الاشتراكية بين الأمس واليوم: مشروع حضاري لإعادة إنتاج الإنسان والمجتمع.


رياض الشرايطي
2025 / 12 / 10 - 02:22     

منذ أن بدأ الإنسان يرفع رأسه فوق أرض التاريخ، وهو يكتشف أن العالم لا يبنى فقط باليد التي تعمل، بل كذلك باليد التي تقرّر. وحين ظهر نمط الإنتاج الصناعي في القرن التاسع عشر، لم يكن ما ظهر مجرّد تحوّل اقتصادي، بل كان انقلابًا في معنى الحياة نفسها: العامل الذي كان جزء من الأرض صار فجأة جزء من الآلة، والمدينة التي كانت تجمّع الحرفيين والتجّار صارت تكدّس العمال الفقراء في أحياء مكتظّة لا تعرف سوى ضجيج الآلات ورائحة الفحم، وكأن العالم يُعاد تشكيله على هيئة قفصٍ عملاق لا يملك فيه الإنسان سوى أن يركض ليلا نهارا دون أن يعرف إلى أين يمضي. من تلك التجربة خرجت الاشتراكية كتعبير عن ألمٍ عميق، وكوعي جديد بأن النظام السائد ليس أبديا، بل بناء بشري يمكن قلبه وإعادة تشكيله.
لقد كان ماركس وإنجلز في تلك اللحظة صوتا لملايين لا تعرف بعد كيف تعبّر عن نفسها. وصفا وضع الإنسان العامل كما يوصف الجرح المكشوف الذي لم يعد يحتمل الضماد. ومن داخل هذا الوصف ظهرت الفكرة الجوهرية: أن حرمان العمال ليس نتاج صدفة ولا سوء نية، بل نتيجة قوانين مادية ملموسة، وأن التاريخ ليس كتابا مغلقا بل ساحة صراع. وهكذا صارت الاشتراكية ليست نقدا للرأسمالية فحسب، بل إعلانا بأن الإنسان قادر على أن يصنع تاريخا جديدا حين يعي أن ما يعيشه ليس قدرا بل نظاما، وأن النظام يمكن تغييره. ولذلك قال الفيلسوف المعاصر آلان باديو: “السياسة الثورية تبدأ عندما يكتشف الناس أن الواقع ليس قدرًا، بل قرارا اتّخذ باسمهم.”
ومع مرور السنوات، صارت الاشتراكية في القرن العشرين قوة مادية تزلزل العالم. لم تعد فكرة بين دفتيّ كتاب، بل موجة واسعة تمتد من روسيا إلى الصين، من كوبا إلى فيتنام، من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. ملايين الفلاحين تحرّروا من الإقطاع، ملايين العمال دخلوا المدارس لأول مرة، ملايين النساء غادرن الهامش نحو فضاء المشاركة. بدا وكأن التاريخ يتحرّك للمرة الأولى من الأسفل إلى الأعلى. وفي الوقت نفسه، كانت التجارب الاشتراكية تحمل تناقضاتها العميقة: صعود الدولة الذي أنقذ الجماهير من الفقر تحول في بعض اللحظات إلى بيروقراطية خانقة، والمشروع الذي أراد تحرير الإنسان من الاستغلال تأرجح أحيانا بين الحلم الثوري والممارسة السلطوية. وهذا ما عبّر عنه الكاتب اللاتيني إدواردو غاليانو عندما قال: “الثورة التي لا تحلم تفقد بصرها، والثورة التي لا تحاسب نفسها تفقد قلبها.”
ثم جاء سقوط الاتحاد السوفياتي ليقدّم للعالم كأنّه نهاية الحلم الاشتراكي. لكن الحقيقة كانت أخرى: لم يسقط الحلم بل سقط نموذج محدّد للاشتراكية، نموذج الدولة المركزية المغلقة التي تحوّلت مع الزمن إلى جهاز بيروقراطي ضخم ابتلع المبادرة الشعبية وخنق الدينامية الاجتماعية. وبقيت الأسئلة الكبرى حيّة: لماذا تتوسع اللامساواة عالميا؟ لماذا يزداد الفقر بينما يزداد الإنتاج؟ لماذا تسيطر أقلية صغيرة على مصير كوكب كامل؟ ولذلك قال الاقتصادي المعاصر توماس بيكيتي: “حين تعود اللامساواة إلى مستوى القرن التاسع عشر، يعود السؤال الاشتراكي أقوى مما كان.”
العالم بعد سقوط المعسكر الشرقي لم يتحول إلى جنّة السوق كما بشّر منظّرو النيوليبرالية، بل تحوّل إلى عالم تتوحش فيه الشركات العالمية، ويتضاعف فيه الثراء في قمة الهرم بينما تتسع الفجوة في أسفله. التكنولوجيا التي قيل إنها ستحرّر الإنسان أصبحت أداة رقابة شاملة تحوّل الأفراد إلى بيانات، وتحول الحوارات إلى سلع، وتحوّل السلوك البشري نفسه إلى مورد قابل للبيع والشراء. وهنا يظهر نوع جديد من الهيمنة لا يعتمد على القمع المباشر بل على إعادة تشكيل الرغبات والخيارات. وقد لخّص الفيلسوف الألماني باونغ–تشول هان هذه اللحظة بقوله: “السيطرة اليوم لا تحتاج إلى قيود، بل إلى بيانات. الرقابة صارت داخلنا.”
أمام هذا الواقع، تعود الاشتراكية اليوم لا بوصفها إحياء للماضي، بل باعتبارها ضرورة تاريخية. فهي وحدها القادرة على مساءلة من يملك التقنية ومن يملك المستقبل. لأن الذكاء الاصطناعي، والخوارزميات، والبنى السحابية، والأسواق الرقمية الكبرى ليست حيادية، بل هي أشكال جديدة من الملكية تتركز في يد قلة صغيرة. وقد قال المفكر اليساري المعاصر نيك سريسك: “إن لم يملك المجتمع التقنية، ستصبح التقنية أداة لتوسيع الرأسمالية إلى درجة تجعل مقاومة الرأسمالية نفسها مستحيلة.”
ولذلك تتطور الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين نحو ما يمكن تسميته “الاشتراكية الديمقراطية الراديكالية”: اشتراكية تقوم على سلطة المجتمع لا على سلطة البيروقراطية، على ديمقراطية فعلية تشاركية لا على ديمقراطية شكلية، على تنوّع في أشكال الملكية بدل النموذج الواحد، على اقتصاد اجتماعي تضامني، وعلى تحرير المعرفة من الاحتكار. وهنا تقول نانسي فريزر: “ديمقراطية بلا اشتراكية قشرة فارغة، واشتراكية بلا ديمقراطية قفص حديدي.”
وتشهد الاشتراكية المعاصرة تحولات جديدة أيضا: اشتراكية بيئية تعترف بأن كوكب الأرض ليس موردا لا ينضب، وأن حماية الحياة أكثر قيمة من تراكم الربح؛ اشتراكية نسوية تدرك أن تحرير العمل المنزلي ورعاية الحياة شرط لتحرير المجتمع كله، كما تقول سيلفيا فيديريشي: “لا اشتراكية دون الاعتراف بالعمل غير المرئي الذي يبقي العالم حيا.”
واشتراكية رقمية تعتبر البيانات ملكا اجتماعيا، والخوارزميات مرفقا عاما، والمعرفة حقا جماعيا لا سلعة.
وهكذا تتحول الاشتراكية شيئا فشيئا من برنامج اقتصادي إلى مشروع حضاري يعيد تعريف علاقة الإنسان بالعمل والسلطة والطبيعة والتكنولوجيا والمستقبل. إنها ليست نزعة للعودة إلى الوراء بل حركة لفتح باب جديد، لأن الرأسمالية ، بحسب ريتشارد وولف ، “لم تعد نظاما اقتصاديا بل بنية استعمارية جديدة تستعمر وقت الإنسان، انتباهه، علاقاته، وأحلامه.”
ومع توالي الأزمات العالمية، صار واضحا أن الرأسمالية لم تعد مجرّد نظام اقتصادي يعتمد على السوق والتبادل، بل تحولت إلى منظومة شاملة لإدارة الحياة نفسها. إنها تتحكم في ما نأكل، وما نلبس، وكيف نفكر، وكيف نحلم، وكيف ننسى، وكيف نرى العالم. الرأسمالية اليوم ليست ذلك الوحش القديم الذي كان يكدّس العمال في مصانع مظلمة فحسب، بل أصبحت أخطبوطا يمتد إلى المجال الرقمي، إلى الفضاء الداخلي للإنسان، إلى رغباته الدقيقة، إلى تلك المنطقة الحساسة التي تسبق اتخاذ القرار. إنها تدخل في كل شيء: في المدرسة، في الهاتف، في الموسيقى، في النصوص، في الصور، في اللغة، في إيقاع الحياة. ولذلك يقول عالم النفس الاجتماعي “شوشانا زوبوف”: “الرأسمالية اليوم لا تبيع البضائع، بل تبيع السلوك البشري نفسه.”
