التنمية والحرية .. في البدء كان الإنسان


مجدى عبد الهادى
2016 / 7 / 12 - 13:42     

إن ما تعكسه المقارنات التي تعج بها التقارير الدولية من فوارقِ هائلة بين الأمم على المستوى الدولي ليست سوى مظهر وعرض لا يكفي بذاته دليلاً على صحة نهج معين من عدمه ، فهناك كثير من العوامل العرضية المساهمة في تلك الفوارق ، من فوارق موارد وظروف تاريخية واستعمار إيجابي أو سلبي ، ولهذا فالحاسم والجوهري في تلك الفوارق هو منطق الفعل الكامن خلفها ، والممارسات التي أنتجتها !!

فما صنع من الغرب عالماً متقدماً وغنياً ، ونشدد على تقديم التقدم على الغنى ، هو منظومة متكاملة تحكم طريقة التعامل مع الواقع وأساليب التعاطي مع كافة المسائل ، بدءً من أدق تفاصيل الحياة اليومية ومروراً بالمشكلات على المستوى القومي ووصولاً لتحديات ومواجهات المستويين الإقليمي والعالمي ، حيث تعمل كافة المكونات بشكل مترابط ومنظومي في مسار واحد مُتضافر يلتزم الكفاءة ويحقق التقدم ، وينطلق من المصالح العامة للشعب ، بالاعتماد إلى / والاستناد على المنهجية والقواعدية والعقلانية والعلمية ، لا الارتجال والاعتباطية والتسلط والأساطير الخطابية !!

وتبدأ حلقات التقدم بالبشر ؛ باعتبارهم هدف التقدم ووسيلته ، فهم قاعدته التي لا نزاع فيها ، ونقطة وصوله وتجلّيه التي لا خلاف عليها ، وتتجسد تقدمية هذه الحلقة في دولة تهتم بالصحة والتعليم كأساس لبناء مواطنيها مادياً ومعنوياً وبالبحث العلمي كأساس لإدارة واقعها والتمهيد لمستقبلها ، وترتبط هذه الحلقة بحلقة الديموقراطية ، فالدولة لا تخشي أن يتعلم مواطنيها وأن يكونوا بمستوى الوعي الكافي لمحاسبتها ومراقبتها ، وهو ما ينعكس في تواضع معدلات الفساد ، وكفاءة الجهاز الحكومي ، وتداول حقيقي للسلطة (في حدود الديموقراطية المحدودة المعروفة تاريخياً) ، واتساع في مناخ حرية الفكر والإبداع وارتفاع في نتاج البحث العلمي كماً وكيفاً .

هذا المناخ من حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي ، إضافةً لتدني نسب الفساد والمحسوبية وارتفاع مستوى الكفاءة العامة ، مع التدني النسبي للريعية والاحتكارية الاقتصادية ؛ تؤدي مجتمعةً لبيئة أعمال تنافسية إبداعية تقوم على إنتاج القيمة المُضافة ؛ ما تتجلى ثمرته فيما ينتجه الغرب من منتجات عالية التقنية ، وعالية القيمة المُضافة من المعرفة والعمل والإبداع ، ومن ثم عالية الربحية ، ما يمثل نتاجاً طبيعياً لتاريخ عريق من التصنيع والتكنولوجيا ، وليسبق بالضرورة وبفارق هائل كافة المتخلفين غير المنتجين ، الذين استمرأوا الاكتفاء بعوائد المواد الأولية التي أنعمت عليهم بها الصدف الجيولوجية العابرة .

وكانت النتيحة أن هذا الغرب - ومن ساروا على دربه - لم يحقق فقط صادرات عالية حققت له نماءً عالياً وثراءً حقيقياً مُستداماً ، بل امتلك أيضاً ناصية استقلاله العسكري ؛ كونه أصبح قادراً على إنتاج السلاح المتقدم عالي التقنية ضمن ما ينتجه من تقنية متقدمة ، ليكون هذا الاستقلال العسكري الركن الركين للاستقلال السياسي !!

