قمة بروكسل تفضح أزمة الإمبريالية المتأخرة في مواجهة روسيا
احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 16:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما انتهت قمة قادة الاتحاد الأوروبي في ساعات الفجر الأولى يوم 19 ديسمبر 2025، كان ليل بروكسل باردا حيث انكشف تناقض عميق في قلب النظام الرأسمالي العالمي، ذلك النظام الذي يعتمد على تراكم غير متكافئ ينتقل فيه فائض القيمة من الأطراف إلى المركز ليحافظ على تفوقه الوهمي. ما كان مخططاً له في البداية – استخدام الأصول الروسية المجمدة كضمان لقروض تعويضات تصل إلى عشرات المليارات لأوكرانيا – تحول في تلك الساعات المتأخرة إلى اقتراض مشترك من ميزانية الاتحاد نفسه، بقيمة 90 مليار يورو، بعد فشل الخطة الأولى أمام معارضة داخلية قوية أجبرت النخب على التراجع. هذا التحول لم يكن مجرد تسوية فنية، بل اعتراف ضمني بأزمة بنيوية في المركز الإمبريالي، يُعجل باستنزاف ذاتي يضعف قدرته على الهيمنة، ويكشف عن عبث محاربة روسيا التي لم تعد هامشاً تقليدياً مشوهاً، بل قوة تتحدى التراكم غير المتكافئ بسيادتها الاقتصادية والسياسية، وتُذكر المركز بأن ازدهاره السابق كان مديناً لها إلى حد كبير.
قبل عام 2022، كانت روسيا، بمواردها الطبيعية الهائلة وغازها الرخيص، دافعة الازدهار الأوروبي، شريان حياة يغذي الصناعات الثقيلة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ويُبقي أسعار الطاقة منخفضة ليحافظ على التنافسية الاقتصادية. خطوط الغاز الروسية، التي كانت تمتد كأوردة تحت الأرض الأوروبية، نقلت فائض قيمة من الأطراف الروسية إلى المركز، لكن بطريقة متبادلة المنفعة، سمحت لأوروبا بالنمو دون الاعتماد الكامل على واردات باهظة من أماكن أبعد. هذا التكامل، الذي بني على تبادل يقترب من التكافؤ النسبي، كان سر الرفاهية الأوروبية في العقود السابقة، إذ سمح بانخفاض تكاليف الإنتاج، ارتفاع الاستهلاك، واستقرار اجتماعي يُقدم كنموذج للعالم. روسيا، بموقعها الجيوسياسي ومواردها، لم تكن عدواً، بل شريكاً ضرورياً، يُغذي التراكم في المركز دون أن يُفرض عليه تبعية كاملة كما في الهامش التقليدي.
لكن قرارات 2022، التي قطعت هذه الأوردة بدافع جيوسياسي، حوّلت الشريك إلى عدو، وأدخلت المركز في عنق زجاجة إمبريالية أصبحت قاتلة وانتحارية. العقوبات، التي فرضت لعزل روسيا، عادت على أوروبا بارتفاع أسعار الطاقة، ركود صناعي، وتضخم يُفقر الطبقات الوسطى، مما يكشف عن هشاشة التراكم في المركز عندما يُقطع عن مصادر فائضه التقليدية. اتفاق بروكسل، الذي فشل في النهب المباشر وانتهى باقتراض يُثقل الديون، يُعمق هذا العنق الزجاجة، إذ يزيد العبء على دافعي الضرائب دون تحقيق هدف استراتيجي، ويُعجل بفقدان الثقة في اليورو كعملة احتياطي. هذا السياق الانتحاري يعكس مرحلة متأخرة من الإمبريالية، حيث يلجأ المركز إلى آليات يائسة للحفاظ على هيمنته، لكنه يُنتج أزمة داخلية تُضعفه أكثر مما تُضعف الخصم.