في هذا العالم الجديد، تظهر الحاجة إلى اشتراكية لا تكتفي بتوزيع الثروة، بل تعيد للإنسان ملكية حياته. اشتراكية تفكّك آليات السيطرة الرقمية، وتعيد تعريف من يملك الزمن، ومن يملك الجسد، ومن يملك المعرفة. فالمعرفة التي كانت في عصر ماركس محصورة في الكتب والجامعات، صارت اليوم مخزّنة في سرفرات عملاقة في كاليفورنيا والصين، وتديرها شركات لا تخضع إلا لقانون الربح. والخطر هنا ليس اقتصاديا فقط، بل حضاريا: إذ يتحوّل الإنسان من فاعل تاريخي إلى مجرّد مادة خام يعاد تشكيلها وفق معايير السوق. هنا بالضبط تتدخل الاشتراكية المعاصرة لتقول عبارتها الأكثر راديكالية: إن مستقبل الإنسان ملك للإنسان، لا للشركات.
وإذا كان القرن العشرون قد عرف صراعا بين الرأسمالية الصناعية والاشتراكية الثورية، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد صراعا بين “رأسمالية المنصات” و"اشتراكية المستقبل". رأسمالية المنصات هي النموذج الاقتصادي-التقني الذي تمثّله شركات مثل Google وMeta وAmazon: شركات لا تبيع بضائع فقط، بل تبيع التجربة الإنسانية ذاتها. وهذه الشركات، كما يقول الباحث "مايكل ك. ستوري"، “تعمل على تحويل العلاقات الاجتماعية إلى عمليات حسابية، والأذواق إلى معادلات رياضية، والوعي إلى سلسلة من الإشعارات.”
هنا تصبح الاشتراكية ضرورة ملحّة، لأنها وحدها القادرة على طرح سؤال الملكية الرقمية: هل من الطبيعي أن تتحكم خمس شركات في ذاكرة مليارات من البشر؟ هل يجوز أن تتحوّل أحاديث الناس ومشاعرهم إلى معطيات تجارية؟ هل يمكن للعالم أن يعيش مستقبلا تصمّمه خوارزميات تدرّبها شركات مدفوعة بالربح فقط؟ لهذا يطرح العديد من المفكرين اليوم، وعلى رأسهم “نيك سريسك” و“هيلين هوستر”، فكرة أن الاشتراكية القادمة يجب أن تكون اشتراكية الذكاء الاصطناعي، أي اشتراكية تتحكم فيها المجتمعات ، لا الشركات ، في التكنولوجيا التي تنظّم الحياة.
ومن جهة أخرى، تتعمق الأزمة البيئية إلى مستوى يجعل الرأسمالية نفسها تبدو كأنها في حالة حرب مع الكوكب. الاحتباس الحراري، ذوبان الجليد، تآكل التربة، اختفاء الغابات، انقراض الأنواع… كلها ليست مجرد أعراض جانبية، بل نتائج مباشرة لمنطق اقتصادي لا يعترف إلا بالربح. ولذلك تقول الباحثة البيئية “ناعومي كلاين”: “الأزمة ليست في المناخ، بل في النظام الذي يجعل المناخ سلعة.”
وهكذا تفرض الطبيعة نفسها لاعبا جديدا في التاريخ، وتدفع الاشتراكية إلى توسيع مفهومها للعدالة: لم تعد العدالة الاجتماعية منفصلة عن العدالة البيئية، بل صارت جزء منها. الاشتراكية اليوم تعني ببساطة: إنقاذ الإنسان بإنقاذ الكوكب.
وإذا كانت الاشتراكية الكلاسيكية قد ركزت على الملكية والطبقة والعمل، فإن الاشتراكية المعاصرة توسّع هذه المفاهيم لتشمل الجندر والجسد والرعاية والبيت، لأن العالم لا يعيش فقط بالسلع، بل كذلك بالحب، بالرعاية، بالوقت، بالراحة، بالعلاقات. وقد عبّرت سيلفيا فيديريشي عن هذا البعد الجديد حين قالت: “لقد بنينا اقتصادا ضخما فوق عمل غير مرئي تقوم به النساء بلا أجر. وما لم يحرّر هذا العمل، فلن يتحرّر المجتمع.”
إنها رؤية اشتراكية تتجاوز المصنع إلى البيت، وتجعل من العناية بالإنسان جزء من المشروع الثوري نفسه. لأن الثورة ليست فقط إسقاط نظام اقتصادي، بل إعادة بناء كامل لشروط الحياة.
وما يزيد أهمية هذه الرؤية الجديدة هو أن الرأسمالية المعاصرة ، وهي تلتهم كل شيء ، بدأت تحوّل الإنسان نفسه إلى مشروع فرداني بلا روابط، بلا جذور، بلا جماعة، بلا انتماء. تعيد تشكيل المجتمع بحيث يصبح كل فرد في عزلة، وكل علاقة مجرد صفقة، وكل صداقة مجرد وظيفة، وكل تفاعل مجرد محتوى. وهنا تكشف الاشتراكية عن دورها الثقافي العميق: استعادة الروابط الاجتماعية، إعادة بناء الجماعية، إعادة تعريف معنى أن يكون الإنسان مع الآخرين. لأن الإنسان ، كما قال المفكر اليساري "دافيد غريبر" ، “ليس كائنا اقتصاديا، بل كائن يصنع المعنى بالعيش مع غيره.”
ومع تصاعد اللامساواة، ومع اقتراب الكثير من المجتمعات من حافة الانهيار الاجتماعي، تعود الاشتراكية لتذكّر العالم بفكرة بسيطة ولكن ثورية: أن الثروة ليست ملكا لأحد، بل نتاج جهد ملايين من البشر عبر الزمان. وأن العدالة ليست لعبة فكرية، بل شرط لبقاء المجتمع. وأن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع، بل القدرة الحقيقية للناس على تقرير مصيرهم. ولذلك تقول المنظّرة اليسارية “شانتال موف”: “الديمقراطية ليست أن ننتخب من يحكمنا، بل أن نشارك في تحديد ما يعتبر ممكنا.”
وهذا “الممكن” هو بالضبط ساحة الاشتراكية اليوم: توسيع أفق العالم ليصبح أكثر إنسانية، أكثر عدالة، أكثر عقلانية، أكثر تحررا من سيطرة رأس المال. العالم كما يبنيه البشر، لا كما تفرضه الشركات.
ومع التعمّق في قراءة اللحظة التاريخية الراهنة، ندرك أن الصراع لم يعد صراعا بين نماذج اقتصادية فقط، بل صراعا بين رؤيتين للإنسان ذاته. فالرأسمالية النيوليبرالية، منذ الثمانينات، اشتغلت بذكاء على إعادة صياغة الطبيعة البشرية. لقد أقنعت الناس بأن النجاح مسؤولية فردية لا علاقة لها بالبنى الاجتماعية، وأن الفقر خطأ شخصي لا نتاج منظومة. هذه الفكرة ، التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى ، كانت سلاحا نفسيا خطيرا، لأنها جعلت الفرد يلوم نفسه بدل أن يلوم النظام، وجعلته يشعر بالدونية كلما فشل، بدل أن يرى أن الفشل مهندس من فوق. ولذلك يقول المفكر “مارك فيشر”: “لقد أصبحت الرأسمالية قادرة على استعمار الخيال نفسه، بحيث يصير من الأسهل تخيل نهاية العالم من تخيل نهاية الرأسمالية.”
هذه القدرة على استعمار الخيال هي أخطر ما في النظام. لأنه حين يصبح الخيال مسيطرا عليه، يصبح الواقع مغلقا. وهنا بالضبط تتدخل الاشتراكية كقوة تحرير رمزية قبل أن تكون قوة سياسية. فهي تعيد للناس القدرة على تخيّل عالم آخر. تعيد حيوية السؤال الذي أراد النظام دفنه: ماذا لو كانت الحياة ممكنة بطريقة مختلفة؟
هذا السؤال البسيط هو الذي أسّس لكل الثورات في التاريخ. وهو السؤال الذي تخشاه الأنظمة أكثر من أي شيء آخر.
لكن الاشتراكية المعاصرة لا تأخذ هذا السؤال كحلم شاعري، بل كمشروع واقعي. فالعالم اليوم مليء بالأزمات البنيوية: أزمة السكن، أزمة الصحة، أزمة التعليم، أزمة المناخ، أزمة العمل، أزمة الاندماج الاجتماعي، أزمة الهوية، أزمة السياسة. وكل هذه الأزمات ليست معزولة، بل مترابطة ضمن منظومة واحدة: منظومة الربح. ولذلك يقول الباحث الاقتصادي “يانيس فاروفاكيس”: “الرأسمالية لم تعد تنتج الثروة للجميع، بل أصبحت تنتج الأزمات للجميع والثروة لأقلية.”
