سلطة البنوك ، البنكقراطية، كتاب ايريك توسان الجديد
سفيان بوزيد
2019 / 11 / 30 - 15:46
كانت البنوك مصدر الأزمة المالية لعامي 2007-2008 التي لم تفتأ تنتج عواقبها المؤذية للسكان. مع ذلك، قلة فقط من الناس قادرة على فهم أنشطة البنوك، وتحديد دوافعها، ولاسيما قياس مسؤوليتها في الأزمة الراهنة . لا غرابة في الأمر بالنظر إلى اعتياد البنوك وقادتها التذرع بالسر البنكي عند مطالبتهم بكشف حساب أفعالهم.
ونادرة هي المؤلفات المخصصة للبنوك، خارج بعض الكتب ذات الطابع التقني الموجهة لطلاب الدراسات المالية. وحتى لدى الباحثين الاقتصاديين الناقدين للنظام الرأسمالي، نادرا ما يكون النظام البنكي موضوع دراسة بحد ذاته؛ وعند تناوله، غالبا ما يكون ذلك على نحو سطحي، في دورة نقد “لعالم المالية”. هذا وضع غير غريب بالنظر إلى الطابع التقني للموضوع، و إلى ما يستدعي من معلومات تتمثل مهمة السر البنكي بوجه الدقة في إخفائها. إن مقاربة هذا الكون المجهول والبحث فيه يستدعيان في الآن ذاته معارف وكفاءات ودقة ودأبا وكذا تحليلا و روح تركيب لا مأخذ عليهما.
هذا ما يؤكد جدارة ايريك توسان الذي نهض بهذه المهمة المتمثلة في استعراض كاشف لأنشطة البنوك و توضيح أوالياتها و تفصيل مسار تطورها، وبوجه خاص وضع حصيلة لها غير قابلة للطعن. وبقصد تنفيذ جيد لمشروعه، استهدى المؤلف بدقة بكثرة من الوثائق الرسمية الصادرة عن البنوك ذاتها وعن السلطات والمؤسسات المكلفة بمراقبتها، هذا دون نسيان أعمال المختصين بالمسائل البنكية. ما يعني ان التشخيص سيكون قابلا للجدل بصعوبة.
سلطة البنوك، عنوان الكتاب هذا منتقى جيدا، ويلخص جيدا العالم الذي يسلط عليه ايريك توسان الضوء، عالم حيث السلطة بيد البنوك، وعبرها بيد قادتها ومالكي أسهمها. لكن المؤلف لا يقتصر على انتقاد استعمال تلك السلطة الكارثي من قبل رأسماليين لا يحركهم غير العطش إلى الربح، بل يضع بقفص الاتهام إمساك حفنة أشخاص مفلتة من أي رقابة بهكذا سلطة ، ويكشف جناية تواطؤ السلطات العامة و المؤسسات المفترض مع ذلك أن تضبط وتراقب وتنظم نشاطات المؤسسات المالية. يعيد ايريك توسان إلى أذهاننا أن البنوك، مثل النقد و الائتمان، أدوات لخدمة الجماعة، ولذلك يتعين تشريكها، أي تجميعها في خدمة عامة واسعة لخدمة الجميع، وبوجه خاص وضعها تحت الرقابة المواطنة لأجرائها وللزبائن ولممثلي الجمعيات وكذا للمنتخبين.
نقطة انطلاق الكتاب هي أزمة 2007-2008 التي يوضح المؤلف أسبابها، أي حركة نزع التقنين القوية و المتواصلة منذ سنوات 1980 وتمييل (إضفاء الطابع المالي) الاقتصاد. تكاثر المنتجات المشتقة، اللجوء المحموم الى “مفعول الرافعة”، تطور ما يعرف ب”خارج الموازنة” ، ودور الفراديس الضريبية المتنامي مع ما ينتج عنه من تطور shadow banking ، كلها سمات تميز هذا التطور المخرب. اقتاد السعي الى المردود الأقصى البنوك إلى الإقدام على مخاطرات كبيرة لم تكن قادرة على تحملها.
ومع ذلك، وبدل معاقبة البنوك و انتهاز الفرصة لمراقبتها و التحكم بها، قررت الدول بالعكس تشريك خسائرها أي تحميلها للمواطنين. كما رفضت الدول القيام بتغييرات جذرية واجبة في مجال التقنين. فقد اتضح ان الإصلاحات البنكية المزعومة، المطبقة من قبل الدول الغربية الكبرى و معاهدات بال 3، المفترض ان تدخل بعض النظام و الصرامة و قواعد سلوك على الأنشطة المالية، لم تكن سوى دواء لا فائدة منه. ففور إعادة رسملتها وإعادة تقويمها بمال دافعي الضريبة، عادت البنوك على نحو أكثر إلى نشاطاتها المضاربية.
من ليمان برادرز إلى دوتش بنك ،مرورا بـ ديكسيا، يتناول ايريك توسان الفضائح المالية الكبرى التي كشفت بجلاء التلاعبات وممارسات الغش لدى البنوك الكبرى. و ابرز تواطؤ البنوك المركزية، وبوجه خاص البنك المركزي الأوربي، ووكالات التنقيط وكبريات المؤسسات المكلفة بالإشراف على ممارسات المؤسسات البنكية ومراقبتها.
لكن للبنوك الكبرى في الغالب موازنات أكبر من الناتج الداخلي الإجمالي لدول إقامتها، لكنها تظل كما يؤكد المؤلف ” عمالقة بأرجل من طين” . وبعبارة واضحة، يُخشى حدوث أزمات تضاهي أزمة 2007-2008 أهمية في مستقبل قريب. وستكون هذه الأزمات مرعبة بقدر تداخلها مع أزمات أخرى: أزمة بيئية وأزمة سياسية وأزمة اجتماعية وأزمة ديمقراطية.
بما أن البنوك هي اليوم الحلقة الأساسية للنظام الرأسمالي، وبما أنها تسهم بقوة في تحديد نمط الإنتاج الذي يدمر البيئة، ويولد تقاسما متفاوتا للثروة ويهجم على المؤسسات والممارسات الديمقراطية، يتعين أساسا التحكم بها. تغطي الأزمة صراعا مريرا بين الرأسمال و العمل. لذا يبدو تشريك شامل للنظام البنكي، الذي يدعو إليه المؤلف بعد إتمام برهنته، ضرورة اقتصادية واجتماعية وسياسية وديمقراطية ملحة. إن كتاب ايريك توسان، المتعذر اختزاله في تحليل للأزمة المالية ينضاف إلى أعمال أخرى، أداة أساسية بيد من يستشعرون، رجالا ونساء، الحاجة إلى فهم أزمة العالم الراهنة، لا سيما الساعين/ الساعيات إلى إيجاد حلول.
كلمة Bancocratie ، أصلها Kratos وتعني “الحكم” و “الحكومة” و “السلطة” . يوحي عنوان كتاب اريك توسان بكلمة أخرى : الديمقراطية ، ما يحيلنا في نهاية المطاف إلى سؤال: من يجب أن يتولى السلطة: رجال البنوك أم الشعب؟