هل نأخذ مصيرنا بأيادينا ونصنع مستقبلنا أم نواصل رقصة العجز والتفكك والموت؟!ا


سالم جبران
الحوار المتمدن - العدد: 1885 - 2007 / 4 / 14 - 12:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

عندما نعود لنقرأ إبداعات المفكرين والمصلحين العباقرة في بداية عصر النهضة العربية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نشعر بكثير من الاعتزاز، ولكن أيضاً بكثير من خيبة الأمل. ولعل أكثر ما يوجع هو الشعور بأن المصلحين النهضويين قبل مائتي سنة قالوا ما يخاف الكثيرون اليوم أن يقولوه!!
إن إشكاليات الصراع للخروج من مستنقع التخلف إلى ضحى النهضة لا تزال إشكاليات حادة ومعقدة تتخبط فيها أمتنا ولا تنجح في الخروج منها، بل الأخطر من ذلك أن قوى شرسة تعارض، مبدئياً، الخروج من تخلفنا ومجاراة الحضارة.
إننا نسأل، بكل الصراحة والحرقة أحقاً النهضة العلمية والاجتماعية هي المدخل إلى "فساد الأخلاق" والتحلل من القيم والذوبان؟
أحقاً إذا بقينا متخندقين في الجهل والتعصب ومعاداة العلم والحضارة وفي استعباد المرأة وفي الاحتراب الطائفي تكون تلك حياة؟ تنجز تلك الحياة حضارة؟ بل هل نبقى كأمة، إذا انطلق موكب العالم في التقدم إلى الأمام وبقينا نحن مصرين على التخلف؟
إن النهضة ليست خياراً نقبله أو نرفضه. إن النهضة هي المدخل الحتمي إلى التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي والبديل لذلك هو المراوحة في المكان، والموت البطيء والاندثار!
ما من أمة بدون تراث. وما من أمة كان تراثها قبل ألف سنة، على صورة حياتها الراهنة. كل أمة تريد الحياة ترى التقدم ومجاراة العصر واستنساخ العلوم والاختراعات حاجة حتمية، وإذا كان لا بد أن يتغير التراث وتتغير العادات ويتغير نمط الحياة طبقاً لذلك فلا بأس. بل هذا هو المرغوب وهذا هو المطلوب. البقاء المتجدد هو الثابت الدائم.
أمّا نحن أمّة العرب فبعد إرهاصات النهضة القومية في بداية القرن العشرين عدنا إلى الطائفية وعدنا إلى القبلية وعدنا إلى الاحتراب. لقد ولدنا وكبرنا ووخط الشيب رؤوسنا ونحن نعتقد أن الصراع بين السنة والشيعة هو من الماضي السحيق. إلى أن جاء يوم صار فيه العدوان على مساجد السُنة "فريضة" شيعية والعدوان على مساجد الشيعة بالتدمير والحرق "فريضة "سنية!! كنا نعتقد خلال عقود أن المصريين، انصهروا شعباً واحداً، فإذا نحن كنا واهمين، والأقباط مدعوون أن يدفعوا "الجزية" للسادة المسلمين!!! كان المسيحيون في بلاد الشام طليعة ثقافية وحضارية وقومية، طليعة لنشر العروبة التي تصهر كل العرب أمة واحدة عصرية، فإذا هم الآن "غرباء" مشكوك في انتمائهم إلى أوطانهم، وإذا "المشايخ" عندنا يتكلمون عن "الأمة" يقصدون غير ما نقصد، لا يقصدون الأمة العربية الواحدة التي تصهر كل أبنائها من الطوائف والقبائل والعائلات، كياناً واحداً، عصرياً مدنياً، بل يقصدون "أمة الإسلام".
إن الارتطام الرهيب الذي حدث للأمة القومية لحقه التمزق، وكل تمزق قاد إلى مزيد من التمزق، فصرنا طوائف وشيعاً وقبائل، وهذا قاد إلى استنزاف الدم والحيوية والقوة وإلى الضعف الذي قاد إلى الهاوية، وإلى الهوان المعزز الذي أغرى الغزاة والمحتلين بنا. لقد دار الزمان دورة مأساوية حتّى صارت الأيديولوجية الأمريكية المتطرفة الراهنة لا تتعامل معنا كأمة عربية ذات حضارة عريقة ومجيدة، ذات قواسم مشتركة وطيدة، حتّى قبل أن يكتشف كولومبوس العالم الجديد، بل كفتات بشري.
