حنا بطاطو والحركة الشيوعية العراقية [ 3-3 ]


عزيز الحاج
2012 / 2 / 20 - 09:03     

القسم الأول: استدراكات:

آسف لأنقطع قليلا عن تسلسل المقال التوثيقي، لكي أعرج على بعض الاستدراكات والإيضاحات، وبعدئذ سأعود إلى الموضوع، لأتناول ما يخص عمليات القيادة المركزية كما وردت عند بطاطو وسواه، وكذلك موقع تلك الحركة بين تيارات الحركة الشيوعية الدولية عهد ذاك.

لقد سئلت عن كاتب بيان لفيف" في براغ، والجواب أن الكاتب الرئيس هو هشام البعاج الذي كان طالبا جامعيا ومن أصدقائي، وكان شابا نبيها وذكيا.

وقيل لي إن حنا بطاطو لم يخطئ في وصف مهنة المرحوم الوالد. ولا أعرف سند المتشكك بكلامي، والذي علق بروح من الغمز والتحامل على الوالد وعلي. ولكي لا نتهم المترجم بالخطأ فلنرجع للائحة المرقمة 23-1 بعد الصفحة 571 من النص الإنجليزي، وفيها عن مواصفات عزيز الحاج: [القومية، والميلاد ، والمهنة، والشهادة المدرسية]. ثم يأتي للأصل الطبقي كالتالي:

….. working class – son of a porter - class origin

.واستنادا لذلك كتب الباحث عباس الكليدار في الكتاب الذي مرت الإشارة إليه ما يلي باللغة الإنجليزية :

Aziz al- Haj - Acommunist Radical -… He was borne into a poor Fuili Kurdish family…….. ………………Page 185 –The Integration of modern Iraq


قصدي هو ما كتب عني وعن الوالد في الكتب والدراسات والمقالات الصحفية وليس ما يعرفه عنه الفيلية. وطبعا يعرفون الوالد الذي كان أحد أعمدة تأسيس الجمعية والمدرسة الفيليتين بعيد الحرب العالمية الثانية، هو مع فريق من الشخصيات الفيلية، ما بين تجار ومثقفين. وقد تم غمز الوالد ولمزه أكثر من مرة من بعض من يحتقرون مهنة العامل وكأنها سبة. وحتى أن أحدهم كتب مقال تحامل على "ابن الحمال هذا". وقد تراجع فيما بعد مشكورا.

أبي لم يكن لا صاحب مليارات ولا مليونيرا، ولا سارق ثروات البلد من أمثال فاسدي هذا الزمان، ولكنه كان رب عمل من البورجوازية المتوسطة ومرفه الحال، كما لو كان مثلا صاحب معمل صغير من ثلاثين عاملا وما شابه. وهو، عدا أجور العمال، كان يدفع رواتب لعدد من الكتاب والمحاسبين. وكان عطوفا على العمال وحتى يشارك في نفقات تزويج بعضهم. إن الذين لا يزالون يحلمون بالقضاء على الفروق الطبقية إنما يبنون على رمال وأمامهم مصير الأنظمة الشيوعية الشمولية التي انهارت الواحد بعد الآخر. وانظروا للفروق الكبرى في مستوى المعيشة بين كوريا الشمالية الشمولية وكوريا الجنوبية, أو كوبا التي يحلم كثيرون من أبنائها بالهجرة لأميركا بالذات. وحتى الصين التي اختارت اقتصاد السوق، وصار اقتصادها عالميا، يعاني عمالها وكادحوها من الاستغلال القاسي، بسب بقاء النظام السياسي الشمولي، وربما اشتغل العامل 82 ساعة في الأسبوع مقابل 20 أو 22 دولارا في الشهر. ليس كل غني شيطانا وليس كل كادح ملاكا. والحاج علي حيدر الغني هو الذي لم يلُم ولديه يوما على الانتماء الشيوعي في ظروف قاسية جلبت عشرات المتاعب للعائلة كلها. وهو الذي كان يرسل أكداس المأكولات والبجامات للسجناء الشيوعيين في نقرة السلمان. وهو الذي توسط لتوظيف سلام عادل مدرسا في المدرسة الفيلية بعد فصله من وظيفته الحكومية بسبب نشاطه السياسي. وهو الذي شجع ابنه الشيوعي على التبرع بالتدريس مجانا في المدرسة الفيلية وأنا في الصف النهائي من الكلية، فتطوعت مع شيوعيين آخرين هما الشهيدان ممدوح الآلوسي وعبد الأحد المالح. وهو الذي كان أكثر أصدقائه من اليسار والديمقراطيين كناجي يوسف والشهيد عبد الجبار وهبي والجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وكامل الجادرجي. وهو الذي لم يمنعه أصله الطبقي من المشاركة في خطة لتهريب عشرة من كوادر الشيوعيين في سجن الكوت عام 1952، وبسبب ذلك تم اعتقاله شهورا على أثر انتفاضة تشرين الثاني. إن الصحيفة التي نكتب فيها اسمها الحوار المتمدن، والتمدن في الحوار يعني الموضوعية والنقاش الهادئ ورد المعلومة الخاطئة بالمعلومة الصحيحة والموثقة، وليس إلقاء الكلام اعتباطا. كما لا أرى داعيا لاختيار أسماء مستعارة وكأننا نخشى سيفا مسلطا علينا!