وهذا الاستقلال السياسي المدعوم باستقلال عسكري هو استقلال في مواجهة الخارج فقط ، وليس استقلالاً في مواجهة الداخل كما هو حال الدكتاتوريات المتخلفة التي تمارس استقلالها في مواجهة شعوبها فقط ، ولا تستخدم أسلحتها سوى ضدها ، بل هو استقلال سياسي عسكري تقيّده الديموقراطية لتضعه في خدمة الشعب ؛ ليكون استقلالاً مُعبراً عنه وعن مصالحه الأكثر عمومية وجوهرية ؛ وليصب في نهاية المطاف في خدمة الحلقة الأولى في تلك المنظومة المتشابكة ، ألا وهى البشر !!

وهكذا نجد أن في البدء كان الإنسان ، هذا الإنسان الذي كرّمه الله ، فميّزه على كافة مخلوقاته بالعقل الناقد المُبدع ، الذي اكتسب به صفته المميزة عن غيره من الكائنات ككائن "صانع للأدوات" ، هذا العقل- الذي يتوق بطبيعته للمستقبل - لا يمكن أن ينطلق ليبدع ويحقق المعجزات وتتحقق به حكمة الله في الأرض دون حرية العمل والنقد والتنفيذ ، وهى الحرية التي تقيّدها وتقيّد فعلها المُحتمل سلطة الماضي وجثثه التي ترفض مواراتها التراب ، مُتمثلةً في المصالح المهيمنة والأنظمة الحاكمة المتواطئة معها ، كونها ترى فيها ، تلك الحرية اللعينة ! ، وفي العقل الذي لا تتحقق فاعليته بدونها ، تهديداً لبقائها واستمرارها .

هذه المصالح والنظم التي تعوق التنمية والتحديث بتسلّطها على الجسد الاجتماعي للأمم النامية ؛ كونها تتضرر من متطلباتهما من ناحية ، وكونها عميلة ومتواطئة مع قوى الهيمنة العالمية المُؤمِنة لبقائها من ناحية أخرى ، هى ما تمنع انطلاق ذلك العقل ؛ بإعاقتها وإحباطها لإمكانات نشوء بيئة ملائمة وحافزة لعمله النقدي والإبداعي الحافز للتقدم ، سواء بمتطلبات وجودها ذاته ، أو بما تحميه وتدافع عنه من احتكارات مرتبطة بها على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية .. إلخ ، فيما تهرب من التزامات المستقبل بالتغني المُسرف بالماضي التليد ؛ فتكتفي في مواجهة إلحاح مطالب شعوبها وحرج التحديات التي تجابهها أمتها بما لا تجيد غيره وما لا يكلفها الكثير من خطابات شعاراتية ماضوية خاوية من المضمون ، وهى خطابات فارغة تناسب تماماً شعوباً تمت إدامة جهلها وتخلفها لتكون خاوية العقول ساخنة المشاعر ، تحركها الخطابات الهُوياتية والشعارات الساخنة لا الحقائق المادية والأفكار الواقعية ، وتذهلها الأوهام الذاتية والبيانات المُتشدقة بالماضي المجيد عن مستقبلها وواقعها الملموس !

وهكذا لن تتقدم شعوب العالم الثالث ، لتصبح قوىً يحسب الجميع حسابها ، وبناة حضارة تقدم للإنسانية ما تحترمها وتقدّرها لأجله ، إلا بالأخذ بأسباب التقدم المعروفة ، وبذات النهج الذي كفل نجاح الغرب وفشلها ، وهو نبذ الاستبداد والاعتباطية والشعاراتية والماضوية ، والعمل في كافة شئونها بشكل منهجي يتجسد في "منظومة عمل تتسم بالكفاءة والعقلانية ، تستهدف التقدم ، وتنطق من الإنسان" ، فتعمل على بنائه اسماً ورسماً وعقلاً وبناءً ، وهو ما لا يؤتي أُكله إلا بإطلاق حريته التي بها تكتمل إنسانيته وتتحق رسالته في إعمار الأرض .