الورقة الأخيرة من تجربتي...
أحمد الناصري
2016 / 4 / 1 - 01:25
بمناسبة ذكرى التأسيس محاولة للمساهمة في تقييم حالة الحركة الشيوعية في بلادنا ومستقبل اليسار العراقي.
(لنزرع حديقتنا بالأمل)
ينبغي لنا أن نفرح ونحتفل بكامل طاقتنا العاطفية، الذهنية والجسدية، أن نرقص بهذه المناسبة ونوقد الشموع، مناسبة عيد تأسيس الحزب الشيوعي العراقي والحركة الشيوعية العراقية، التي تبنت مشروع الاشتراكية والغاء الاستغلال والظلم والتخلف في بلادنا. ذلك الحلم الإنساني (الثقافي والحضاري) المشروع والجميل، كحاجة اجتماعية وسياسية وإنسانية.
لكنها مناسبة مهمة للمراجعة والتقييم وتقليب التجربة، بعيداً عن المدائح اللفظية غير الحقيقية حول حالة الحزب ومحصلة التجربة، بل حول كل شيء، بما فيها من نجاحات وأخطاء رئيسية ونواقص التأسيس (الموضوعية) المتأتية من إمكانيات الحركة (الفكرية والبشرية والاجتماعية) ونشؤها وشروطها، ودرجة تطور المجتمع وحالته.
علينا أن نقول كل شيء، عن طريق المنهج النقدي والمراجعات الموضوعية الهادئة، بعيداً عن التبريرية أو العدمية والخفة والتسرع، أو المنهج (الإرادوي). فلا الانشداد العاطفي الإيماني الجامد إلى الماضي ومفاهيمه ينفع، ولا العدمية التي لا ترى شيئاً مهماً في التجربة تنفع، عدا التحول نحو مواقع أخرى معادية للناس والوطن، وهو موقف مفتعل له أسبابه الشخصية والموضوعية الكثيرة (موقف غير ثقافي وغير إنساني).
بالنسبة لي، كان عام 79 وفشل تجربة التحالف مع البعث بقيادة صدام (مع اعتقالين وحشيين دامين في أقبية مديرية أمن الناصرية الرهيبة والأمن العام الرهيب ببغداد على يد خائن بائس يعرفه الحزب والمدينة، وقد خرجت قوياً ومنتصراً من التجربتين، رغم الأضرار الجسدية المخيفة)، نقطة تحول في وعيي وأسلتي الجديدة، وهذا يناسب عمري وتجربتي آنئذ.
مع لجوئي إلى الجبل واعتصامي به حتى عام 93، كانت هناك فرصة نادرة ومختلفة، كي اتعلم المنهج النقدي، الذي يبدأ بالسؤال، وأفحص وأسال عن كل شيء، واراجع كل شيء، وأطلع على كل شيء، ولا اقبل بأي شيء دون معالجة عقلية، لأطل على المشهد العراقي برمته من شرفة في الجبل، لكي أعرف الكثير والكثير عن الوضع الحقيقي وليس الافتراضي أو الخيالي، حول وضع الحزب وحياته الداخلية وامكانيات القيادة (القيادات) والكادر المتقدم والوضع الفكري والتنظيمي والسياسي للحزب. لقد سألت وناقشت وجادلت حول كل شيء، بدءً من فشل تجربة التحالف والخسائر الجسيمة المروعة التي تعرض لها الحزب، وأسباب ذلك الفكرية والتنظيمية والسياسية، وطالبت مع مجموعة من الرفاق الشباب الجدد وعدد صغير من الكادر القديم المتقدم، بعقد مؤتمر استثنائي لتقييم التجربة وتشخيص وتحدد الأخطاء الرئيسية، الفكرية والسياسية والتنظيمية، التي وقعت فيها القيادة وتحديد المسؤولية الشخصية والجماعية ومحاسبة المقصرين عن كارثة الحزب الجديدة. من هنا بدأ الخلاف الجذري مع قيادة الحزب (الرسمية) التي أصيبت بالصدمة واتخذت اجراءات وبوليسية سرية عجيبة (تجسس وتقارير) انتهت باعتقالنا وتعذيبنا وتصفية الشهيد منتصر. بعد إن قال عنا عزيز محمد بأننا سرطان يجب استئصاله (اجتثاثنا وقتلنا)، وكنت قد انتقلت بعد ذلك لمراجعة كل التاريخ السابق والمراحل الخاصة والحاسمة في حياة الحزب ومسيرته منذ التأسيس ومواصفات العناصر القيادية وامكانياتهم الفكرية.