كل هذا الهوان هو نتاج التخلف العلمي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.كل هذا الهوان هو نتاج التمزق الداخلي، فكأنما كل العالم حولنا يتقدم بينما نحن "نتقدم" في التخلف!!
لقد ضاعت فلسطين في ظل تخلفنا كأمة. وها نحن نشاهد انهيار العراق وإمكانية ضياعه لا سمح الله. وها هو لبنان، حماه الله، على كف عفريت. وها هي قوى الفتنة تهدد بحرق النسيج القومي الواحد في مصر وها هي السودان ممزقة يطمع الأعداء باقتطاعها وتقسيمها. وها هي الأصولية الدينية المتخلفة والظلامية والرافضة للعلم والحضارة تهدد بالمزيد والمزيد من الانحلال والتفكيك والتمزق وتوغل الطامعين في أرضنا ونهب خيراتنا وتدمير بقائنا وكياننا.
من شاء التدين هذا حقه. ولكن في الغرب متدينون كثيرون، من المواطنين ومن الساسة، ولكنهم لا يقولون إن التدين هو أخو الجهل والتدين هو أخو التعصب والتدين هو أخو الظلامية والتدين هو العودة إلى شراسة القبلية البدائية.
كل الأديان تحافظ على جوهرها بينما هي تتعايش مع الحضارة المتقدمة والمتجددة اللهم إلاّ عندنا حيث يعرضون الدين بوصفه الحاجز الشاهق والأبدي ضد التقدم والتمدن والحضارة.
ولكن، بالمقابل، لماذا انحسر التيار الديمقراطي الإنساني العلماني؟ لماذا انحسر التيار الحالم بإقامة أمة عربية عصرية ينصهر فيها المسلمون والمسيحيون والدروز والشيعة والسنة، وكل المكونات الإنسانية في الأرض العربية، في أمة واحدة ذات لغة قومية واحدة، ذات انتماء وطني مدني واحد ذات وطنية عربية توحِّد ولا تُفَرِّق، تجمع ولا تبعثر، تصهر ولا تفرز!
في نظرة إلى الوراء نقول بيقين كامل إن السماح برحيل مليون يهودي "ابن عرب" من الدول العربية إلى إسرائيل كان خسارة عربية، قبل أن يكون ربحاً لإسرائيل وهجرة الملايين من العرب، المسيحيين أولاً ثم الأرمن، ثم الإنتلغنسيا الإسلامية، إلى الغرب، إلى أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا كان خسارة حضارية ومهنية وثقافية للمجتمع العربي. وإذا استمر هذا النزيف الثقافي وصار المتمسك بالحضارة يختار الرحيل من أرض العرب إلى الغرب، فليس بعيداً اليوم الذي يصير فيه العالم العربي جزءاً من ايران وأفغانستان، جزءاً من الشعوب التي "خارج الحضارة". والشعوب التي خارج الحضارة تكون خارج الإنتاج العالمي اقتصادياً وعلمياً، وخارج الإبداع العالمي ثقافياً وحضارياً.
ما من مرحلة كانت فيها أمتنا العربية في مهب الرياح العاتية كما هي الآن. فهل نستيقظ؟ هل نَهُبَّ؟ هل نأخذ مصيرنا بأيدينا؟
إن المطلوب، رداً على خطر الكارثة وصدّاً لها، لا يكون بصراخ أفراد و"خواطر" مثقفين. بل يكون بالمبادرة إلى حركة قومية ديمقراطية ذات رؤية شاملة، اقتصادية اجتماعية ثقافية، ذات حلم عظيم ينقل هذه الأمة من العجز والانحطاط إلى الثورة الشاملة الإنسانية التي تطهر وتوحد وتوقظ الطاقات العظيمة. هذه الثورة التي تتصدى للغزاة الأجانب هي في الوقت نفسه الثورة التي تقاتل الانحطاط في داخلنا، وتقاتل التعصب المجنون وتتحالف مع العلم والتقدم.
إن السؤال الكبير الرهيب الذي يطرح نفسه أمامنا الآن هو: هل نأخذ مصيرنا بأيدينا ونصنع مستقبلنا أم نواصل رقصة العجز والتفكك والموت؟!!