إن الأصل الطبقي للمناضلين الثوريين ليس ذا علاقة عضوية ومباشرة بالصلابة الفكرية أو الصلابة "الأمنية". والنظرية الماركسية نفسها هبطت على الطبقة العاملة من خارجها- وأعني المثقفين الكبار، ومنهم من كان على رفاه نسبي معيشيا. ولو أخذنا كبار الزعماء الشيوعيين في العالم سابقا ولاحقا لوجدنا أن قلة منهم هم من أصول كادحة. وكون الشيوعي عاملا لا يعني انه بالضرورة سيبكون أكثر إخلاصا للمبدأ من المثقف الشيوعي. ولدينا عشرات الأمثلة وعشراتها من الحركة الشيوعية نفسها. وقد مرت فترات- ولاسيما في أعوام 1949 -1955 حين كانت القيادة الشيوعية تزدري المثقفين الشيوعيين، وتقدم للمراكز الهامة عمالا قليلي الخبرة والأقل مستوى وهو ما ترك أثاره على تخبط السياسات والمواقف. فالعمل السياسي ليس نشاطا نقابيا. وعامل السجاير الشيوعي القديم "فعل ضمد" هو من دل على البيت الحزبي لفهد في بداية 1947 فتمت الاعتقالات الكبرى. وعلى كل، فإن الأمور ليست مطلقة بل هي نسبية ولا توجد قواعد عامة.

هذا وقد أورد الأستاذ الفاضل رعد الحافظ تعليقا حول الندم على الأفكار، وأشار لعدد من الشيوعيين السابقين. ويجب أن نضيف الأستاذ كريم مروة. كما أن هناك، عدا قول برنارد شو، ما قاله برتراند رسل: " لست مستعدا لأن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير." وقال فيكتور هيجو: " إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغير منذ أربعين سنة. فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري. إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها." وهناك مكسيم رودنسون الذي كان شيوعيا منظما في الأربعينات، وفصل من الحزب في الخمسينات، واتخذ موقف الماركسي المستقل في السبعينات، ثم خرج على الماركسية فيما بعد. وقد قال عنه أحد النقاد: "إن تلك النقلات لم تكن انتهازية وإنما عبارة عن تطور طبيعي لمفكر يعمق أسئلته و أجوبته أكثر فأكثر كلما نضج حياتيا وتقدم في العلم والمعرفة والعمر." ويقول علي الوردي: " الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة العبسي." وهذا في رأيي موقف من يريدون محاربة العولمة ومن لا يزالون يحلمون بزوال الطبقات وحلول الشيوعية مع كل احترامي لهم. وهنا أهمية النقاش والحوار المتحضر والهادئ لأن الحقائق نسبية على أية حال. ولرفع الالتباس، فإن مثل تحولات من مر ذكرهم وغيرهم لا تجب مقارنتها بالتقلبات المصلحية السريعة، سواء بين بعض النخب أو بين شرائح من الناس العاديين. فهل ننسى مثلا أن فريقا من سكان مدينة الثورة و النجف والجنوب كانوا متماهين تماما مع الزعيم عبد الكريم قاسم، ثم انقلبوا مع الحرس القومي، ثم صاروا في فدائيي صدام، وأخيرا انضموا لجيش المهدي وكتائب أهل الحق وكتائب اليوم الموعود؟؟

وأقول أخيرا إن هناك مبادئ وقيما إنسانية وتقدمية أساسية هي التي لا يجب أن يتغير الإيمان بها مع تغير المواقف الفكرية والسياسية، خاصة الموقف الديمقراطي الإنساني من حقوق المرأة، والعلمانية التي تحترم وتضمن الحرية الدينية، وحرية التعبير والرأي، والدفاع عن الكادحين، والتزام حقوق القوميات والأقليات القومية والدينية والمذهبية، والعدالة الاجتماعية، والإيمان بالإعلان الدولي لحقوق الإنسان.

هذا وأسف مرة أخرى لانقطاع تسلسل المقال الذي هو للتوثيق التاريخي. وشكرا جزيلا وتحية لجميع المعقبين واحترامي لهم.

[ ينبع]

الحوار المتمدن في20 شباط – فبراير-2012