هنا تتحوّل الاشتراكية إلى ضرورة مادية، وليست مجرّد خيار فكري. لأن العالم يسير نحو نمط جديد من الإقطاع: إقطاع البيانات، إقطاع التكنولوجيا، إقطاع السكن، إقطاع المعرفة، إقطاع الوظائف. أغنى 1% من البشر أصبحوا يملكون ما يفوق نصف ثروات الكوكب، وتحولت الدولة في كثير من الأحيان إلى أداة لخدمتهم. ولم تعد الديمقراطية قادرة على أداء وظيفتها، لأن المال أصبح يقرر كل شيء: الإعلام، السرديات، الأحزاب، الحملات، الرأي العام، المناهج التعليمية، وحتى الذوق الثقافي.
في هذا المناخ، تظهر الاشتراكية كمشروع لاستعادة السياسة من يد رأس المال. لأنها تعيد تعريف السلطة، ليس بوصفها جهازا يدار من فوق، بل بوصفها شبكة مجتمعية تدار من الأسفل. وتعيد تعريف الملكية، ليس بوصفها حقّ فرد منعزل، بل بوصفها مسؤولية جماعية. وتعيد تعريف الحرية، ليس بوصفها قدرة على الاستهلاك، بل بوصفها قدرة على التحكم في شروط الحياة. ولذلك تقول المفكرة اليسارية “ليلى بولان”: “لا معنى للحرية إن لم تكن حرية من الخوف، ومن الحاجة، ومن الاستغلال.”
ومع هذا التحول الرؤيوي، تصبح الطبقة العاملة اليوم ليست فقط العامل في المصنع، بل كل من يبيع وقته وجهده وقدرته الفكرية. العامل الرقمي، المبرمج، الممرّضة، المعلّم، السائق، الفني، الطالب الذي يعمل، المرأة التي تقوم بالعمل المنزلي، العامل في اقتصاد المنصّات… كل هؤلاء صاروا جزء من طبقة واحدة متشظّية، تبدو مختلفة في أشكالها، لكنها تخضع لمنطق واحد: من لا يملك وسائل الإنتاج يضطر لبيع حياته بالتقسيط.
لقد تغيّرت أشكال العمل، وتغيّرت أدوات السيطرة، لكن جوهر التناقض بقي كما هو:
هناك من يملك، وهناك من يعمل. هناك من يقرر، وهناك من يخضع. هناك من يستحوذ على الثروة، وهناك من ينتجها.
ومع ذلك، فإن الاشتراكية اليوم لا تعد بيوتوبيا زهرية، بل تعد بشيء أعمق: بناء مجتمع لا يحتاج فيه الإنسان إلى التضحية بكرامته من أجل البقاء. مجتمع لا تحدد فيه الشركات ما نقرأ وما نحب وما نعتقد. مجتمع يكون فيه العمل مصدر كرامة لا مصدر شقاء، والتعليم حقا لا سلعة، والصحة خدمة لا امتيازا، والذكاء الاصطناعي ملكا للمجتمع لا للمساهمين.
وفي قلب هذه الرؤية يقف نقد النيوليبرالية بوصفها ليس فقط سياسة اقتصادية، بل كمشروع لإعادة هندسة الحياة. هذا المشروع نجح في تحويل الدولة من ضامن للمجتمع إلى ضامن للسوق. ونجح في تحويل المواطن إلى “مستهلك”، والحقوق إلى “فرص”، والمجتمع إلى أفراد يتنافسون على أوهام النجاح. وقد لخّص الباحث “وولفغانغ ستريك” هذه اللحظة بقوله:
“تحولت النيوليبرالية من سياسة إلى دين، ومن اقتصاد إلى ميتافيزيقا، ومن نموذج إلى قانون طبيعي.”
ولذلك فإن الاشتراكية اليوم ليست فقط نقدًا للنظام، بل نقدا للعقل الذي أنتج النظام. إنها نقد لفكرة الإنسان الاستهلاكي، لفكرة السوق كآلية طبيعية، لفكرة الربح كقيمة أخلاقية. وهي في الآن نفسه بناء لوعي جديد يرى في التعاون قوة، وفي التضامن قاعدة، وفي المساواة شرطا للحرية، وفي الجماعة إطارا للإنسان. إنها إعادة تعريف للإنسان ذاته.
وبينما تواصل الرأسمالية تمددها، صارت الحاجة إلى مشروع بديل أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. ليس لأن العالم ينهار فقط، بل لأن الإنسان نفسه يشعر أنه يضيع. يشعر أنه غريب في عالم تقوده القوى الاقتصادية دون أن يفهمها، وغريب في مجتمع تتحدد فيه قيمته بكمية ما يستهلكه، وغريب حتى في ذاته. هذا الاغتراب ، كما يقول المفكر الأميركي “جون بيلامي فوستر” ، “هو الشكل الحديث للفقر الروحي في عالم مادي بلا معنى.”
وهنا تصبح الاشتراكية مشروعا لإنقاذ الإنسان من هذا الضياع المعمّم. ليست مشروعا للسيطرة على الدولة، بل مشروعا لإعادة بناء المعنى. مشروعا يعيد للناس القدرة على الحلم، على الفعل، على الجماعية، على الانتماء الحقيقي. مشروعا يحرر الإنسان من شعوره بأنه مجرّد رقم في نظام ضخم لا يفهمه. مشروعا يعيد للإنسان إحساسه بأنه في قلب التاريخ، لا على هامشه.
وهكذا، حين نمعن في المشهد العالمي اليوم، نكتشف أنّ الاشتراكية لا تواجه فقط خصما خارجيا اسمه الرأسمالية، بل تواجه أيضا ميراثا ثقيلا حملته معها من القرن الماضي: الخلط بين المركزية والبيروقراطية، بين التخطيط والدغمائية، بين الانضباط الثوري والطاعة العمياء. هذا الإرث هو ما وصفه “حصّة حمّودي”، أحد المنظرين اليساريين الجدد في أمريكا اللاتينية، بقوله: «لم يسقط الحلم بالعدالة، بل سقطت الأجهزة التي أرادت احتكاره». لذلك، فإن سؤال الاشتراكية اليوم ليس سؤال “الإحياء”، بل سؤال “إعادة التأسيس”.
فلا يمكن للمشروع الاشتراكي أن ينهض من جديد ما لم يتجاوز تلك “الازدواجية المؤسّسة” التي حكمته طويلا: ازدواجية القول والفعل. فقد كان الخطاب الاشتراكي تاريخيا يعلن انحيازه للطبقات الشعبية، بينما كانت ممارسات كثير من الأحزاب “التاريخية” تعيد إنتاج ذات علاقات السيطرة داخل هياكلها. وما لم تحسَم هذه الهوّة، فستظل الاشتراكية ملاحَقة بشبهة أنها مشروع جميل يفسده أهله قبل أعدائه.
وفي هذا السياق، تظهر الحاجة إلى ما يسمّيه بعض المفكّرين الثوريين الجدد بـ «الاشتراكية المفهومية»: أي الاشتراكية التي تستعيد جوهرها الأول، لكنها تفكّكه وتعيد بناءه بعقلية منفتحة على العلوم الحديثة، على الاقتصاد الرقمي، على التكنولوجيا الحيوية، على الذكاء الاصطناعي، وعلى تحوّلات العمل نفسه. فالعامل الصناعي الذي كان محور الماركسية الكلاسيكية لم يعد اليوم هو ذات العامل الذي نراه في خطوط الإنتاج. لقد أصبح العمل موزّعا، هشّا، عابرا للهويات المهنية، مجزّأً بين شركات كبرى ومنصات رقمية وعقود مؤقتة.
إنّ هذا التحوّل العميق في بنية العمل يجعل الاشتراكية مطالَبة بإعادة التفكير في مفهوم الطبقة. يقول المناضل الكولومبي المعاصر إيفان دوفال:
«الطبقة العاملة اليوم ليست تلك التي في المصنع، بل تلك التي تعجز عن السيطرة على وقتها.»
هذا الانزياح في تعريف الطبقة يفتح الباب أمام فهم جديد للاستغلال، قائم على الاستيلاء على الزمن الاجتماعي وليس فقط فائض القيمة المادي.
ومن هنا تنبثق ضرورة بناء اشتراكية زمنية، تهدف إلى تحرير وقت البشر من هيمنة السوق. تخيّل نظاما اجتماعيا يجعل ساعات العمل أقل، ويجعل العمل نفسه موزعا بعدل، ويعطي للإنسان هامشا أكبر لأن يكون كائنا يفكّر، ويحبّ، ويبدع، لا مجرد آلة إنتاج. فالرأسمالية اليوم لا تسرق قوت الناس فقط، بل تسرق حياتهم. وتلك أخطر أشكال الإفقار.
على الضفّة الأخرى، نلاحظ أن حركات اليمين الشعبوي في العالم تتغذّى من فشل اليسار التقليدي، وتستخدم خطابا بسيطا يقوم على الخوف والهويّة والاستقرار. وهي تنجح لأنها تقدّم أجوبة جاهزة لجماهير متعبة. أمّا الاشتراكية فلا يمكن أن تقدّم أجوبة جاهزة، لأنها مشروع تحرير شامل، لا مشروع تهدئة. ولكن عليها في الوقت ذاته أن تتخلّص من لغتها الخشبية، من “الخطاب الكنسي” الذي يجعلها بعيدة عن الناس. يقول المفكّر المغربي المعاصر اليساري نجيب السالمي:
«اللغة التي لا يفهمها الشارع ليست لغة ثورية، بل لغة برجوازية متنكرة.»
