مشاهدات وأفكار من -ليلة السفارة-

كميل داغر
2011 / 8 / 6 - 01:10     

مشاهدات وأفكار من "ليلة السفارة"
حين شاركتُ في الاعتصام أمام السفارة السورية ، ليل الثلاثاء الماضي ، تضامناً مع أهلنا ، في سوريا ، الذين يتعرضون ، منذ أواسط آذار/مارس الماضي ، للقمع الدموي الشرس ، من جانب نظام بلدهم ، كنت أتوقع أن يحصل ، بالضبط ، ما حصل ، على أيدي شبِّيحة السفارة ، بحق المعتصمين . فعند هذه الدرجة من شعور النظام المذكور بالانحشار في الزاوية ، وبعد أن بدا واضحاً أنه يخوض آخر معارك وجوده الطويل ، والعَصيِّ على الاحتمال ، من المفترض أنه بات يصعب عليه أن يرى مدى الرفض الذي يُقابل به ، ليس فقط من جانب الشعب المذكور ، بل أيضاً من جانب كل المتضامنين مع هذا الأخير . ولا سيما حين يكون هكذا موقف صادراً من قوى تقدمية وديمقراطية تنتمي لشعب سبق أن ذاق الأمرَّين ،هو الآخر ، خلال عقود من هيمنة النظام المذكور المخابراتية ، الكريهة ، على الدولة والمجتمع اللبنانيين .
لم تمر دقائق قليلة على وجودنا الصامت ، بالمناسبة ، مؤقتاً على الأقل ، حتى رحنا نشاهد مجموعتين من حَمَلَة صور الرئيس السوري تتقدمان من جهتين مختلفتين ، واحدة من زاروب متفرع من شارع جاندارك ، حيث مركز الحزب القومي السوري ، والأخرى من زاروب آخر متفرع من شارع الحمرا الرئيسي . وفقط حين وصلوا ، وهم يُفَدُّون الأسد الإبن ، "بالروح والدم" ، على جاري عادتهم ، بدأ المعتصمون ، المتضامنون مع ضحايا الرئيس المذكور ونظامه ، يهتفون لأجل حرية الشعب السوري ،وتضامناً معه . ولم تنقضِ أكثر من دقائق معدودات ، ربما ثمانٍ أو عشر ، قبل أن يزداد سعار شبّيحة السفارة ، بشكل ملحوظ ، ويندفعوا نحونا بعدوانيةٍ قلَّ نظيرها ، وقد ظهرت فجأةً معهم أدوات حادة متنوعة ، ليس أقلَّها العِصِيُّ والسكاكين والكراسي ، التي استخدموها بأقصى العنف ، ضد الجمهور المسالم ، الذي كانت نسبة هامة من أفراده من الفتيات .
ومن الواضح أنه لم يكن ثمة مجال لدى هؤلاء للصمود طويلاً ، في مواجهة ما بدا أنه قرار حاسم يتسلح به المهاجمون ، سلفاً ، يقضي بسحق المعتصمين ، بحيث يثنيهم ذلك ، كما يثني أيّاً غيرهم – في ظن أصحاب القرار المشار إليه – عن تكرار هذا الشكل من التعبير عن الرأي ، أمام سفارة النظام البعثي ، في بيروت ، وربما في أي مكان آخر من المدينة !! وبالتأكيد ، فإنه لم يكن ليتجرأ سفير النظام المذكور على اتخاذ قرار من هذا النوع ، لو لم يكن يستقوي بالحلفاء المحليين لهذا النظام ، الذين حسموا أمرهم ، منذ البدء ، فاصطفّوا بصورة أقل ما يقال إنها معيبة ، ومثيرة للكثير من الحزن والاستنكار ، بجانب نظام القَتَلَة ، في دمشق ، ضد الشعب السوري ، المنخرط ،
حالياً ، في السيرورة البطولية الثورية نفسها ، التي تعيشها المنطقة العربية ، منذ أوائل هذا العام .
