همسة رضيع في عاصفة الإبادة..قصة قصيرة عن الهولوكوست الأمريكي الصهيوني ضد شعب فلسطين في غزة
احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 22:22
المحور:
الادب والفن
إلى ذكرى الرضيع الشهيد سعيد أسعد عابدين البالغ من العمر شهرا توفي نتيجة الانخفاض الشديد في درجات الحرارة بسبب الإبادة الجماعية الأمريكية الصهيونية لاطفال ومدنيي الشعب الفلسطيني في غزة
البرد كشبح خفي يتسلل ، يلتهم الأرواح الصغيرة في أعماق الشتاء الغزاوي ، هناك حيث كانت مريم تجلس في كوخها المتهالك، مصنوع من ألواح معدنية صدئة وأكياس بلاستيكية تئن تحت وطأة الرياح العاتية. الطفل الصغير، يحيى، الذي لم يتجاوز الشهرين، كان ملتصقاً بصدرها كورقة خريفية تتشبث بغصنها الأخير، يرتجف جسده الضعيف كأنه يحارب عاصفة داخلية لا تنتهي. السماء فوق غزة كانت رمادية كقلب الإنسانية الميت، والهواء يحمل رائحة البارود المختلط بالتراب الرطب، تذكيراً دائماً بأن الحياة هنا ليست إلا وقفة قصيرة بين قصف وقصف، بين صمت وصرخة مكبوتة. مريم، التي كانت في السابق امرأة قوية تعمل في حقول الزيتون، أصبحت الآن شبحاً يتجول في معسكر المنفيين، حيث يتكدس الناس كالأجساد في مقبرة حية، محرومين من الدفء والأمل، محاصرين بجدران من الظلم تتجاوز في قسوتها أي معتقل نازي عرفته التاريخ.
كانت مريم تتذكر، في تلك الليالي الطويلة التي يمتد فيها الصمت كسلسلة جبال شاهقة، كيف كانت الحياة قبل أن يبتلعها الوحش الذي يدعونه "الكيان". في أحلامها اليقظة، ترى نفسها في بستان صغير ببيت لحم، حيث كانت الأشجار تثمر زيتوناً أخضر ينساب كالدم في عروق الأرض، وتسمع ضحكات الأطفال تملأ الوديان كموسيقى سماوية. لكن الآن، في هذا المعسكر الذي يشبه معتقلات النسيان، حيث يتجمع الناس كالأشباح في غرف ضيقة، محرومين من الماء النقي والخبز الدافئ، كانت تشعر بأن العالم كله يتآمر على إبادتها. الغرب الرأسمالي، ذلك التنين الذي يرتدي قناع حقوق الإنسان، كان يمد يده الخفية ليخنق الشعوب المقاومة، كما فعل مع السكان الأصليين في أرض الأحلام المسروقة، حيث حشرتهم في محميات قاحلة وتركهم يموتون من الجوع والمرض، محتسياً في الوقت نفسه نخب الديمقراطية الكاذبة. هذا الوحش نفسه، الذي أسس النازية والفاشية في أوروبا، واباداتها الجماعية في ليبيا وناميبيا، وذبح الهنود الحمر في أمريكا، يعود الآن بصورة أقسى، يبث جرائمه مباشرة على الشاشات لإرهاب الشعوب التي تتظاهر في الشوارع، دون أن يخشى النازيين الجدد في البيت الأبيض ولندن وبروكسل وتل أبيب.