لذلك، فإن الثورة الاشتراكية اليوم تبدأ من اللغة: من القدرة على صياغة وعي جديد، لا عبر التلقين، بل عبر التشاركية. الاشتراكية ليست مدرسة، هي ورشة. ليست كتابا، هي ممارسة. ليست وصفة، بل تجربة حية تتكوّن بين الناس وهم يحاولون فهم مصائرهم.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن للخطاب الاشتراكي أن يظل أسير “القومية الاقتصادية” وحدها. العالم مترابط، وسلاسل الإنتاج عابرة للحدود، والتلوث عابر للحدود، ورأس المال عابر للحدود. ولهذا أصبحت الاشتراكية مطالبة ببناء أممية جديدة ، ليست الأممية القديمة التي تقودها أحزاب مركزية، بل أممية قاعدية تنشأ من التضامن بين الحركات الاجتماعية العالمية: الحركات المناخية، النسوية الثورية، الحركات المناهضة للعنصرية، حركات عمّال المنصات الرقمية، نضالات الشعوب الأصلية، وحركات الفلاحين في الجنوب العالمي.
لقد أصبح واضحا أنّ الاشتراكية لن تنهض من باريس أو موسكو كما في السابق، بل من ساو باولو، تونس، لاباز، دكار، ومانيلا: من الأطراف المقهورة التي تدفع ثمن النظام العالمي. العالم اليوم يعيش لحظة مشابهة لما وصفه “آلان باديو” حين قال:
«الثورة تأتي دائما من خارج المركز، من المكان الذي لا يتوقّعه أحد.»
وإذا كانت الاشتراكية في الأمس ركّزت على السيطرة على الدولة كهدف جذري، فإن اشتراكية اليوم مطالبة بتوسيع مفهوم السلطة نفسها: السلطة ليست فقط الدولة. السلطة هي أيضا المنصة الرقمية التي تتحكّم في بيانات ملايين البشر، وهي الخوارزمية التي تقرّر من يحصل على قرض ومن يحرم، ومن تظهره نتائج البحث ومن تخفيه. وهنا يقول الثوري الرقمي الأسترالي لوقا نورفيل:
«الرأسمالية لم تعد مصنعا ودولة؛ أصبحت خوارزمية وسيرفرا عالميا.»
لذلك، فالمعركة الجديدة هي معركة السيادة الرقمية. كيف نبني اشتراكية تستطيع تفكيك احتكار البيانات؟ كيف نمنع تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة لزيادة اللامساواة؟ كيف نجعل التكنولوجيا ملكا عاما؟
الاشتراكية التي لا تجيب عن هذه الأسئلة تبقى اشتراكية القرن الماضي، مهما كانت نواياها طيبة.
وفي قلب هذا المشهد تتقدّم مسألة البيئة بوصفها الشرط الوجودي لكل مشروع تحرري. فالكوكب نفسه أصبح يستنزَف بسرعة جنونية. الرأسمالية، بمنطق تراكمها، تحوّلت إلى ما يسميه المفكر الإيطالي ماورو فيراري:
«نظام انتحار جماعي مقنّن.»
والاشتراكية اليوم لا يمكن أن تكون اشتراكية إذا لم تكن اشتراكية بيئية، تربط بين التحرر الاجتماعي والتحرر الإيكولوجي، وتعتبر أن الدفاع عن الغابات والمحيطات والأنهار جزء من الدفاع عن البشر.
ولهذا، تتقدّم الاشتراكية الجديدة باعتبارها مشروعا ثلاثي الأبعاد:
-تحرّر اقتصادي: كسر احتكار الثروة.
-تحرّر سياسي: كسر احتكار السلطة.
-تحرّر إيكولوجي: كسر علاقة الاستغلال مع الطبيعة.
من دون هذا الثالوث، لن تكون الاشتراكية مشروعا للمستقبل.
وتبدأ الاشتراكية الجديدة من إدراك بسيط لكنه راديكالي: أنّ السلطة لم تعد فقط ما يجتمع في مبنى البرلمان أو ما يرتسم على ورقة دستور، بل أصبحت خارطة علاقات موسّعة تمتد من حقل زراعي صغير في الجنوب إلى سيرفرات ضخمة في وادي السيليكون؛ من ممرضةٍ تعمل بالليل إلى خوارزمية تقرّر من سيحصل على قرض سكني. لذلك يتبدّل معيار الصراع: لم يعد المعترك محصورا في ملكية المصنع أو الأرض فحسب، بل صار يشمل ملكية الشبكات، ملكية البيانات، ملكية البنية التحتية الرقمية، وحقّ الوصول إلى المعرفة نفسها. إن فشل اليسار في قراءة هذا التحوّل كان وما يزال جزء من تراجعه؛ والناجح هو من يقرأ الهيكل الجديد للسلطة ويبنيه في استراتيجيته السياسية.
تتطلّب هذه الرؤية إعادة تعريف عمليّة التصعيد السياسي: لم تعد المواجهة فقط في الشارع أو في البرلمان، بل في محاكم الملكية الفكرية، في هياكل تنظيم البيانات، وفي قواعد تشغيل الخوارزميات. ففرض قواعد ملكية عامة للبيانات، وفرض رقابة مجتمعّية على خوارزميات التوصية والإعلان، وفرض قوانين تمنع تراكم السيطرة على البنى الأساسية الرقمية باتت أدوات اشتراكية بامتياز؛ لأنها تعيد للناس حقّ تقرير شروط حياتهم الرقمية كما أعاد اشتراكيّو الماضي للشعوب حقّ تقرير مواردها المادية. وإذا أردنا أن يكون للخطاب الاشتراكي صدى فعليا، فلا بد أن يتحوّل إلى برامج ونماذج قابلة للتطبيق: مشاريع تعاونية للمنصات، شبكات سحابية مجتمعية، بنوك بيانات عامة تدار بمؤسسات ديمقراطية، وبرمجيات مفتوحة المصدر تستخدم في المدارس والمستشفيات.
ومن هنا ينبثق البعد الثاني: الاقتصاد السياسي للزمن. لا يكفي أن نتحدّث عن الأجور والوظائف إذا ظلّت الساعات اليومية ملكا للسوق. إنّ الاشتراكية المعاصرة مطالبة بأن تعيد صياغة توقيت الحياة: تقليل ساعات العمل المدفوعة، رفع جودة الرعاية المجتمعية، تحويل جزء من الإنتاج إلى ملكية مجتمعية تسمح بتوزيع زمن الحرّية. فهذا التصوّر استجابة لمكالمة حقيقية: التكنولوجيا تستطيع أن تقلّص المجهود البشري إذا ما صمّمت لخدمة المجتمع لا لخدمة الربح. وبدل أن تحوّل الأتمتة إلى سبب لزيادة البطالة وضعف الأجور، يمكن للسياسات الجريئة أن تحوّلها إلى وقت حرّ ومعاش مؤمّن للجميع، وإلى مجتمع يعطي الناس مساحة ليبدعوا ويتعلّموا ويعتنوا ببعضهم. هذا التمثيل لمفهوم الزمن الاجتماعي يضع الاشتراكية في صدامٍ مباشر مع منطق تراكم الأرباح.
اما العد الثالث، لا يمكن الحديث عن اشتراكية حقيقية دون شقّ نسوي حيّ وفعّال: إنّ إعادة توزيع الثروة المادية لن تنجح إذا لم تعاد توزيع أعمال الرعاية والعناية التي تبقي المجتمع حيا. لقد أظهرت دراسات الحركة النسوية الماركسية كيف أن الاقتصاد الحديث بني على عمل غير مرئي ، رعاية الأطفال، رعاية المرضى، العمل المنزلي ، وأن تجاهل هذه الطبقة من العمل يجعل كل سياسات العدالة ناقصة. لذلك تصبح المطالبة بتعويض عن العمل المنزلي، وتعزيزا للخدمات العامة، وسياسات للولادة المدعومة، وإجازات أبوة حقيقية، جزء لا يتجزأ من برنامج اشتراكي معاصر. إن جعل أعباء الحياة مشتركة ومؤسسة قانونيا واجتماعيا هو مدخل لإطلاق طاقات إنتاجية وإنسانية محفوظة حتى الآن في ظلّ الأدوار التقليدية.
و البعد الرابع، يتوجّب على الاشتراكية أن تكون بيئية بالمعنى الذي يقلب الأولويات: ليس فقط تقليل الانبعاثات بل إعادة تنظيم الاقتصادات حول حدود القدرة الحيّة للأرض. هذا يعني التخلي عن مفهوم النمو بلا قيود وتبنّي سياسات تحترم الكميات المحدودة للموارد، وتعوّض عن الضرر التاريخي الواقع على الجنوب العالمي عبر برامج إنصاف بيئي تتضمن تعويضات حقيقية، نقل التكنولوجيا النظيفة، ودعم سيادة الغذاء المحلي. وفي هذا الإطار تصبح مواجهة شركات الوقود الأحفوري، ووقف تمويل المشاريع المدمّرة للبيئة، وتطوير شبكات طاقة مجتمعية وأساليب إنتاج غذائي مستدامة، إجراءات اشتراكية في صميمها، لأن في ذلك حماية لحياة الناس ولقدرتهم على العيش بكرامة.
