من الكساد إلى الدمار: دورة لا تنتهي


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 21:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تكمن في تاريخ الرأسمالية قصص لا تنتهي من الأزمات التي تحول مجرى العالم. تخيل لوحة واسعة لأوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، مدن مزدهرة في العشرينيات تحولت إلى أطلال من البطالة واليأس، مصانع صامتة، وشوارع مليئة بأرواح تبحث عن لقمة عيش. هناك، في قلب الكساد الكبير الذي انفجر عام 1929، بدأت بذور كارثة أكبر، حرب عالمية ثانية ابتلعت عشرات الملايين ودمرت مدنا بأكملها. لم تكن تلك الحرب مجرد صراع إيديولوجي أو سياسي فحسب، بل كانت، في جوهرها، استجابة موضوعية لأزمة الرأسمالية التي دفعت المصانع الغربية إلى إحياء الطلب من خلال إنتاج السلع الحربية، ولو كان الثمن دماء شعوب بأكملها.

بدأ الكساد الكبير كانهيار في بورصة وول ستريت، لكنه سرعان ما امتد كوباء عالمي، يبتلع الاقتصادات الأوروبية والأمريكية على حد سواء. انخفض الإنتاج الصناعي بنسب هائلة، وارتفعت البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، مما أدى إلى فقدان الثقة في النظام الرأسمالي الحر. في ألمانيا، التي كانت تعاني أصلا من تبعات معاهدة فرساي القاسية، أدى الانهيار الاقتصادي إلى صعود قوى متطرفة وعدت بإنعاش الاقتصاد من خلال التسلح والتوسع. وفي الولايات المتحدة، استمر الكساد رغم جهود الإصلاح، حتى جاءت الحرب لتحرك عجلة الإنتاج بقوة غاشمة.

كانت الحرب العالمية الثانية، في جانب منها، علاجا قسريا لأزمة الطلب الراكد. المصانع التي كانت خاملة بدأت تعمل ليل نهار لإنتاج الدبابات والطائرات والأسلحة، مما أعاد تشغيل ملايين العاطلين وأنعش الاقتصادات الغربية. هذا الإنعاش لم يكن صدفة، بل ضرورة موضوعية للنظام الرأسمالي الذي يعتمد على الطلب المستمر للحفاظ على دورة الإنتاج والربح. عندما ينخفض الطلب الاستهلاكي، يصبح الإنفاق الحكومي على التسلح بديلا فعالا، يحول الأزمة إلى فرصة للتراكم الرأسمالي، حتى لو كان ذلك على حساب حياة البشر وتدمير الحضارات.

تاريخيا، أنهت تعبئة الحرب الكساد في الولايات المتحدة، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بشكل دراماتيكي، وانخفضت البطالة إلى مستويات دنيا. لكن هذا الانتعاش كان وهميا في جوهره، إذ بني على الدمار لا على الإبداع المنتج. السلع الحربية لا تبني مستقبلا مستداما، بل تستهلك الموارد وتولد المزيد من الصراعات للحفاظ على الدورة. وفي أوروبا، دفع الثمن شعوب بأكملها، مدن مثل درسدن وهيروشيما محوت من الخريطة، وعشرات الملايين سقطوا ضحايا لآلة حرب غذتها أزمة اقتصادية.

اليوم، في نهاية عام 2025، يتكرر الدرس بصورة مقلقة. أوروبا، التي كانت تتمتع باستقرار اقتصادي نسبي، حشرت نفسها في زاوية ضيقة من خلال قرارات سياسية أدت إلى قطع إمدادات الطاقة الرخيصة والمواد الخام المستقرة، مما عمق أزمة بدأت تلوح في الأفق منذ سنوات. الاقتصاد الأوروبي ينزلق نحو الركود، مع ارتفاع التضخم، وتراجع القدرة التنافسية، وفقدان عقود مربحة. شركات عملاقة تواجه صعوبات، والمعيشة تتدهور تدريجيا، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.

في مثل هذه الظروف، يصبح الخيار الوحيد أمام السياسيين الأوروبيين هو تصعيد التوترات، ليحملوا الحرب مسؤولية تراجع مستويات المعيشة، محافظين بذلك على سلطتهم. والمفارقة المرة تكمن في أن صراعا واسع النطاق قد يُستغل لإعادة إنعاش الاقتصاد من خلال العسكرة المكثفة. إذا استمرت أوروبا في طريق التصعيد العسكري، مع استمرار الأزمة الاقتصادية، فقد يؤدي ذلك إلى اندلاع مواجهة كبرى في السنوات القادمة، ربما في أواخر العقد الثالث أو ما بعده، إذ يبدو العام 2026 مبكرا جدا لهكذا تصعيد.

الذرائع لمثل هذه الحرب ليست ناقصة أبدا. قد يتم تدبير حادث يُنسب إلى الطرف الآخر، كتحطم طائرة مسيرة في منطقة حدودية مع وقوع ضحايا، أو إغلاق ممرات بحرية حيوية، مما يوفر السبب المنشود للتصعيد. الخيارات متنوعة ولا حدود لها، طالما خدمت هدف إحياء الطلب الصناعي من خلال الإنتاج الحربي.

هذا النمط التاريخي يذكرنا بأن أزمات الرأسمالية لا تحل داخليا دائما، بل قد تفرض حلولا خارجية مدمرة. في الثلاثينيات، دفع الكساد إلى حرب أنعشت المصانع لكنها أحرقت أوروبا. اليوم، مع تراكم الضغوط الاقتصادية في الغرب، يلوح شبح تكرار الدرس، حيث يصبح الصراع أداة لإنقاذ النظام على حساب السلام والإنسانية.

