أكتبُ ما يحلو لي رغم أن هذا يسبب لك مشكلة


مزوار محمد سعيد
2016 / 6 / 21 - 08:39     

نتحدث كثيرا حول حرية التعبير، حرية ابداء الرأي، الحق في إعطاء النصائح، وتحمّل مسؤوليات الكتابة أو الكلمات، مهما كانت طبيعتها، ومهما بلغت درجة حدّتها، بالشكل الذي يجعل من الأرضيات المختلفة لصناعة الرأي العام مكانا فسيحا للغاية، تتلاقى فيه الأفكار وتتجاذب الثقافات حمولاتها بشكل لامع جدا. لنا في شوارع أثينا وأسواقها مثال حيّ على تلاقي هذه الأفكار، ولنا في ساحة مجالس شيوخ روما صورة حضارية لتلاقي المعاني أيضا، لنا في سوق بغداد الشعبي، وشوارع اشبيلية في زمن مضى منارات فكرية مضيئة، كما لنا في منتديات الجرمان والإسبان، الفرنجة والانجليز، وجامعات الصين واليابان وأميركا، أمثلة عما نقول، لكن بصور أكثر قربا منا. الثقافة الحية هي التي تنشط عبر تغذية عقول أهلها بما يفيد، حين كانت مجالس العلماء أكثر حضورا من مجالس الشعراء كانت حضارات كثيرة عبر التاريخ البشري أكثر رخاء، لكن عندما صارت حفلات أشباه المغنيين أكثر حضورا من صالات محاضرات الجامعات، فقد صارت هذه الحضارات عالة على أبنائها. في الألفية الثالثة ومع بروز العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي خلاله وبمختلف الألسن، صار تلاقي الأفكار أكثر سهولة، فنصف ساعة تكفي حتى تمرّر ذهنك على أكثر من عشرين لسانا وثقافة، عبر ملايين الكلمات وملايين الفيديوهات والصور، صار التعبير أسهل وأرقى لدى الأمم المتفتحة، وأكثر من تهمة لدى الفئات الغريقة من البشر. أقرب التهم في العالم الجزائري-الأنديجاني أيضا على غرار جواره الفقير هي ما يتعلق بالكلمات، فالكلمة لا تزال تخيف الكثيرين في هذا العالم. تهمة افساد عقول شباب أثينا لا تزال حاضرة في روحي، كلما قرأت خبرا يقول بأن هناك صحيفة أغلقت، أو قناة تلفزيونية أقفلت، أو صحافيّ أختطف أو طرد أو اضطر للسكوت. الله الذي حاور ابليس، والأنبياء الذين حاوروا أعداءهم وأعداء الله، لم يحاربوا الكلمة بالسلطة القضائية أو التنفيذية أو العسكرية الترهيبية، وإنما حاربوهم بالكلمات، ولنا في كتب السماء أبلغ الأدلة على هذا. منابر كثيرة تجرعت المعاناة في سبيل ما تقوله، وشخصيات عديدة أوصلتها كلماتها التي تعتبرها "حق" لها إلى الموت، ومثال ذلك مارتن لوثر كينغ في خطابه الشهير ضد عنصرية البيض نحو البشر السود. يعتبر علماء النفس ان ردود الأفعال العنيفة بسبب مواجهات لكلمات الخصوم، تدلّ على أنّ الشخص العنيف هو شخص مفلس وموقفه ضعيف لدى يعوّض الكلام بالعنف، وهذا ما جعل الخاسر في المناظرات هو ذاك الشخص الذي يغضب بسرعة. بقدر تثمين الإنسان للكلمات بقدر إحتفاظه بالرقيّ والسموّ في التعامل مع المواقف والظروف. غياب المفاوضات أو القدرة على التفاوض يعجّل بظهور الحروب المدمّرة، التنافس حول الخطاب وبلسان سليط هو الضامن بعدم سقوط الأفراد في العنف، وأرقى صورة عن هذا التخاطب الرفيع هي هجاء الشعر العربيّ، خاصة الثلاثي الشهير من الفرزدق والأخطل وجرير. حتى الحضارات القديمة جسدت الكثير من الفنون التعبيرية الراقية كما حدث في الرسم مثلا، خاصة في النوع الباروكي الذي أرّخ للصراع الكاثوليكي البروتستانتي بشكل خال من العنف. لا عجب أن تحتوي دساتير وشرائع الحياة الحق في التعبير كواجب تلتزم الأمم بصيانته، لكن كل العجب من أناس يلقى بهم في السجون، ويعذبون حتى الموت بسبب أقل من مائة وواحد وأربعين حرفا كتبوها على صفحات المواقع الالكترونية. الأمم التي لا تقرأ فإنها أمم لا تعرف قيمة الكلمات، وهي بالتالي عمياء عن طريق الحضارة والبناء، والأمثلة على هذا كثيرة. ما الذي نتوقعه من قرصان أمام مقال في صحيفة الوول ستريت جورنال؟ مقال يذم القراصنة؟؟

[email protected]