امّا البعد الخامس، المسألة الدولية ، الأدوات والممارسة الأممية ، يجب أن تعاد ابتكارها. لم تعد الأممية هي مجرد تجمع أحزاب أو شعارات عابرة؛ بل هي بنية من التضامن الفكري والاقتصادي والسياسي: تبادل تجارب النضال، دعم المزارعين ضد شركات البذور الهجينة، شبكات دعم للعاملين عبر الحدود، آليات مالية تمنع تهريب رأس المال أو تهرب الشركات من المسؤولية البيئية والاجتماعية. الاشتراكية المعاصرة تحتاج تحالفات مرنة قاعدية تنسّق بين ساحات النضال وليس قيادات مركزية تصدر بيانات عامة. والحقيقة أن الحركات التي تنبني من الأسفل ، من محطات رفض بيع الماء، إلى انتفاضات ضد ارتفاع الإيجارات، إلى إضرابات سائقي المنصات ، هي البذور الحقيقية لأممية جديدة لا تمثّلها مكاتب أوروبية أو مقرات حكومية، بل تمثّلها روابط ونقابات ومشاريع تعاونية واقعية على الأرض.
و البعد السادس، الديمقراطية الاقتصادية: لا يكفي أن يكون لدينا حزب اشتراكي قوي أو حكومة ذات برنامج تقدمي، بل يجب أن يترافق ذلك مع تحولات في كيفية اتخاذ القرارات الاقتصادية نفسها. المقترحات العملية هنا واسعة: مجالس عمالية في الشركات تشارك في التخطيط والإدارة، مؤسسات ائتمانية مجتمعية تمنح قروضا للشركات التعاونية، صناديق سيادية محلية تدار بشفافية لإعادة استثمار الأرباح في الخدمات العامة، وقوانين تسهّل انتقال الشركات المهدّدة بالإفلاس إلى ملكية العمال بدلا من تركها للاستحواذ المضاربي. هذه الأدوات تحوّل الاشتراكية من شعار إلى ممارسة يومية تحافظ على كرامة العمال وتمنع خسارة الموارد لصالح المضاربين.
البعد السابع، الثقافة والسياسة: إنّ بناء مشروع بديل يستدعي استراتيجية ثقافية طويلة المدى. لا يكفي أن تغيّر قانونا واحدا؛ يجب أن تغيّر التصوّر العام عن ما يعنيه “العيش الجيد”. ذلك يتطلّب مدارس تعليمية تعلّم التعاون، وسائل إعلام تعرّف بالتجارب الشعبية، مسارحا وفنونا تعيد سرد التاريخ عبر صوت المهمشين، وبرامج شبابية تربط بين المعرفة التقنية والالتزام الاجتماعي. الثقافة هنا ليست رفاهية بل ساحة مواجهة: أو ننتزع الخيال من قبضة السوق ونحرّره، أو نترك أحلام الأجيال القادمة لتسوّقها خوارزميات من منصات خاصة.
و البعد الثامن، الاستراتيجية السياسية يجب أن تكون هجينة ومرنة: الجمع بين النضال الانتخابي والتحرك القاعدي، بين بناء مؤسسات محلية قوية وبين الضغط الدولي، بين الاستفادة من التكنولوجيا واستغلالها في خدمة الشعب وبين مقاومة استحواذها الاستغلالي. الفعل الاشتراكي اليوم يشبه أوركسترا كبيرة تتطلب قيادة مهنيّة لكنها لا تمثّل الفرد القائد، بل تتوزّع عبر قيادات محلية ومبادرات شبابية ومراكز بحثية مستقلة ومنظمات ثقافية. إن نجاح هذا الاختبار يعتمد على القدرة على التعلم من التجارب التاريخية، ورفض تكرار أخطاء المركزية والبيروقراطية، والتحلّي بالصدق مع الناس من حيث الممارسة والنتائج.
أخيرا، والمهم فوق كلّ ذلك، هو استعادة الشعور بالكرامة المشتركة: أن حقوق الآخر ليست تهديدا لي بل أساس حياتي مشترك؛ أن الأمن الحقيقي يتحقّق حين تتوفّر الصحة والتعليم والمسكن والعمل الكريم للجميع؛ وأن الحرية لا تعني القدرة على شراء المزيد، بل القدرة على أن تكون إنسانا داخل مجتمع يحمي هذا البشر. إذا استطاعت الاشتراكية أن تسلّم بهذه البسيطة ، وأن تصوغ سياسات ملموسة تظهر نتائج ملموسة ، فإنها ستعود ليس كأيديولوجيا معزولة، بل كإطار حياة ممكن للغالبية. هذا هو التحدّي، وهذا هو الأفق: تحويل الحلم إلى برنامج عملي، وتحويل الرؤية إلى بنية اجتماعية تدافع عن الناس قبل أن تدافع عن نظرياتها.
إنّ الاشتراكية الجديدة، كي تولد ولادة سليمة، تحتاج إلى ما يسمّيه بعض المفكّرين الثوريين المعاصرين بـ «تحويل البنى وليس فقط تبديل الحكّام». إذ مرّت الإنسانية بعشرات التجارب التي رفعت الشعارات الجذرية دون أن تمسّ البنية العميقة التي تنتج اللاتساوي: الملكية المركّزة، المعرفة المحجوزة، اللامساءلة، وتحوّل الدولة إلى جهاز فوق المجتمع بدل أن تكون امتدادا منظّما له. ولعلّ أبرز درس تتعلّمه الاشتراكية المعاصرة هو أن الثورة الاجتماعية عملية تاريخية ممتدّة تنشأ من داخل المجتمع وتتجدد باتجاهات متعددة.
ولهذا، فإنّ الدولة، بوصفها جهازا مركّبا، يجب أن تعاد قراءتها من جذورها. فالمسألة ليست إقامة «دولة اشتراكية» بمعنى الدولة التي تشرف على المصانع وتدير كل المؤسسات، بل «دولة المجتمع» التي تفتح مؤسساتها أمام الرقابة الشعبية. وهذا ما يعيد صياغة مفهوم الاشتراكية بوصفها عملية ديمقراطية شاملة لا تتحقق إلا حين يكون العامل في المصنع، والمزارع في الحقل، والممرضة في المستشفى، والأستاذ في المدرسة، مشاركين في تحديد السياسات التي تخصّهم مباشرة.
إنّ تحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات مفتوحة يحرّر الحياة العامة من الارتجال الذي مارسته الليبرالية ويحرّر المجتمع من الجمود الذي عرفته التجارب البيروقراطية القديمة. وهذا يتطلّب أدوات جديدة، مثل المجالس المحلية المنتخبة مباشرة من مكان العمل والسكن، والميزانيات التشاركية، واللوائح الملزمة للشفافية، والحقّ القانوني في الاطلاع على العقود العامة. إنّ هذا التحوّل لا يعتبر مجرد إجراء إداري؛ بل هو خطوة ثورية تعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، وتجعل الديمقراطية فعلا يوميا وليس موسما انتخابيا.
وفي هذا المسار، يصبح من الضروري مراجعة مفهوم «التنمية» نفسه. فقد شهد العالم خلال العقود الأخيرة ما يسمّى بـ «أسطورة النمو»، أي الاعتقاد بأنّ ارتفاع الناتج القومي يساوي تحسنا في حياة الناس، بينما الحقيقة أن دولا كثيرة ارتفع فيها الناتج دون أن ترتفع مستويات المعيشة. لذلك تأتي الاشتراكية الحديثة لتفكّك هذا الوهم وتطرح بديلا جوهريا هو «اقتصاد الحياة». أي الاقتصاد الذي يقيس نجاحه بقدرة الناس على العيش بكرامة: الصحة، التعليم، السكن، البيئة النظيفة، الأمن الغذائي، العدالة الضريبية.
وفي هذا الإطار، يبرز دور التعاونيات كأحد أهم أدوات الاشتراكية العملية اليوم. فالتعاونيات ليست مجرد شركات جماعية، بل هي نموذج اقتصادي يعيد تعريف الملكية والإدارة. إن تجربة عمال «موندراجون» في إقليم الباسك، وتجارب التعاونيات الفلاحية في أمريكا اللاتينية، وتجارب الإنتاج المحلي في الهند وإفريقيا، كلها تثبت أن الاقتصاد التعاوني قادر على خلق الشغل واستدامة الإنتاج وإعادة توزيع الأرباح بشكل عادل. وما تطرحه الاشتراكية الجديدة هو توسيع هذا النموذج ليصبح جزء من بنية الاقتصاد الوطني: تعاونيات في النقل، في الزراعة، في التعليم، في الصحة، في التكنولوجيا.