إن أبرز ما توصلت أليه من خلال تجربتي ومتابعتي الدقيقة لوضع الحزب وحالته الداخلية وإمكانياته وسياسته وشعاراته ما يلي..
- هناك نقص بنيوي في التأسيس، بسبب الامكانيات الفكرية المحدودة في بلادنا في العشرينيات من القرن الماضي، وقلة المصادر الماركسية والفكرية المترجمة أو المكتوبة بالعربية. هذا النقص الذي أرتبط وترافق مع تخلف اجتماعي تاريخي عام في بلد متخلف وتابع، ليتفاقم ويتحول إلى معضلة حقيقية، أتسم بها العمل الفكري للحزب كل حياته، والموقف من الثقافة والمثقف وتبعيته للمسؤول السياسي، وتأثير ذلك على صياغة شعارات وبرامج وسياسة صحيحة وديناميكية!
- التأثير الخطير والحاسم لما يسمى بالماركسية السوفيتية ونسختها المشوهة (الستالينية)، باعتبارها ليست الماركسية، وهي تتعارض مع جوهرها الجدلي الجديد
- إن مبادرة ونشاط عاصم فليح وفهد (كقائد شعبي) والرفاق الرواد كان مهماُ وجديداً، لكنه غير كاف كي يغطي كل عمل ونشاط الحزب التنظيمي والفكري والسياسي والجماهيري والإعلامي
- ومع ذلك فقد انتبهت المخابرات البريطانية والسلطة الملكية الرجعية إلى صفات فهد القيادية وقررت تصفيته وقتله هو ورفاقه، دون سبب حقيقي يذكر، لتحصل خسارة حقيقية وفراغ لا يعوض، كذلك قامت بتصفية الشهيد ساسون دلال الشيوعي الذكي والجريء والمبادر. بعد هذه الضربة الماحقة ونتائجها القاسية على الحزب، تمكنت الشرطة السرية من اعتقال ستة لجان مركزية، كانت تتشكل بسرعة لسد الفراغ الحاصل نتيجة الحملات البوليسية الشرسة المتلاحقة، بين أعوام 47 تاريخ اعتقال فهد وبعد اعدامه في 14 شباط سنة 49، وقد استطاع الرفيق بهاء الدين نوري القادم من قرية التكية في ريف قره داغ التابع لمدينة السليمانية أن يقود لجنة مركزية مستقرة استمرت حتى عام 53 حيث جرى اعتقاله، ومجيء حميد عثمان الذي جرى طرده بعد فترة قصيرة وصعود سلام عادل وعقد الكونفرنس الثاني عام 56 ليبدأ نوع من الاستقرار والعمل الذي أدى إلى توحيد الحزب وتوسيع النشاط الجماهيري والوطني وقيام جبهة الاتحاد الوطني التي مهدت وحضّرت لقيام ثورة 58 الوطنية.
- هناك فرق كبير بين مبادرة هؤلاء الرفاق، الصحيحة والجريئة للتصدي بحماسة كبيرة للعمل الصعب والخطير وبين امكانياتهم الحقيقية وخبرتهم للقيام بهذه المهام الكبيرة. هنا حصل النقص والخلل والتأثير النوعي على حياة الحزب ومستقبله.
- لقد تكرست هذه النواقص والاختلالات بعد نجاح ثورة 58 الوطنية مباشرة بشكل واضح وكبير، في كفاءة القيادة، والفشل في طرح وتحقيق المهام الجديدة، لتعزيز الاستقلال الوطني وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية وقضية الحريات الأساسية، وحل المشكلة الكردية، وطرح برامج اقتصادية وزراعية وثقافية جديدة. أن عمر وخبرة الرفاق ووجود أعداد كبيرة منهم في السجون منذ نهاية الأربعينيات حتى عام 58 وعزلتهم عن الحياة الطبيعية، والتأثير والنفوذ السلبي والحاسم للسوفييت على سياسة الحزب والصراعات الداخلية التي ادت إلى إرسال سكرتير الحزب إلى موسكو بقصد (إعادة تثقيفه) ثم عودة السكرتير سلام عادل وعزل ما سمي مجموعة الأربعة من المكتب السياسي. والحزب لم ينجح في عقد مؤتمر وطني أو كونفرنس لطرح برنامج جديد للوضع الجديد. وذلك مؤشر مهم على حالة الحزب. بينما كانت مؤشرات ومقدمات الانقلاب الفاشي الوحشي تتجمع بصورة واضحة ومعروفة لقتل الثورة وتدمير الحزب، لكن الحزب بسبب وضعه الداخلي لم ينجح في التصدي للانقلاب الفاشي.