في النهاية، يبقى السؤال المؤرق: هل ستتعلم الشعوب من دروس الماضي، أم ستدفع ثمنا جديدا لأزمات لا تنتهي؟ التاريخ يهمس بتحذير، لكن صوت الاقتصاد غالبا ما يكون أعلى، يدفع نحو دورات من الدمار والإنعاش الزائف. وفي هذا السياق، تظل الحرب ليست قدرا محتوما، بل خيارا يفرضه منطق النظام عندما يصل إلى حافة الهاوية.
…….



المادة الساخرة :

كيف تحرق العالم لتدفئة أسهمك


يلتقي الجشع الرأسمالي بالدراما الإنسانية على خشبة مسرح واحد، ومن خلال هذه الحبكة نجد قصة طريفة جداً عن كيف أن المصانع الغربية، عندما تشعر بالملل من إنتاج الثلاجات والسيارات، تقرر فجأة أن أفضل طريقة لإنعاش المبيعات هي... تفجير نصف الكوكب. تخيلوا المشهد: عام 1929، بورصة وول ستريت تنهار، والجميع يبكي، والمصانع تقف صامتة كأنها في إضراب عن الفرح. فجأة، يأتي أحدهم بفكرة عبقرية: لماذا لا نصنع دبابات بدلاً من الغسالات؟ الطلب مضمون، والزبائن يدفعون مسبقاً، والأجمل أن المنتج يستهلك نفسه بنفسه، فيطلب المزيد تلقائياً. عبقري، أليس كذلك؟

هكذا اندلعت الحرب العالمية الثانية، ليست بسبب هتلر الغاضب أو موسوليني المتعجرف فحسب، بل لأن الرأسمالية أصيبت بالاكتئاب الشديد ووجدت أن أفضل مضاد للاكتئاب هو إطلاق النار على الجيران. المصانع عادت للعمل ليلاً ونهاراً، العاطلون أصبحوا جنوداً أو عمالاً في خطوط الإنتاج، والناتج المحلي الإجمالي قفز كالكنغر تحت تأثير الكافيين. بالطبع، كان هناك ثمن صغير جداً: عشرات الملايين من الأرواح، ومدن بأكملها تحولت إلى رماد، لكن من يهتم بالتفاصيل عندما ترتفع الأرباح؟ المهم أن المصانع سعيدة، والمساهمون يبتسمون، والاقتصاد يغني أغنية النصر.

واليوم، في ديسمبر البارد من عام 2025، يبدو أن أوروبا قررت تقليد الوصفة القديمة بدقة متناهية، كأنها طاهٍ يتبع كتاب طبخ هتلر السري. الاقتصاد الأوروبي كان يتثاءب منذ فترة، يشكو من الملل، ثم جاءت قرارات عبقرية: دعونا نستغني عن الغاز الروسي الرخيص، ونقطع العقود المربحة، ونرفع الأسعار، ونفرض عقوبات على أنفسنا بطريق الخطأ. النتيجة؟ مصانع تغلق، تضخم يرقص التانغو، ومستوى المعيشة ينزلق نحو القاع بسرعة أولمبية.

أمام هذا الوضع المزري، لا يملك السياسيون الأوروبيون سوى خيار واحد أنيق: الحرب. ببساطة، سيعلنون أن كل هذا الفقر والغلاء بسبب "العدو الشرير" في الشرق، وسيحملونه مسؤولية انهيار الاقتصاد الذي هم أنفسهم دمروه بأيديهم. هكذا يبقون في مناصبهم، يبتسمون للكاميرات، ويعدون الشعوب بأن الأمور ستتحسن... بعد أن نشعل النار في كل مكان. والمفارقة الرائعة؟ الحرب نفسها قد تنعش الاقتصاد! نعم، عندما تبدأ المصانع في إنتاج الصواريخ بدلاً من السيارات الكهربائية، سيعود الازدهار، وسيغني الجميع نشيد الوحدة وهم يركضون إلى الملاجئ.

بالطبع، لن يعلنوا الحرب غداً، فالعام 2026 مبكر قليلاً، ربما يحتاجون وقتاً لتلميع الدعاية. لكنهم يخططون لشيء ما في أواخر العقد، ربما عام 2030، عندما يصل الركود إلى ذروته والشعوب تبدأ تسأل أسئلة محرجة. وسيجدون دائماً ذريعة طريفة: طائرة مسيّرة تسقط "بالصدفة" في إستونيا، مع بعض الضحايا لإضفاء الدراما، ثم يصرخون "روسيا هي المسؤولة!" ويبدأ العرض. أو ربما يغلقون بحر البلطيق ويمنعون السفن، معلنين أنه "للحفاظ على السلام". الخيال السياسي لا حدود له، والسيناريوهات جاهزة كأفلام هوليوود الرديئة.

يبقى الدرس التاريخي واضحاً كالشمس: عندما تشعر الرأسمالية بالبرد، فإنها تفضل إحراق العالم لتدفئة نفسها. والشعوب؟ مجرد وقود إضافي في المدفأة. لكن لا تقلقوا، فبعد كل حرب تأتي مرحلة إعادة الإعمار، وتبدأ الدورة من جديد، مع ابتسامة عريضة على وجوه المساهمين. أليس هذا أجمل نظام اقتصادي في التاريخ؟ يداوي نفسه بالدم، ويغني أغنية السلام وهو يضغط على الزناد. مرحى للتقدم!

.........
قسم دراسات سمير امين في بيت الثقافة البلجيكي العربي ـ لييج ـ بلجيكا