ومن هذا الباب بالذات، تتقدم مسألة السيادة الغذائية كركن أساسي. إنّ الأمن الغذائي لا يتحقق بمجرد توفير الغذاء في الأسواق، بل بتحقيق قدرة المجتمع على التحكم في إنتاجه وتوزيعه بعيدا عن الشركات المتعددة الجنسيات التي تستولي على البذور والمياه وتفرض أسعارها على الشعوب. ولذلك، تصبح الاشتراكية الزراعية محورا أساسيا: إصلاح زراعي جذري يمنح الأراضي لمن يزرع، دعم الفلاحين الصغار، إنشاء بنوك بذور وطنية، حماية المياه من الخصخصة، وتشجيع الزراعة المستدامة. إن هذا التوجّه ليس فقط اقتصاديًا، بل هو أيضًا ثقافي ، لأنه يعيد العلاقة بين الإنسان والطبيعة من علاقة استغلال إلى علاقة رعاية متبادلة.
وفي قلب هذا المشروع، تقف النقابات بصفتها أداة النضال الأساسية. لكن النقابة التي تتحدث عنها الاشتراكية الجديدة ليست النقابة الوظيفية التي تتفاوض على الزيادات السنوية، بل النقابة-المجتمع، النقابة-المدرسة، النقابة-الفضاء السياسي. نقابة تدرّب العمال على تسيير مؤسساتهم، تنتج المعرفة، تراقب السياسات العامة، وتشارك في التخطيط الاقتصادي. وهنا تبرز فكرة «النقابية الثورية» ، التي تربط بين النضال في مكان العمل وبين النضال من أجل تغيير النموذج الاقتصادي ذاته.
أما في المجال التقني، فإن الاشتراكية المعاصرة تعتبر أن التكنولوجيا ليست عدوا ولا خلاصا، بل ميدان صراع. إذ يمكن للتكنولوجيا أن تعيد تركيز السلطة بشكل غير مسبوق ، عبر الذكاء الاصطناعي، أنظمة المراقبة، الاحتكار الرقمي ، ويمكن لها أيضا أن تكون أداة لتحرير البشر إذا تم تنظيمها ملكيّة وإدارة وتشغيلا لصالح المجتمع. الاشتراكية الرقمية تعني أن تصبح شبكات الإنترنت والبنى السحابية وتطبيقات الصحة والتعليم والبنوك الإلكترونية ملكية عامة، تدار ديمقراطيا، وتضمن حماية خصوصية الأفراد.
كما أنّ الاشتراكية الجديدة لا تنجو من سؤال الثقافة والرموز. فكل نظام اجتماعي يحتاج سردية تؤسس له. والسردية الاشتراكية اليوم لا يمكن أن تكون محصورة في خطاب الطبقة الاقتصادية فقط، بل يجب أن تمتدّ إلى سردية إنسانية كاملة تضع التضامن قبل الاستهلاك، والمجتمع قبل الفردانية الطفيلية، والإبداع قبل التنافسيّة العمياء. وهذا يجعل الفن والأدب والسينما والمسرح جزء من المشروع الاشتراكي، لأنها تعيد رسم صورة العالم الممكن. إنّ التغيير لا يحدث فقط بالقوانين، بل أيضا بالخيال الجمعي الذي ينتج الذائقة والأحلام والآفاق المشتركة.
وأخيرا، فإنّ الاشتراكية الجديدة تعيد الاعتبار لفكرة الأفق. إذ لا يمكن لأي مشروع تحرري أن ينجح إذا فقد البوصلة الأخلاقية: الكرامة، المساواة، العدالة، الحرية من الاستغلال، الحقّ في الطبيعة والوقت والعيش الكريم. وهذا الأفق هو ما يجعل الاشتراكية تتجاوز كونها برنامجا اقتصاديا. إنها فلسفة حياة، طريقة رؤية للعالم، مشروعا جماعيا يطمح إلى إعادة بناء المجتمع على أساس المشاركة والمسؤولية المتبادلة، لا على أساس الخوف والإقصاء واللامساواة.
وهكذا، كلّما تقدّمنا في تفكيك الاشتراكية بين الأمس واليوم، اتّضح لنا أنّ السؤال المركزي لم يعد: كيف نسقِط الرأسمالية؟ بل صار أعمق وأخطر: كيف نمنع الرأسمالية المتحوّلة من ابتلاع حتى إمكانية التفكير في إسقاطها؟ وهذا التحوّل في طبيعة الصراع هو ما لم يكن مطروحا على ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ بصورة حدّية، لأن الرأسمالية في زمنهم كانت ما تزال مادّية، صلبة، قائمة على الملكية المباشرة واحتكاك العمل المأجور بالآلة الصناعية. أمّا اليوم، فهي رأسمالية "تسييل شامل": تسييل القيم، وتسييل الزمن، وتسييل العلاقات الاجتماعية، وتحويل كل شيء إلى "تدفّق". ولعلّ ما قاله الثوري الإيطالي فرانكو بيراردي (Bifo) يلتقط هذا التحوّل: "الرأسمالية الجديدة لم تعد تستعبد الجسد، بل أعصاب الإنسان وخياله وإيقاع نومه".
هذا هو الجحيم الجديد: رأسمالية تخرج الاستغلال من أسوار المصنع إلى نفَس الحياة اليومية، تجعل الزمن سلعة، والهدوء سلعة، والاهتمام سلعة، والإنصات سلعة، بل وحتى التمرّد نفسه يتحوّل إلى "منتج ثقافي". من هنا، فإنّ الاشتراكية اليوم مطالَبة بأن تعيد رسم أدوات تحليلها، لا لأن مبادئها بادت، بل لأنّ عدوّها تغيّر جلده. ولذلك قال دافيد هارفي، أحد أبرز الماركسيين اليوم: "إن لم تطوّع الاشتراكية أدواتها وتحليلها لاقتصاد رأس المال المرن، فسيتحوّل الخطاب الاشتراكي إلى متحف نظري".
والحقيقة أنّ اليسار المعاصر كثيرا ما وقع في هذا الفخ: فخّ المحافظة الفكرية. إذ صار يخشى تجديد مفاهيمه حتى لا يتّهم بالتفريط بالأرثوذكسية الثورية. لكن الاشتراكية التي لا تجدد نفسها ليست وفية لماركس، بل خائنة لروحه. فماركس نفسه كان ثوريّا في منهجه أكثر من كونه ثوريا في شعاراته. كان ثوريا لأنه جرّأ العقل على مساءلة المسلّمات، لا لأنه حفظ نصوصه حرفا حرفا. ولذلك قال تيري إيغلتون: "الحفاظ الحرفي على ماركس خيانة لماركس".
إنّ الاشتراكية اليوم مطالبة بأن تنتقل من الدفاع عن "نموذج جاهز" إلى بناء "أفق مفتوح". فالمجتمعات تغيّرت: لم يعد العامل هو نفس العامل الذي تصوّره ماركس في القرن التاسع عشر، ولا المدينة هي نفس المدينة، ولا الدولة هي نفس الدولة. أصبحت الدولة نفسها خاضعة لتأثير الشركات متعددة الجنسيات، وأصبحت التكنولوجيا وسيطا في كلّ تفاصيل الحياة، وأصبحت الطبقة العاملة مشتّتة بين مهامّ غير مستقرة، منصّات رقمية، أعمال ظرفية، مكاتب افتراضية، ووظائف بلا نقابات ولا استقرار ولا ذاكرة نضالية. وهذا ما يسمّيه مارك فيشر "البروليتاريا السائلة": طبقة عاملة موجودة ولكن بلا وعي طبقي، وبلا زمن للتنظيم، وبلا لغة مشتركة.
وعليه، فإنّ الاشتراكية اليوم مطالبة بصناعة لغة جديدة، لغة تتوجّه إلى الإنسان الذي يعيش استلابا لا يشبه استلاب المصنع، بل استلاب "الشاشة"، واستلاب العزلة، واستلاب فقدان المعنى، واستلاب المقارنة الدائمة. وهنا تتّسع الاشتراكية إلى حقل لم يكن جزء صريحا من معجمها القديم: حقل الصحة النفسية بوصفها جزء من الصراع الطبقي.
نعم، الصحة النفسية لم تعد شأنا فرديا. إنها اليوم مرآة للعنف الهيكلي. فالاكتئاب المؤسّسي، القلق المستمر، الإحساس بالعجز، الانفصال عن الذات، هذه ليست اضطرابات شخصية، بل نتائج مباشرة لعالم يطلب من الإنسان أن يكون آلة مرنة، متاحة دائما، بلا بطء، بلا تردد، بلا ضعف. وهنا تلتقي الاشتراكية مع ما قاله عالم الاجتماع ريتشارد سينيت: "الرأسمالية المرنة تطلب من الإنسان أن يكون بلا جذور حتى يسهل اقتلاعه".
وبالتالي، فإن الاشتراكية المعاصرة ليست فقط مشروعا اقتصاديا، بل مشروع إنساني شامل، مشروع لإعادة الزمن إلى الإنسان، لإعادة المعنى، لإعادة الروابط الاجتماعية، لإعادة الحق في البطء، والحق في الفراغ، والحق في ألا نستنزف. وهذا ما أكده الفيلسوف الثوري هارتموت روزا حين قال: "التسريع هو السلاح التاريخي للرأسمالية، والمقاومة تبدأ بإعادة الإيقاع إلى الحياة البشرية".