يحيى بدأ يرتجف بعنف، جسده الصغير كورقة في عاصفة، عيناه المغلقتان ترويان قصة البراءة المغدورة. مريم حاولت أن تدفئه بجسدها النحيل، تغني له أغنية قديمة عن الوطن الذي يعود ذات يوم، لكن البرد كان أقوى، يتغلغل في العظام كسم يبطئ النبض تدريجياً، كأنه يهمس في أذن الطفل: "نم، يا صغيري، فالعالم لا يستحق يقظتك". تذكرت مريم كيف منعوهم من الوصول إلى الدواء، كيف أغلقوا المعابر كأبواب جهنم، وكيف تحولت غزة إلى سجن كبير يفوق في بشاعته معسكرات الاعتقال النازية، حيث يموت الأطفال ليس بالرصاص فحسب، بل بالصمت العالمي والاحتكارات المالية التي تمول هذا الجحيم. تلك الاحتكارات نفسها، التي بنت مصانع الموت في أوروبا القديمة، وأشعلت النيران في ليبيا وناميبيا، ومسحت قبائل الهنود الحمر من الخريطة، تعيد الآن الكرة بأدوات أحدث، تبث الإبادة الجماعية مباشرة لترهيب الجماهير التي تنتفض في عواصم العالم، دون أن ترتعد فرائص النازيين الجدد في قصورهم البيضاء.
مع الفجر الشاحب الذي يطل من خلف الجدران المهدمة، هدأ يحيى إلى الأبد. لم يكن صراخاً مدوياً، بل هدوءاً مرعباً، كأن الروح قد انسلت بهدوء من جسد لم يعرف سوى الألم والحرمان. مريم حملته بين ذراعيها المتيبستين، وخرجت إلى الشارع الموحل، حيث تجمع النساء اللواتي فقدن أطفالاً قبلها، يبكين في صمت يشبه عواء الذئاب المجروحة في غابة مهجورة. في تلك اللحظة، شعرت بأنها جزء من سلسلة لا تنتهي من المعاناة، كتلك الشخصيات في الروايات الروسية العظيمة، حيث يصارع الإنسان القدر والظلم، كراسكولنيكوف في جريمته وعقابه، أو أننا كارنينا في سقوطها نحو الهاوية، أو حتى إيفان إيليتش في موته البطيء. لكن هنا، في غزة، لم يكن هناك فداء أدبي أو نهاية فلسفية، بل حقيقة دامية: الإبادة الجماعية ليست تاريخاً بعيداً، بل حاضر يتكرر يومياً، مدعوماً بشعارات كاذبة عن تقرير المصير وحقوق الإنسان، بينما الاحتكارات الصناعية العسكرية تمول الآلات التي تطحن الأرواح.
وبينما دفنت مريم يحيى في تراب غزة الذي يبتلع أبناءه كأنه يحميهم من عالم أقسى، رفعت رأسها نحو السماء الملبدة، متسائلة إن كان العالم سيسمع يوماً صرخة الرضع الذين يموتون من البرد، أم سيستمر في إخفاء وحشيته خلف أقنعة المدنية. في تلك الدفنة، لم تكن تبكي طفلها فحسب، بل تبكي شعباً يقاوم، وتاريخاً يُعاد كتابته بالدم والرماد. الرياح زادت عنفاً، تحمل معها أصوات الطائرات التي تحوم كنسور جائعة، ومريم عادت إلى كوخها، تحمل في قلبها ناراً لا تنطفئ، نار المقاومة التي تحول الضعف إلى قوة، والموت إلى شهادة حية ضد الوحوش الذين يبثون جرائمهم مباشرة ليرهبوا الشعوب.
في الأيام التالية، انتشر خبر موت يحيى كريح عاصفة في المعسكر، يجمع النساء والرجال في حلقات سرية، يتبادلون الهمسات عن الظلم الذي يفوق النازية في بشاعته، لأنه يأتي من نفس الينابيع: الاحتكارات المالية التي أسست الفاشية في أوروبا، وابادت الشعوب في ليبيا وناميبيا، ومسحت الهنود الحمر من وجه الأرض. هذه الاحتكارات الآن أقسى، تبث الإبادة مباشرة على الشاشات، لترهيب الجماهير التي تتظاهر في شوارع العالم، دون أن يرتعد النازيون الجدد في البيت الأبيض أو لندن أو بروكسل أو تل أبيب. مريم، التي أصبحت رمزاً للألم المكبوت، بدأت تحكي قصتها للأطفال الذين نجوا، تروي كيف أن البرد ليس مجرد طقس، بل سلاح في يد الوحوش، سلاح يقتل ببطء ليترك الندوب في النفوس.