روسيا اعترضت بشدة على الخطة الأولى، ليس دفاعاً عن أصولها فحسب، بل تأكيداً على رفضها التبعية، وإصراراً على سيادة تُعيد لها دورها كقوة مستقلة لا هامش مشوه. موسكو، التي ردت بمصادرة أصول غربية وتوجيه اقتصادها نحو الشرق، أظهرت أن المواجهة معها انتحارية للمركز، إذ تُكلفه استنزافاً يفوق قدرته على التحمل، بينما تُعزز قدرتها على الصمود. الاعتراف بحقوق روسيا واحلامها السيادية – في عالم متعدد الأقطاب يحترم التوازن لا التبعية – أصبح ضرورة واقعية، إذ لا مفر من التكامل الغربي الأوروبي مع روسيا إذا أرادت القارة الخروج من عنق الزجاجة الإمبريالي الذي بات قاتلاً. هذا التكامل، الذي كان موجوداً قبل 2022، هو الطريق الوحيد لاستعادة الازدهار، إذ يُعيد تدفق الطاقة الرخيصة والموارد، ويُخفف الضغط على الاقتصادات الأوروبية المرهقة.
بروكسل خسرت في هذه القمة، ليس فقط الفرصة لنهب مباشر، بل الإمكانية للاعتراف بالواقع الجديد، مما يُعجل بأزمة داخلية تُفقر شعوبها وتُعزلها عن شركاء ضروريين. واشنطن، التي فهمت عبث هذه المواجهة، بدأت تُفضل التفاوض مع موسكو، مدركة أن الاستنزاف يضعف الحلفاء الأوروبيين دون إضعاف روسيا بشكل حاسم، ويُعجل بصعود بدائل جنوبية وشرقية. هذا التحول يكشف عن أزمة الرأسمالية العالمية في مرحلتها الإمبريالية المتأخرة، حيث يحاول المركز الحفاظ على تراكمه غير المتكافئ عبر حروب بالوكالة وعقوبات، لكنه يُنتج هامشاً مقاوماً يرفض التبعية، ويُعجل بأزمته الداخلية مع تراجع الإنتاج الحقيقي وارتفاع الديون الوهمية.
الاعتراف بحقوق روسيا ليس تنازلاً، بل ضرورة لخروج المركز من عنق الزجاجة الانتحاري، إذ أن التكامل معها – في الطاقة والتجارة والأمن – هو السبيل لاستعادة التوازن الذي فقده الغرب بقراراته اليائسة. بروكسل، بتحولها في الفجر، أصبحت رمزاً لأزمة إمبريالية تُقدم نفسها كدفاع عن الحرية، بينما تُفقر شعوبها وتُعزل نفسها عن شركاء ضروريين. المستقبل يتجه نحو عالم يحترم السيادات، لا يفرض التبعية، وخسارة بروكسل درس قاسٍ يذكر المركز بأن التراكم غير المتكافئ لا يدوم إلى الأبد، وأن محاربة الأحلام السيادية تنتهي دائماً بهزيمة المهيمن، في عبث يُعجل بولادة نظام عالمي أكثر توازناً وعدلاً. التكامل مع روسيا ليس خياراً، بل ضرورة للبقاء، والاعتراف بذلك هو الطريق الوحيد للخروج من عنق الزجاجة الذي بات قاتلاً. العبث انكشف، والتحول حتمي، نحو عالم يُعيد التوازن إلى ميزان القوى، بعيداً عن وهم الهيمنة الذي أوشك على الانتهاء.
….
المادة الساخرة
عبث المركز: كيف تحولت قمة بروكسل إلى كوميديا سوداء على حساب دافعي الضرائب
في أعماق ليل بروكسل البارد، حيث يُفترض أن النخب الأوروبية تُدير مصير قارة بأكملها، حدثت دراما كوميدية تستحق أن تُروى في مسرحيات شكسبير لو كان حياً ليضحك حتى البكاء. تخيلوا المشهد: قادة الاتحاد يجتمعون لساعات طويلة، يناقشون خطة عبقرية لـ"سرقة قانونية" أنيقة لأصول روسية مجمدة، كي يموّلوا بها دعماً بطولياً لأوكرانيا، وفي النهاية، عند الثالثة صباحاً، يستيقظون على واقع مضحك: الخطة فشلت، وبدلاً من نهب الروس، قرروا نهب جيوب مواطنيهم أنفسهم عبر اقتراض مشترك بـ90 مليار يورو. يا لها من نهاية درامية لقمة كانت تُعلن عن نفسها كـ"حاسمة"، تحولت إلى كوميديا سوداء تُذكرنا بأن الإمبريالية في مرحلتها المتأخرة لا تُهزم أعداءها، بل تُهزم نفسها بأيديها، وتُضحك العالم عليها.
