قصة : رقصةُ الغزال الأخيرة


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 08:42
المحور: الادب والفن     

إلى من سيعدم مجرمي الإبادة الصهاينة والامريكان نتنياهو وبن غفير و سموتريتش و بايدن وترامب وكل من يدعم الكيان الصهيوني النازي المارق و يموله..على اقتراف جرائم ابادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة أطفالا و مدنيين ..

حين يصبح البحر سجناً والسماء سقفاً من حديد، فانت الان في غزة ،هناك حيث عاش غزّال ست سنواتٍ فقط، ست سنواتٍ كانت كلها ضحكاتٍ خفيفة وأحلاماً صغيرة. كان يحمل في جسده النحيل وحشاً يُدعى ابيضاض الدم، ينهش خلاياه يوماً بعد يوم، وكان يسأل أمه كل صباح بنظراته البريئة: "متى نذهب إلى الطبيب الذي يشفي الأطفال؟"، فتكتم أنينها وتجيب: "غداً يا حبيبي، غداً بالتأكيد". لكن "غداً" لم يأتِ أبداً. كان المستشفى الذي يحمل الأمل على بعد ساعةٍ واحدة فقط، خلف نقاط التفتيش والأسلاك، في القدس أو الضفة، حيث يوجد الدواء الذي كان سيجعل غزّال يركض مجدداً خلف الغزلان التي يحمل اسمها.

كان غزّال يرسم غزلاناً بالطباشير على جدران المنزل المتصدع، ويقول لأمه وهو يبتسم بفمه الصغير الشاحب: "شوفي يا أمي، هذي غزالي أنا، راح يركض ويأخذني معه". ثم يبدأ السعال، سعالٌ يمزق صدره الصغير، فيضمه إليها وهي تبكي دون صوت، لأن الدموع انتهت منذ زمن. في الليالي الأخيرة، كان يستيقظ مفزوعاً من الألم، يمسك يدها بأصابعه الهزيلة ويهمس: "أمي، أنا خايف... الظلام داخلي كبير". وفي ليلةٍ هادئة مخيفة، توقف قلبه عن النبض بين ذراعيها، وهي لا تزال تهمس له: "نام يا حبيبي، غداً نذهب". دفنوه تحت شجرة تينٍ وحيدة، ووضعوا على قبره لعبةً صغيرة لغزالٍ بلاستيكي، لعله يركض به في عالمٍ آخر.

وهيا، الطفلة ذات العيون السوداوين الواسعتين، كانت تضحك ضحكةً ترن كالجرس في البيت الفقير. اكتشفوا سرطان الكلى عندها صدفةً، بعد أن انحنت من الألم وهي تلعب بالدمى. قال الطبيب إن الورم يمكن استئصاله، وإنها ستعود إلى لعبها وغنائها لو سُمح لها بالعلاج في المستشفى القريب، ذلك المستشفى الذي يبعد عشرات الكيلومترات فقط، لكنه أبعد من النجوم. كانت هيا ترسم بيتاً كبيراً مليئاً بالزهور، وتسأل أباها: "بابي، هل سنعيش فيه يوماً؟" فيجيبها بصوتٍ مختنق: "نعم يا روحي، بعد أن تشفي". لكن الورم كبر، وألمها صارت تصرخ منه في الليل، تصرخ حتى يغلبها الإعياء وتنام باكية.

في أيامها الأخيرة، لم تعد تستطيع الرسم، فأمسكت يد أمها وقالت بصوتٍ ضعيف كالنسيم: "أمي، أنا تعبت... خليني أنام وأصحى كويسة". ثم أغمضت عينيها، وتركت أمها تصرخ صرخةً لم يسمعها أحد سوى الجدران. حملوها إلى القبر وهي لا تزال ممسكةً بدميتها المفضلة، تلك التي كانت تغني لها كل ليلة. دفنوها بجانب غزّال، فأصبحت المقبرة تضم طفلين يتقاسمان الصمت الأبدي، بعد أن تقاسما الأمل المقتول.

ويوسف، الصبي الذي كان في الثانية عشرة، كان يحمل في قلبه حلم أكبر من عمره. كان يقرأ الكتب الممزقة التي يجدها في الأنقاض، ويقول لأمه: "سأصبح طبيباً يا أمي، لأعالج كل طفل مريض، ولن أترك أحداً يبكي". لكن ليمفوما الصدر جاءت لتضغط على رئتيه، تجعل كل نفسٍ معركة. قال الأطباء إن نسبة الشفاء عالية جداً لو سمحوا له بالعلاج في الضفة، لكن الرفض جاء سريعاً، قاطعاً، كأنه حكمٌ نهائي.

كان يوسف يجلس عند النافذة، يشاهد الأطفال يلعبون، ويهمس: "لماذا أنا هنا وهم هناك؟ هل أنا مذنب بشيء؟" ثم يبدأ السعال، سعالٌ يخرج معه دماً، فيمسح فمه بيد مرتجفة ويخفي الدم عن أمه كي لا تحزن. في إحدى الليالي، كتب على ورقةٍ صغيرة: "أريد أن أعيش لأنقذ الآخرين، لكن إذا متّ، قولوا للعالم إننا لسنا أرقاماً، نحن أطفال نحلم". ثم استلقى، وتنفس آخر نفسٍ بصعوبة، وغفا إلى الأبد. حملوه إلى المقبرة، ووضعوا الورقة في يده، لعلها تصل إلى من يسمع.

هؤلاء الثلاثة، غزّال وهيا ويوسف، لم يكونوا وحدهم. آلافٌ مثلهم يموتون ببطء في غزة، أكثر من ستة عشر ألف مريض سرطان وجريح وصاحب مرضٍ خطير، ينتظرون إجلاءً طبياً عاجلاً، ينتظرون باباً يفتح على بعد ساعاتٍ قليلة فقط. مستشفيات الضفة والقدس جاهزة، الأسرّة فارغة، الأطباء ينتظرون، لكن الرفض يأتي دائماً، رفضٌ يحول المرض القابل للشفاء إلى حكمٍ بالإعدام.

في كل ليلة، تسمع أصوات الأمهات وهن يغنين لأطفالهن الذين رحلوا، أغاني حزينة تتسلل من النوافذ المكسورة، تحمل معها سؤالاً لا يجيب عليه أحد: متى يرحمون طفلاً؟ متى يسمحون للأمل بالمرور؟ أطفالٌ كان يمكن أن يعيشوا، يضحكوا، يركضوا، يحلموا، لكنهم ذهبوا واحدًا تلو الآخر، تاركين خلفهم آباءً وأمهاتٍ يحملون ذكرى ضحكةٍ لم تعد ترن، ودمعةً لا تجف، وجرحاً في القلب لا يندمل أبداً.