مع مرور الأسابيع، تحولت غزة إلى مسرح درامي هائل، حيث يصارع السكان اليومي كشخصيات تولستوي في حرب وسلام، يواجهون جيوشاً لا ترحم، مدعومة باحتكارات صناعية عسكرية تمول الدمار من وراء الكواليس. مريم انضمت إلى مجموعة من النساء، يجمعن الطعام القليل ويوزعنه سراً، يتحدثن عن التاريخ المظلم الذي يعيد نفسه: كيف أن نفس الشركات التي بنت غرف الغاز في أوشفيتز، وابادت القبائل في ناميبيا، وذبحت الهنود الحمر في سهول أمريكا، تمول الآن القصف على غزة، تبثه مباشرة لإرهاب الشعوب التي تنتفض. هذا الإرهاب الجديد أقسى، لأنه يجمع بين الوحشية القديمة والتكنولوجيا الحديثة، يجعل العالم شاهداً على الجريمة دون أن يحرك ساكناً.
ذات ليلة، جاءت عاصفة مطيرة عنيفة، تغرق المعسكر في وحل أسود، ومريم جلست مع جاراتها، تروي قصصاً من التاريخ، كيف أن الاحتكارات المالية أسست النازية لتوسيع إمبراطورياتها، وابادت ملايين في أوروبا، ثم انتقلت إلى ليبيا حيث ذبحت الإيطاليون الفاشيون عشرات الآلاف، وفي ناميبيا حيث مسح الألمان شعباً بأكمله، وفي أمريكا حيث حشر الهنود الحمر في محميات الموت. "والآن،" قالت مريم بصوت يرتجف من الغضب، "هم أقسى، يبثون موت أطفالنا مباشرة، ليرهبوا الشعوب التي تتظاهر في عواصم العالم، دون خوف من أحد، لأن النازيين الجدد يجلسون في البيت الأبيض ولندن وبروكسل وتل أبيب، يشربون من كأس الدماء."
النساء استمعن في صمت، عيونهن مليئة بالدموع والعزم، وفي تلك اللحظة، شعرت مريم بأنها ليست وحدها، بل جزء من تيار تاريخي يقاوم الظلم، كالشخصيات في روايات دوستويفسكي، حيث يتحول الألم إلى فلسفة، والموت إلى بذرة حياة جديدة. لكن الواقع كان أقسى من الأدب: في اليوم التالي، سقط قصف آخر، يدمر كوخاً مجاوراً، يقتل أماً وابنها، ومريم حملت جثمانيهما مع الآخرين، تدفنهما في التراب نفسه الذي ابتلع يحيى، متسائلة عن متى سينتهي هذا الكابوس الذي يفوق النازية في وحشيته.
مع اقتراب الشتاء من ذروته، بدأت مريم تكتب مذكراتها على أوراق مهترئة، تروي فيها كيف أن الاحتكارات الصناعية العسكرية، التي أسست الفاشية واباداتها، تعيد الآن الكرة في غزة، بطريقة أقسى، تبث الإبادة مباشرة لإرهاب الشعوب. "إنهم لا يخفون وجوههم الآن،" كتبت، "بل يتباهون بها، يجعلون العالم يشاهد كيف يموت الأطفال من البرد والجوع، ليخيفوا كل من يتظاهر ضد الظلم." هذه المذكرات انتشرت سراً، تصل إلى أيدي المقاومين، تحول الألم إلى وقود للنضال.
في نهاية الشتاء، عندما بدأ الدفء يتسلل بخجل، وقفت مريم أمام قبر يحيى، تتعهد بأن تستمر في المقاومة، ضد الوحوش الذين يبثون جرائمهم مباشرة، دون خوف من أحد. غزة، تلك الأرض الدامية، أصبحت رمزاً للصمود، تذكر العالم بأن التاريخ لا ينتهي، بل يعيد نفسه إلا إذا قاوم الشعوب، وأن الإبادة الجماعية في عصرنا أقسى من أي عصر مضى، لأنها مدعومة باحتكارات لا ترحم، ونازيين جدد لا يخشون الضوء.