إنّ الاشتراكية اليوم، إذا أرادت أن تكون ثورية، عليها أن توسّع ميدان نضالها إلى ثلاثة مستويات مترابطة:
-النضال الاقتصادي: وهو أصل الاشتراكية، ويظلّ جوهرها، عبر مقاومة التفاوتات، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والعمل المأجور المُهين، واستغلال العمال.
-النضال الاجتماعي–الحياتي: حيث يصبح الحق في السكن، الصحة، المعرفة، الزمن الحر، والكرامة، حقوقا طبقية لا إنسانية فقط.
-النضال الرمزي–الوجداني: مقاومة "الاستعمار العاطفي" الذي تفرضه الرأسمالية، والذي يجعل الإنسان يختبر ذاته من خلال السوق، لا من خلال قيمه.
إنّ ما ينقص الاشتراكية اليوم ليس الأفكار، فقد ترك لنا قرن ونصف من الفكر الثوري مكتبة هائلة، بل ما ينقصها هو القدرة على الترجمة التاريخية: ترجمة هذا التراث إلى أدوات تناسب عالم المنصّات، عالم الخوارزميات، عالم المدن الذكية، عالم العمل غير المستقر، عالم الاغتراب الداخلي، عالم الوحدة في الزحام.
وليس صدفة أن يكتب المنظّر الثوري المعاصر فريدريك جيمسون العبارة الشهيرة: "أسهل على الإنسان اليوم أن يتخيل نهاية العالم من أن يتخيل نهاية الرأسمالية". ليس لأن الرأسمالية خالدة، بل لأنّ الخيال السياسي نفسه مخطوف. وهنا تبرز مهمة الاشتراكية في زمننا: تحرير المخيلة الجماعية. فالثورة قبل أن تكون حدثا في الشارع، هي حدث في الخيال.
إنّ الاشتراكية اليوم هي الفضاء الوحيد الذي يمكنه أن يعيد للإنسان حقه في أن يحلم بمستقبل مختلف، غير خاضع لهيمنة الشركات العملاقة، غير مصفّى عبر مصالح رأس المال، غير مراقب بخوارزميات. إنها ليست فقط مشروعا لإنهاء الاستغلال، بل لإنهاء الضيق الوجودي الذي صنعته الرأسمالية. إنها مشروع لاستعادة الحياة نفسها من قبضة السوق.
ولعلّ أهمّ ما يتطلّبه فهم الاشتراكية اليوم هو إدراك أنّ الرأسمالية لم تعد نظاما اقتصاديا فقط، بل صارت نظاما معرفيا شاملا، يحدّد ما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن التفكير فيه، يحدّد شكل الأسئلة قبل أن نطرحها، وحدود الخيال قبل أن نحلم. إنّها تنتج الإنسان كما تنتج السلع، وتعيد تشكيل الحاجات كما تعيد تشكيل الأسواق. وهذا ما أكده المفكّر الماركسي الفريدي غرامشي في عبارته الشهيرة: "السيطرة الثقافية تسبق السيطرة السياسية". لكنّ الرأسمالية المعاصرة ذهبت أبعد ممّا كان يتصوّره غرامشي: فهي لا تكتفي بالسيطرة على الثقافة، بل تسيطر على البنية الذهنية نفسها.
فاليوم، تدار الرغبات عبر خوارزميات، وتوجّه القيم عبر مراكز بيانات، وتطوّع الانفعالات عبر منصّات التواصل، وتصاغ الوعيّات عبر موجات متتالية من المحتوى السائل. لذلك، لم يعد الصراع الطبقي يمرّ فقط عبر علاقات الإنتاج، بل عبر "علاقات الإدراك". وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الثوري جوناثان كريبين حين قال: "التحرر اليوم يبدأ من استعادة الإدراك من يد الخوارزمية".
إنّ الاشتراكية التاريخية كانت تواجه رأسمالية تعتمد على القوّة المباشرة: استغلال، عمل مأجور، فائض قيمة، شرطة، جيوش، قوانين. أمّا الاشتراكية اليوم فتواجه رأسمالية أكثر نعومة، وأكثر تغلغلا، وأكثر خفاء: رأسمالية تجعل الاستغلال يبدو حرية، وتجعل السيطرة تبدو اختيارا شخصيا، وتجعل العزلة تبدو فردانية محرِّرة. وهنا تكمن خطورة المرحلة: أنّنا نعيش تحت نظام يشتغل عبر الإقناع أكثر ممّا يشتغل عبر القسر. نظام يجعل الإنسان يحبّ قيوده لأنها تأتيه في شكل "خدمات"، "راحة"، "تسهيل"، "سرعة"، "تواصل"، "تجربة مستخدم".
وهذا ليس تناقضا. بل هو، كما يسميه دافيد هارفي، "وجه الرأسمالية المرن": كلّما ازدادت هشاشة حياة الناس، ازداد النظام قدرة على إيهامهم بأنه يقدّم لهم حلولا فردية لتلك الهشاشة، بينما هو أصل الهشاشة نفسها. ولذلك يقول المناضل الثوري الفرنسي ريفولت بيليو: "الرأسمالية الحديثة تخلق الجرح وتبيعك الضمادة".
هنا يصبح السؤال الاشتراكي الأعمق:
كيف نبني وعيا طبقيا في زمن صار فيه الوعي نفسه مبتلعا؟
إنّ اليسار التاريخي كان قادرا على التعبئة لأنّ الطبقات الاجتماعية كانت واضحة المعالم، مستقرة، لها مواقع ثابتة في الاقتصاد والإنتاج، ما يجعل الربط بينها وبين مشروع تحرري أمرا قابلا للتحقّق. أمّا اليوم، فإنّ تفتيت الطبقة العاملة يجعل المهمة أصعب: عامل منصّات، موظّف عقود محدودة، باحث عن شغل، معلّم خاص، مبرمج مستقلّ، عامل توصيل، ممرّضة، عامل مصنع، عاطل عن العمل، مستخدم عن بعد، شابّ يعمل 3 وظائف صغيرة…
إنّها طبقة عاملة موجودة لكنها غير قادرة على رؤية نفسها كطبقة.
لذلك، لم يعد دور الاشتراكية هو تقديم برنامج سياسي فقط، بل صناعة وعي طبقي جديد يناسب هذا التفكك. وعي لا يقوم على "المهنة" أو "مكان العمل" كما في الماضي، بل على التجربة المشتركة للاستغلال: تجربة عدم الاستقرار، تآكل الدخل، ضغط العمل، انعدام الأمان، المراقبة، التقييم المستمر، فقدان الزمن الحر، غياب النقابات، الحياة تحت تهديد دائم. هذه التجارب، رغم اختلاف المهن، هي القاسم المشترك للطبقات الشعبية اليوم. وهذا ما عبّر عنه الثوري المعاصر راؤول زيبك حين قال: "الطبقة العاملة اليوم لا تعرّف بالآلة التي تعمل عليها، بل بالزمن الذي يسلب منها".
ومن هنا، يصبح قلب الاشتراكية اليوم هو استعادة الزمن. فالزمن صار ساحة للصراع الطبقي، مسلوبا عبر ساعات العمل الممتدّة، عبر الأجور المنخفضة التي تجبر الناس على العمل أكثر، عبر التكنولوجيا التي تجعل العامل متاحا 24 ساعة، وعبر القلق الدائم من المستقبل. ولذلك، فإنّ الاشتراكية الجديدة ليست فقط مشروعا لإعادة توزيع الثروة، بل لإعادة توزيع الزمن الاجتماعي. فالثروة قابلة للتعويض، لكن الزمن لا يعوّض. وهذا ما يعلّق عليه عالم الاجتماع الثوري جوليا كاغار: "الرأسمالية تسرق من الإنسان الشيء الوحيد الذي لا يمكن تعويضه: حياته نفسها".
ومن ثمّ، فإنّ الاشتراكية اليوم مطالبة بإعادة تعريف التحرّر: ليس التحرّر من الملكية الخاصة فقط، بل التحرّر من تسليع الوجود. وأن تعيد طرح سؤال "ما معنى أن نعيش؟" لا من زاوية فردانية، بل من زاوية جماعية. إنّها مطالبة بإحياء فكرة "المصير المشترك" التي تحاربها الرأسمالية بكلّ الطرق، لأنها تعرف أن الفرد الممزق أسهل في السيطرة من الجماعة المتضامنة.
إنّ الاشتراكية الجديدة تنبع من هذا اليقين:
أن الإنسان لا يشفى من الاغتراب بمزيد من الخيارات الفردية، بل بالعلاقة مع الآخرين، بالروابط، بالجماعية، بالمعنى المشترك.
وهذا يعيدنا إلى واحدة من أهم المهام التاريخية اليوم:
إعادة بناء التضامن.