- ما قبل كارثة 63 ليس مثل ما بعدها. هناك تحول نوعي خطير بكل ما يخص الحزب وامكانياته ومستقبله.
- في آب 64 وحسب توجيهات سوفيتية وفي ظل قيادة ضعيفة صدر تقرير آب وتم القبول بخط آب الذي طالب بحل الحزب في الاتحاد الاشتراكي العارفي.
- بعدها في عام 65 تم القفز في الهواء وإلى الأمام حيث طرحت نفس المجموعة خطة العمل الحاسم، كدليل على التخبط
- عام 67 كانت محاولة مهمة، لكن ناقصة ومشوشة لإنقاذ واستعادة الحزب بقيام انشقاق القيادة المركزية
- عام 69 وبعد بيان 29 تموز عام 68 المشوش من الانقلاب بدأت خطط صدام وناظم كزار السرية لتحجيم الحزب وفرض خط واحد وخيار واحد على الحزب
- حملة الاعتقالات والاغتيالات الوحشية الواسعة بين عامي 69 – 71 ونتائجها الوخيمة على الحزب.
- عام 73 وبعد مفاوضات طويلة أشرف عليها صدام من الطرف الآخر جرى توقيع ميثاق العمل الوطني
- في نفس الوقت طرح صدام خطط وتوجيهات لتحجيم واحتواء الحزب واخضاعه من خلال الاندساس الشامل به
- عام 87 كان كل شيء مهيأ وجاهز لتصفية وجود الحزب العلني ضمن حملة اعتقالات شاملة ومخططة كان ضحيتها 250 ألف معتقل حسب احصائية ذكرها عزيز محمد في كردستان
- لم تكن لدى القيادة أية خطط للمحافظة على الحزب والدفاع عنه وعن ورفاقه، أمام حملة شرسة شاملة
- عام 79 لجوء وهروب عشوائيين نحو الخارج والجبل. الحزب بقيادته التقليدية لم يكن مهيأً لأي وضع او تحرك جديد
- كانت المهمة الرئيسية هي إعادة بناء الحزب كأداة للعمل السياسي قبل البدء بالعمل الجديد.
- بدأ الصراع القيادي حول الوضع وبين القاعدة والقيادة.
- تهربت وتخلفت القيادة عن المراجعة وتشخيص الأخطاء والمحاسبة والتغيير.
- كان التجمع المسلح بغرض التفاوض مع صدام وعودة (المياه إلى مجاريها) كما صرح أحدهم في قاعدة ناوزنك.
- لم تطرح القيادة برنامجاً سياسياً او عسكرياً للعمل المسلح.
- لم تهتم بالتدريب والتسليح وتكوين كادر متخصص.
- جرى التعويل على الاجتياح الإيراني للبلاد أو انتظار انقلاب عسكري
- لم يكتمل الاعداد والتحضير للعمل الجديد، حتى حصلت مذبحة بشتآشان عام 83، بسبب وحشية وعمالة جلال الطالباني وقصور وتخلف قيادة الحزب في فهم الأحداث والمخاطر.
- لم تتوقف الاتصالات بالسلطة وصدام بواسطة الوسيط مكرم الطالباني.
- عام 88 وبعد اسبوع على توقف الحرب العراقية الإيرانية جرى اجتياح كردستان يوم 16 آب عام لتنتهي التجربة عملياً.
- لقد خضنا صراعاً فكرياً شاملاً حول حالة الحزب والأخطاء الرئيسية الكثيرة والمتكررة ووضع القيادة. المشكلة الرئيسية التي واجهتنا في كردستان، هي المكان والوضع غير الطبيعي في الجبل والعزلة والبعد عن الناس والمدن. ورغم استجابة أعداد كبيرة من الرفاق إلا إن الكوادر المتقدمة التقليدية بقيت تابعة للقيادة، وهي لا تفكر بالمشاكل والأزمة الجديدة لأسباب عديدة أبرزها القصور والجمود الفكريين والخوف من العزل والتهميش والعقوبات الحزبية القاسية. وكان قسم آخر من الرفاق بسبب قلة خبرتهم وتجاربهم غير قادرين على خوض صراع من هذا النوع، وكانوا ينتظرون ما تقوله القيادة لهم وما ينزل عليهم من فوق، وكان قسم آخر ينتظر بلهفة وقلق الترفيع الحزبي او الزمالات الدراسية إلى الخارج. بينما ساهم عدد منهم في التجسس وكتابة التقارير ضدنا بتكليف من القيادة وجهاز الأمن الحزبي.