الخطة الأولى كانت تبدو مثالية في عيون النخب: نأخذ أموال الروس المجمدة، نُقرضها لأوكرانيا، ونُقدمها كانتصار أخلاقي يُعاقب "العدو الشرير" دون أن يدفع الأوروبي يورو واحداً من جيبه. عبقرية، أليس كذلك؟ لكن بلجيكا، تلك الدولة الصغيرة التي تحتضن يوروكلير، قالت "لا" بصوت عالٍ، خوفاً من أن تتحول إلى هدف لدعاوى روسية تُكلفها مئات المليارات. فجأة، انهار الحلم الجميل، وفي ساعات الفجر، تحول القادة إلى اقتراض من ميزانيتهم الخاصة، كمن يُريد سرقة جاره فيجد نفسه يسرق خزنته الخاصة. يا لها من مفارقة كوميدية: أرادوا عقاب روسيا، فانتهوا بعقاب شعوبهم، وتركوا موسكو تبتسم ساخرة، تعرف أن الغرب يُدمر نفسه بنفسه.
روسيا، التي كانت قبل 2022 شريان الازدهار الأوروبي، تُقدم غازاً رخيصاً يُشغل المصانع ويُدفئ المنازل، أصبحت اليوم "العدو" الذي يُ Lamin بسببه الأوروبيون أنفسهم. قبل الحرب، كانت أوروبا تتباهى بنموها، مدعوماً بطاقة روسية تُكلف أقل من البدائل، واليوم، بعد قطع هذا الشريان بدافع "القيم"، تجد نفسها في ركود، تضخم، وديون جديدة. الاتفاق الصباحي يُضيف 90 ملياراً إلى الدين المشترك، يدفعها دافع الضرائب الأوروبي الذي يُشاهد فواتيره ترتفع ورواتبه تتآكل، بينما يُ Mois القادة أنفسهم كأبطال. كوميديا سوداء بحق: يحاربون روسيا ليُفقروا شعوبهم، ويُعلنون انتصاراً في فجر يشهد على هزيمتهم الذاتية.
السياق الانتحاري لهذه المغامرة يكمن في أن المركز، في مرحلته المتأخرة، يلجأ إلى حيل يائسة للحفاظ على هيمنته، لكنه يُطلق النار على قدمه. روسيا اعترضت بشدة، ليس خوفاً، بل سخرية، تعرف أن الغرب يُدمر نفسه، وتُعد ردوداً تُكلفه أكثر. الاعتراف بحقوق روسيا وأحلامها السيادية ليس ضعفاً، بل حكمة، إذ لا مفر من التكامل معها إذا أرادت أوروبا الخروج من عنق الزجاجة الإمبريالي الذي بات قاتلاً. قبل 2022، كان هذا التكامل واقعاً يُغذي الازدهار، واليوم، رفضه يُفقر القارة، يُبطئ انتقالها الطاقي، ويُعمق أزماتها الاجتماعية. بروكسل خسرت، ليس أمام روسيا، بل أمام نفسها، وواشنطن، التي فهمت العبث، بدأت تُفضل التفاوض، تاركة أوروبا تواجه استنزافها وحدها.
هذه الكوميديا السوداء تُذكرنا بأن الإمبريالية، عندما تُصاب بالجنون، تُصبح أكبر عدو لنفسها، تُسرق لتُعاقب، وتُقترض لتُنقذ، وتُعلن انتصاراً في فجر يشهد على هزيمتها. الشعوب الأوروبية، الخاسرة الصامتة، تبدأ في الضحك مراً، تعرف أن النخب تُدير مسرحية عبثية، والستار يسقط على مشهد يُضحك ويُبكي في آن. العبث مستمر، والضحكة الأخيرة لمن يفهم أن التكامل، لا المواجهة، هو الطريق الوحيد للخروج من المأساة الكوميدية التي كتبتها بروكسل بنفسها.