|
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
|
خيارات وادوات |
|
المِلح بالكردي والعربي
في الطريق الذي سلكته في العام 1991 لمغادرة العراق، مضطرّاً، عن طريق شمالنا الحبيب "اقليم كردستان" كان من بين مقتضيات وترتيبات هذا الخروج هو المرور أو المكوث بعدّة مدن وقرى وبلدات كردية أو مسيحية ما كان لي ان أراها لولا ذلك. وكانت فرصة نادرة بحق لاكتشاف والتعرف على هذه المناطق الساحرة، بما للكلمة من معنى، بطبيعتها وأُناسها، وقد اتسعت مساحة تنقلي وتعدّدتِ الأمكنة التي قصدتها بسبب من أن وجهتي المقرّرة الأولى كانت ايران، ظاناً أنّ دخولها أيسر من غيرها، لكني صرفت النظر عنها بعد أن نصحني صديق، بإخلاص، بالعدول عن ايران، صادف أن التقيته في شقلاوة وكان عائداً من هناك. تعدّدت المناطق التي زرتها، كما ذكرتُ من قبل، أو تلك التي مررتُ بها مجرد مرور، أمكنة لا يمكن نسيانها، بأيّ حال، ومنها السليمانية، سولاف، دهوك، ديانا، الحاج عمران، شقلاوة، زاخو، وفيشخابور، هذه التي كانت المحطة الأخيرة، قبل العبور الى سوريا، بعد إن عدلت عن وجهتي الأساسية ايران، رغم بلوغي خط حدودها، في محاولة دخول أولى. ليس هذا ما أردتُ قوله، على أهميته، ربما. لكن أردتُ استحضار الجو الذي أنفذ منه الى الحكاية التي انغرست عميقاً في ذاكرتي، بحروف عميقة مضيئة، حكاية صغيرة تنفع أن تكون درساً هو على بساطته يفصح عن قدر كبير من الحكمة والتبصّر، رغم ان صاحب هذا الدرس، بل قل "المعلّم" هو انسان بسيط وفقير بما تعنيه هاتان الكلمتان، بل حتى كان محدود التعليم، غير انه يتمتع ببُعد نظر، للأسف لا يملكه كثير ممن يُمكن أن يُطلق عليهم تسمية مثقفين أو متعلمين. شهدتُ هذا الدرس في مدينة السليمانية في حي آزادي في بيت صغير لرجل وامرأته وطفلهما الذي كان بعمر الأربع أو الخمس سنوات. عائلة صغيرة، عرفني عليها صديق كردي قريب لها، تركتْ أجمل وأبلغ أثرٍ لديّ، لطيبتها ولُطفها وتواضعها، مقروناً كلّ ذلك بالدرس ـ مدار هذه الكلمة ـ الذي قدمه الأب لطفله، درس، يجدر أن يتمثّله أحبتنا وأهلنا الكرد مع أطفالهم وأن يكون، أيضاً، باعثاً على زيادة حضور اللغة العربية في مرافق التعليم كافة في كردستان، لا أن يحدث العكس وهو انحسار العربية حدّ الانعدام، ربما، كما تُشير الوقائع الى ذلك. الدرس يتلخص في أنّ الأب حينما كان يكلّف ابنه الصغير أن يُحضر شيئاً، فكان يقول له اسم الشيء المطلوب أولاً بالكردي ومن ثمّ بالعربي: ملح، خبز، ماء، ملعقة... الخ. وحين سألته متعجباً عن سبب ذلك أجابني بكلمات تنم عن بصيرة وذكاء وفي الوقت ذاته عن احساس بالشراكة الحقّة في الوطن العراقي، احساس، شبه فطري. إن روحاً كهذه هي المرجعية الحق لا الشعارات الفارغة التي لا تؤدي الى شيء، بل تضمر النقيض في الغالب. كان جوابه ويكاد يكون حرفياً هنا: ان هذا هو وطنه ولابدّ أنه في يوم ما يحتاج الى التعامل بهذه اللغة. هذه صورة كأنها تأتي من زمن آخر لفرط "رومنسيتها" كما قد يحسب البعض قياساً الى الصورة النقيض، القاسية التي أخذت تبسط ظلها هناك في السنوات الأخيرة حدّ التطيّر من الحرف العربي، رسماً وصوتاً. ومقابل "طفل الملح" ثمة طفل كردي آخر، اليوم، بالكاد يسمع شيئا باللغة العربية، كما يشير الى ذلك تقرير بهذا الصدد، (فتكريد الثقافة كما يجري حاليا في كردستان، وإطلاق العنان للمشاعر القومية والاعتزاز بالهوية القومية، سيؤدي في المحصلة إلى نشوء جيل لا يفهم لغة الضاد إلّا عبر مترجم)، كما يؤكّد التقرير الآنف للكاتب والصحفي شيرزاد شيخاني. ولا يخفى أن للسياسة يداً شوهاء في القطيعة اللغوية والثقافية بين أبناء الوطن الواحد. والخسارة هنا متبادلة بين الطرفين العربي والكردي فللأول يعني فقدان امكانات ومواهب كبيرة ومتنوعة يمكن أن تغني الدولة العراقية وتضفي عليها التنوّع كما هو الشأن دائماً ومنذ تشكيل هذه الدولة في العشرينات، أما الكردي حسبه أن يخسر لغة القرآن. ومثلما هناك تعزيز لتعليم اللغة الكردية في المدارس العراقية الذي ابتدأ منذ السبعينات في المرحلة الاعدادية بفروعها كافة، يكون التطلع الى أن تحظى العربية في مدارس الإقليم بما يليق بها وبمقدار ما تعود به على الأشقاء من فائدة طالما هم شركاء.
|
|