- كانت أساليبنا وآراءنا تتسم بالجرأة والقوة والوضوح. كنا نطرح آراءنا بشكل علني في الندوات واللقاءات مع القياديين وفي النقاشات اليومية مع الرفاق. مما دعاهم لوضع خطط لمراقبة ومتابعة مواقفنا. لم نمارس إرهاباً فكرياً يسارياً. كان النقاش والجدل والحوار هو الأساس، بينما استخدم بعض الرفاق السخرية والتهكم من الوضع والأخطاء والقيادة والكادر التابع، لكن ذلك لم يكن اغتيالاً معنوياً إنما أسلوب من أساليب النقد والتخفيف من ثقل الحياة الجافة في الجبل... كان تأثير الثقافة والفكر محدوداً وضعيفاً الى أبعد الحدود في تجربة الجبل (ربما يصح أن نقول إنه معدوم). كما اتسمت تجربة الجبل بظاهرة الترك والانسحاب المبكرة من الحزب والتجربة لأسباب فكرية وتنظيمية وسلوكية كثيرة، كموقف رافض للوضع. كما إن صعوبة الحياة الجبلية كانت سبباً لتركها في بعض الحالات المحدودة. لكن الانسحاب الكبير والشامل حصل بعد نكسة بشتآشان حيث يقدر عدد المنسحبين من كردستان ب 1000 رفيق! بينما كنا نستعد للذهاب والعودة إلى ما سمي بشتآشان الثانية!
- لقد توفرت في كردستان فرصة اخيرة للبقاء على وضع الحزب التقليدي السابق والحفاظ على بقايا إمكانياته وسمعته، عن طريق تسوية داخلية فيما بينهم. لكن الطرف الآخر كان يخطط ويتصرف بشكل تآمري اقصائي آخر. وهكذا انتصرت كتلة عزيز - فخري التخريبية وسيطرت على مقاليد الحزب وامكانياته بشكل كامل ونهائي وأخير لكن غير شرعي. حيث طرد نصف القيادة النصف الآخر في الم}تمر الرابع عام 85، كما قال عزيز محمد. وبذلك انتهى كل شيء وتحول الحزب إلى حزب ثانوي صغير، يتبع الأحزاب الكردية في كردستان. والان هو بقايا حزب صغير وثانوي، يتكا على ماض ملتبس، تديره مجموعة من الأصدقاء فيما بينهم، وهم منفصلون عن الواقع ولا يسمعون أي شيء لا يعجبهم.
- لقد حصلت في التجربة (الجبل ومذبحة إعادة تنظيم الداخل التي أشرف عليها الأمن العام ولم تكشف أو تعالج ملفاتها وقد طواها الزمن بشكل مقصود) خسائر بشرية كبيرة مروعة، غير مبررة وغير مطلوبة، بسبب أخطاء كبيرة ومتكرر وضعف عام كان لها ان لا تحصل.
- إن هذا الضعف والهزال الجديد قد أثر في مواقف الحزب العامة والوطنية، بما يثلم مواقفه الوطنية المعروفة، وهذا تجسد في دخول مؤتمر الجلبي وتأييد الحرب والاحتلال والدخول في مجلس الحكم والمواقف الخاطئة اللاحقة إلى الآن.
- آخر مرة كتبت ورددت على مواقف وسياسة الحزب الجديدة، هي الرد على تقرير المؤتمر الثامن، الذي يبرر بشكل عجيب الموقف من الاحتلال والقبول بالوضع السياسي الطائفي والمشاركة فيه.
- لابد لي القول بأنني اعرف ولا أنكر ولا أقلل من الأعمال والمواقف الفردية الجريئة والرائعة لعدد كبير مجهول من الرفاق الذين قاموا بأعمال بطولية في كردستان والداخل، لكن ذلك لا يرسم ولا يقرر ولا يصحح السياسة العامة التي ظلت خاطئة.
- أقدّر السرعة والاختصار بهده المادة التي تصلح كمقدمة او مشروع دراسة تفصيلية عن كل المواقف والحوادث الرئيسية المذكورة وغيرها من المواقف ودعمها بالآراء والوثائق والشهادات، وهو مشروع قائم يستحق التعب والجهد والانجاز.
- قد تنفع هذه الورقة المتواضعة والمكثفة للمساهمة في رسم حالة اليسار الوطني القادمة وتأسيس لحوار في ضوء الكارثة الوطنية المتفاقمة.
لابد من الأمل...
تحية للشهداء والرفاق والأصدقاء.