور المتعسف الذي سامه العذاب.ولكن هذه اللحظة التراجيدية الفارقة لم تدم طويلا مع الاسف،لتتراجع كموجة مد تلاشت بخجل لتغيب بعد ان صدمه ربه وابهره بكم بليغ من الفذلكة الالهية والاسئلة المربكة والتعجيزية والتي لم يكن لدى ايوب ادنى معرفة او معلومة بشأنها فلم يملك لها اجابة او ردا،فأنطفأت تلك الومظة كوعي فجائي برق ثم اختفى ليعود ايوب القهقرى الى قواعد ايمانه المتجذر في عقله وقلبه سالما بندمه وطلبه للغفران.يخبر ايوب الهه بأن رؤيته العيانية له دفعته لان يعترف قائلا:"أمقت نفسي واندم هكذا في التراب والرماد".كره الذات! والندم!والاذلال النفسي والتحقير الشخصي!.بعد فورة الكرامة والرفض،يبدو امرا محيرا ولكنه مفهوم.فمن اين جاء الاحساس الثقيل بالذنب ليصيب ايوب في صميم انسانيته؟!.ولماذا يمقت ايوب نفسه؟!.فما الذي انقلب وتغير،وكيف؟!.بعد ان تجلى الله عيانا وبان كنور الشمس امام ايوب الذي تحدث عن الحيف والظلم الذي قاساه من الله نفسه او الشيطان،لافرق!.فأين ذهبت كلماته النارية وخطابه الثائر،ورباطة الجأش الواثقة وادانته الصريحة والوقحة لله؟!.من المحير والغريب ايضا ان تراجع وتوبة ايوب كانت قبل ان يشفيه الله من مرضه بعد،ولم يعد له ممتلكاته ولا اولاده وبناته بعد!.لم يكن الامر عرفانا بالجميل،او شكرا على العطاء والعوض البديل اذن.حتى ان ايوب لم يعفر وجهه بالتراب بعد،فلماذا مهانة وذل التعفير هذا؟!.هل هو عقاب على الجرأة والتطاول؟!.ام هو التكفير عن التمرد والتجاوز على الله حتى ولو بالنية فقط؟!. ان دائرة الذنوب والمعاصي لاتحيط او تعتقل الا الانسان المقيد بالتعبد الديني المتوارث،ويبقى الله ربا نظيفا طاهرا وغير مسؤول،خارج وفوق تلك الدائرة الملعونة من الخطائين والعصاة،متسلطا حاكما فوق القانون منزها عن مايلوث بني الانسان،ابيض اليدين،صانع السنن السامية-ولكنه غير ملزم بها ولايحترمها!- لعبيده صانعي الآثام وجنود ابليس!.ان مبدأ قصة ايوب هو سؤال الذل،الذل البشري المقابل لكبرياء الله.فأيوب كان رجلا مؤمنا صالحا متواضعا كريما ذو ضمير حي،رحيم بالفقراء والمعوزين،ولكنه وعبر تجربته المرة والمروعة بين ألم وعنف وقتل ومرض،وخسارة كارثية غير مبررة او مفهومة.كل هذا اوصل ايوب ومن خلال امتحانه الطويل،لبلوغ معرفته الخاصة والمستقلة حول مفهوم العدالة بالمعنى الاصطلاحي الانساني المستقيم،ومع كل ذلك فقد اصغى ايوب بأنتباه لسرد الله وقائمة اعجازه الرباني،ولمجرد تفكيره بأسئلة الوجود الملغزة التي صاغها الرب ببيانه ومنطقه الصادم المبهم.ظن ايوب،بل كان على يقين من ان هناك رب خالق ومبدع لكائنات وظواهر لايستوعبها او يطيقها عقله البسيط المحدود،وبالرغم من قناعته بلاوجود اي عدالة او عناية الهية فعلية.يعد قراءتنا لسفر ايوب،نقول ان الله لم يحضى بتقديرنا واعجابنا بقدر ماهزنا وبهرنا ايوب بنبله وانسانيته وروحه الحية،وخاصة حين غطى الجذام الفتاك جسده المتقرح بصديده المتعفن الذي اكل جلده.وراح يتأمل في حالته البائسة وشقاءه.اثار ايوب اعجابنا وفي نفس الوقت خيبتنا وأسفنا لنكوصه لايمانه القديم!.في الظاهروحسب مشيئة محرر السفر الايوبي،وصيغة الحكاية المروية،وهو يواجه اسئلة الرب الكثيرة والعويصة،والتي نميز فيها ايوب بالجلد وتحمل العذاب والصبر على آلامه الكبيرة،بينما استسلم لقوة اعلى،قد يكون فرجا وانقاذا ربما ضروريا،ولكنه ليس جليلا او باعثا غلى الاحترام بوجه الخصوص.ربما يكون رد فعله المذكور ليس كانسان متجسد يختار،بل هو الميل والهوى التقوي لمبدع الحكاية وتحكمه في سلوك شخصية ايوب المروية بتلك المدونة التي يجب وحتما ان تصاغ وفقا لمعايير توراتية قويمة وصارمة كأمثولة دينية تثقيفية تسعى لتكريس التهذيب والاعداد البيداغوجي الامثل.ان يشكر الانسان ربه في سراءه وضراءه،في خيره وشره،فمن الاله كل شيء واليه يعود كل شيء.هذا هو لب ومغزى ومعنى وغاية سفر ايوب الوعظي اساسا.في كتابه الممتع"سيرة الله"يطالعنا جاك مايلز بكتاب التناخ،والذي اعتبره سيرة ذاتية للرب،وسيرورة صاعدة لمفهوم الاله وتطوره كفكرة،ومن خلال تحليل ادبي ولاهوتي شيق ومدهش،وببصيرة دقيقة وذكية،ان:الرب العبراني لم يتكلم على الاطلاق بعد سفر ايوب!.وبات الله بعد ذلك الها صامتا
مستقيلا غير مكترث منزويا متواريا الى الابد..
...................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...