لا التضامن كشعار، ولا كمسيرة، بل كتجربة يومية: تضامن في السكن، في العمل، في الصحة، في الأحياء الشعبية، في النقابات، في الفضاء الرقمي، في الفضاء الثقافي. تضامن يجعل الناس يشعرون أنّهم جزء من شيء أكبر من هشاشتهم الفردية.
ولهذا بالتحديد قال المفكّر اليساري الفرنسي ميشال لوفور:
"الثورة ليست فقط ضد النظام، بل ضد الطريقة التي جعلنا النظام ننظر بها إلى أنفسنا."
وفي هذا السياق، يظهر بوضوح أنّ الاشتراكية المعاصرة ليست مجرد أيديولوجيا اقتصادية، بل مشروع متكامل لإعادة إنتاج المجتمع نفسه من الداخل، على المستويات المادية، الرمزية، والسياسية. إذ لم يعد السؤال يدور حول "من يمتلك؟" فقط، بل حول كيف ينتَج المجتمع، وكيف توزّع القدرة على التأثير، وكيف تصاغ الرؤى الجماعية للمستقبل. هذا يعني أنّ الاشتراكية اليوم مطالبة بتحويل كل المجالات التي تنتج القيم، الوقت، المعرفة، والخيال إلى ساحات يمكن للناس المشاركة فيها بوعي وحرية.
ومن هذا المنطلق، تصبح المدن والبلديات ميدانا استراتيجيا للصراع الاشتراكي. فالمدينة اليوم ليست مجرد فضاء جغرافي، بل شبكة معقدة من القوى الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية. إنّ كل شارع، كل حيّ، كل سوق محلي، كل مدرسة، كل مركز صحي، وكل وسيلة نقل، كلها ميادين للصراع على الحياة نفسها. ولذلك، فإنّ الاشتراكية اليوم تحتاج إلى بناء استراتيجية بلدية-محلية-قاعدية تتجاوز الخطاب الوطني المركزي، وتعيد إنتاج الديمقراطية من الأسفل إلى الأعلى. التجارب الناجحة للتخطيط الحضري التشاركي، المجالس الشعبية المحلية، والمشاريع التعاونية للمدينة، كلها تثبت أنّ النصر الاشتراكي يبدأ على الأرض قبل أن يتخذ في البرلمان أو الحكومة.
وعلى هذا الأساس، يصبح الشباب هم قلب المشروع الاشتراكي في القرن الحادي والعشرين. فهم الطبقة الأكثر تضررا من اقتصاد الغربة الرقمية، ومن سوق العمل المهتز، ومن تفتيت التعليم وتحويله إلى سلعة. لكنهم في الوقت نفسه مصدر الإبداع، الطاقة، والخيال. إنّ تمكين الشباب يعني أكثر من منحهم حقوقا سياسية، بل يعني إعادة دمجهم في مشروع مجتمعي متكامل، يتيح لهم التعبير، المبادرة، وتجريب أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي والسياسي. ويؤكد الثوري البرازيلي مارسيلو كوستا: "الشباب ليسوا فقط مستقبل الاشتراكية، بل هم الآن حاضرها الأكثر تحديا وفرصة".
ومن هنا، يظهر دور التعليم السياسي والاجتماعي كعنصر أساسي. فالتعليم اليوم، كما تصوّره الرأسمالية، يهدف إلى إنتاج عمال قابلين للتكيّف، متقنين للمهارات، خاضعين للقيم الفردانية والسوقية، غير قادرين على التفكير الجماعي أو النقدي. وهنا تتدخل الاشتراكية لإعادة صياغة التعليم: تعليم يربط بين المعرفة والعمل، بين النظرية والممارسة، بين النقد والتحرّر، بين التفكير الفردي والوعي الجماعي. التعليم هو المكان الذي تبدأ فيه الثورة قبل أن تتحوّل إلى مشروع اقتصادي وسياسي كامل.
كما أنّ النقابات والحركات الاجتماعية لم تعد خيارا، بل ضرورة وجودية. إذ باتت الطبقة العاملة مشتّتة، متغيرة، غير مستقرة، ومنقسمة بين مجالات متباينة. لذلك، يجب أن تتحول النقابات إلى مؤسسات ديناميكية، تربط بين أماكن العمل، وبين الفضاء الرقمي، وبين المجتمع المدني. النقابة اليوم هي شبكة، ليست مجرد مكتب أو قيادة مركزية. إنها منصة حقيقية للوعي الطبقي، للمقاومة، ولإعادة توزيع القوة الاقتصادية والسياسية.
وفي الأفق الاقتصادي، يبرز التحول نحو الاقتصاد التعاوني والملكية المجتمعية كأداة مركزية. الاقتصاد اليوم لم يعد يبنى على المصنع التقليدي وحده، بل على البنية الرقمية، شبكات الخدمات، البنية التحتية للطاقة، الموارد الطبيعية، والمنصات الرقمية. تحويل هذه القطاعات إلى ملكية جماعية، مع إدارة ديمقراطية حقيقية، يضع الاشتراكية في قلب الصراع الحديث ويحوّلها من شعار إلى ممارسة ملموسة تؤثر على حياة الناس مباشرة.
أما على المستوى البيئي، فإنّ الاشتراكية المعاصرة تواجه واجبا أخلاقيا ووجوديا لم يواجهه اليسار القديم بنفس الحدة: حماية الأرض نفسها من الانهيار البيئي. فالأزمة المناخية ليست مشكلة مستقبلية، بل هي أزمة الطبقات الأكثر هشاشة الآن. والتدخل الاشتراكي هنا لا يعني فقط إعادة توزيع الموارد، بل فرض أسس إنتاج مستدام، حماية المجتمعات من التلوث، وتشجيع النماذج المحلية المستقلة للطاقة والغذاء، بما يضمن استقلالية المجتمع عن الشركات متعددة الجنسيات وتركّز السلطة في أيدي الأقلية.
وهنا يظهر عنصر الممارسة الدولية: لا يمكن الاشتراكية اليوم أن تظل داخل حدود الدولة القومية فقط، لأنّ الرأسمالية متجاوزة للحدود. أممية جديدة تعني شبكات تضامن، دعم حقيقي للفلاحين والعمال عبر الحدود، مقاومة الاحتكار العالمي، ومبادرات اقتصادية مشتركة. إنها أممية تتجاوز البيانات والشعارات لتصبح أدوات ملموسة للنضال العالمي.
وأخيرا، تعيد الاشتراكية النظر في البعد الثقافي والوجداني للثورة. فالإنسان اليوم ليس مجرد كائن اقتصادي، بل كائن معرفي، وجداني، ووجداني–اجتماعي. الرأسمالية تستولي على الروح قبل الجسد، على الانفعالات قبل القدرة الإنتاجية. لذلك، المقاومة الاشتراكية لا تكتمل إلا عندما تستعيد الإنسان القدرة على الحلم، على التخيل، على المشاركة في بناء معنى مشترك للحياة، على استعادة الحرية من قيود السوق المستترة. كما قال الفيلسوف الثوري المعاصر سلافوي جيجيك: "الثورة الحقيقية تبدأ حين نجرؤ على تخيل مجتمع مختلف، قبل أن نحاول بناؤه".
في هذا المعنى، يمكن القول إن الاشتراكية المعاصرة ليست مشروعا مرحليا، ولا مجرد برنامج اقتصادي، بل مشروع حضاري شامل: إعادة توزيع الثروة، الزمن، المعرفة، الروابط الاجتماعية، الثقافة، والخيال، معا في شبكة متكاملة تعيد تعريف الإنسان والمجتمع والدولة في زمن الرأسمالية المرنة والمتسارعة. إنها مهمة مستمرة، تراكمية، تتطلب التفكير النقدي، الممارسة اليومية، والتضامن العالمي، لتصبح الاشتراكية فعلا حقيقيا يغيّر العالم من الداخل.
إنّ الاشتراكية بين الأمس واليوم ليست مجرد مقارنة زمنية، بل رحلة معرفية وفكرية تكشف عن التحولات العميقة في طبيعة الصراع الطبقي، في البنية الاقتصادية، في الحياة الاجتماعية، وفي الوعي البشري نفسه. لقد انتقلنا من تصور ماركسي تقليدي يركّز على العمل في المصنع والملكية المباشرة لوسائل الإنتاج، إلى رؤية متكاملة تواجه رأسمالية متحوّلة، مرنة، متغلغلة في كل تفاصيل حياة البشر، تتحكم في الزمن، المعرفة، الانفعالات، والخيال.
اليوم، الاشتراكية ليست شعارا على لافتة، ولا مشروعا اقتصاديا جامدا، بل مشروع إنساني شامل: يعيد توزيع الثروة، الزمن، المعرفة، الروابط الاجتماعية، ويعيد للخيال دوره كأداة للتغيير والتحرر. إنها مشروع يضع الإنسان في قلب عملية الإنتاج الاجتماعي والسياسي والثقافي، ويؤكد أن التحرّر الحقيقي يبدأ من استعادة الإنسان لقدرته على الحلم، التفكير النقدي، المشاركة الفعلية، وبناء معنى مشترك للحياة.