وبالطبع ، إن ما حصل مساء الثاني من آب الجاري ، في شوارع الحمرا ،هو نذير شر مستطير ، إذا لم يتمكن كل الحريصين على بقاء هذا البلد موطناً للحريات من أن يتحولوا إلى جسم متراص ، ومعادلة صعبة ، في مواجهة الإنذار الذي مثَّلته هجمةُ مجموعاتٍ مسعورة ، شبيهة تماماً ، بتلك التي أطلقها النازيون في ألمانيا ، في الثلاثينيات من القرن الماضي ، والفاشيون في إيطاليا وإسبانيا ، في الفترة نفسها تقريباً ، ضد كل أحرار بلادهم ، مع النتائج الكارثية ، التي قد تترتب على ذلك ، في غياب قوى منظَّمة ، أو جاهزة للتنظم ، من دون إبطاء ، وتمتلك الشجاعة الكافية لقطع الطريق ، أمام تطوُّرٍ بهذه الخطورة .
وهو أمر يستدعي ، بالتأكيد ، استنهاض كل القوى الديمقراطية الحية في المجتمع ، ومعها جمهور واسع من المجموعات اليسارية ، التي آثرت ، إزاء بؤس أحزابها الأصلية ،وفي مقدمتها الحزب الشيوعي اللبناني – وقد جبُنت قيادته حتى عن مجرد إصدار استنكار بسيط للجريمة المخزية التي ارتُكبت في الحمرا – أن تقف على الحياد ، وتتفرج على ما يجري من بعيد ، عاجزةً عن تقديم إسهام ، مهما يكن متواضعاً ، لأجل درء مخاطر زاحفة أطلقت نُذُرَها بصَخَبٍ ، قبل أيام قلائل .
ونحن ننظر بالكثير من الجدية إلى ما اعتبرناه أعلاه " نذير شر مستطير " ، ولا سيما حين نعلم أن بين الأوراق التي لم تستعملها السلطة في دمشق ، إلى الآن ، تفجير الوضع لدينا ، بما قد تكون تظن أنه يخدم مسعاها اليائس لإطالة حياة الدكتاتورية البشعة القائمة هناك ، منذ عشرات السنين .
في غضون ذلك ، لا ريب في أنه ستكون ثمة حاجة قصوى لاستخدام منبر القضاء – مهما يكن يأسنا من نزاهة هذا الأخير وشجاعته – وذلك في وجه مجرمي الحق العام ، الذين مارسوا بطشهم وفاشيَّتهم ضدَّ معتصمي السفارة ، في الوقت نفسه الذي تتم فيه أقصى درجات الفضح والتعبئة ضد المسؤول الاعلى لهذه الأخيرة ، كما ضد القوى الحزبية المحلية ، الموجودة أصلاً في السلطة السياسية القائمة ، والتي تقبل بأن تدفع بمحازبيها إلى ممارسة دور بالغ البشاعة ، ضد مواطنين لهم مسالمين يؤمنون ،على عكسهم ، بأن إطلاق مقاومة حقيقية ضد إسرائيل وأميركا ، وإعادة الاعتبار لمطلب تحرير فلسطين ، يمر بتحرر الشعب السوري من سلطة غاشمةٍ مارست ، على امتداد وجودها ، دور حارس ذليل للأمن الصهيوني ، وامتنعت منذ 39عاماً عن إطلاق رصاصة واحدة ضد الاحتلال في الجولان المغتَصَب ،هو الآخر ، فيما هي تُبدي ، منذ نشأتها ، استعدادها الدائم لقهر شعبها ،بقوة السلاح ، وتصل الآن إلى درجة عالية جداً من استباحة حياته بحيث لا تتورع عن إغراق مدنه وقراه بشلال لا ينقطع من الدماء .
أبعد من ذلك ، إن الرد الأنجع على مسعى هكذا قوى لإشاعة الذعر لدى مواطنين ومواطنات يصرون على تقديم دعمهم لإخوةٍ وأخوات لهم في سوريا ، يكمن في الإعداد منذ هذه اللحظة ، ومن دون توقف ، لاعتصامات ومسيرات ، في الأسابيع والأشهر القادمة ، تعطي صورة مضيئة عما تختزنه أفئدة شعبنا من مشاعر نبيلة ، وتطلعات أصيلة إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ، ليس فقط له ،هو بالذات ، بل أيضاً لكل الشعوب ، وفي مقدمتها الشعب السوري العظيم .