اضطرابات الشرق الأوسط ومأساة تقرير لجنة كينغ-كراين


سعيد مضيه
2025 / 12 / 3 - 09:26     

دانيال وارنر ترجمة سعيد مضيه
"نعيش اليوم مع عواقب تجاهلنا للعرب في تلك اللحظة المصيرية"، لحظة رفض تقرير رفض وعد بلفور. الباحث دانيال وارنر يحيي ذكرى تقرير كينغ – كراين، الذي ترك للنسيان. وحيث يستحيل إلغاء أخطاء الماضي، لكن بالامكان إصلاح عواقبها، فلا نجد في مقالة الكاتب، التي تحاول تبرئة الامبريالية الأميركية من تمرير وعد بلفور، إلا ان الوعد مشين يجري حاليا التبرؤ منه وقد تعدل عواقبه.
الحقيقة ان نص الوعد، وقبل إعلانه، عرض لاطلاع الدول الكبرى في ذلك الحين، فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة؛ أيدت بالإجماع نص الوعد، كما أيدت، ومنها الولايات المتحدة، انتداب بريطانيا على فلسطين كي تنفذ وعد بلفور. تفرر إهمال الوثيقة بموافقة الرئيس ويلسون، داعية تقرير المصير لشعوب العالم. والحقيقة أيضا ان رئيسي اللجنة، هنري كينغ وتشرلز كراين، توجها الى الشرق الأوسط وهما مقتنعان بوجاهة وعد بلفور؛ لكنهما غيرا موقفهما بتأثير الرفض القاطع ممن التقوا بهم.. ضمّنت اللجنة تقريرها كذلك استهجان فكرة إحياء دولة اندثرت قبل الفي عام. حينئذ، لم تكن الحكاية التوراتية حول دولة داود وسليمان قد طرحت للنقد فالرفض.
* * *
دانيال وارنر ، مؤلف كتاب "أخلاقيات المسؤولية في العلاقات الدولية"، يوضح خطورة ما يسميه الحقائق المضادة - البدائل الافتراضية - ماذا لو حدث/لم يحدث كذا وكذا؟ على سبيل المثال، هل كانت ستندلع حرب فيتنام شاملة لو لم يُتم اغتيال الرئيس جون كينيدي؟ لا سبيل لإثبات صحة أو خطأ هذه الفرضية. في حالة الشرق الأوسط اليوم، يمكن للمرء أن يطرح سؤالًا افتراضيًا حول تقرير ترك للنسيان صدر عام 1919 بصدد مصير الشرق الأوسط. هل كانت المنطقة ستشهد اضطرابات وعنفًا اليوم لو لم يمرض الرئيس ويلسون، ولو جرى تنفيذ رؤيته لتقرير المصير وإنهاء الاستعمار بناءً على توصيات بعض أعضاء لجنة كينغ-كرين التي شكلها؟
ربما اختلف وضع المنطقة وتاريخها لو اتُخذت قرارات بديلة في مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٩. كان لدى وودرو ويلسون رؤية، بينما كانت لدى القوى الأوروبية الكبرى - بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا - رؤية أخرى. في اللحظة الحاسمة التي تلت الحرب العالمية الأولى، حين اتُخذت القرارات بشأن الشرق الأوسط، مرض الرئيس الأمريكي؛ فتجاهلت القوى الأوروبية رؤيته للشرق الأوسط. لقد تم، بشكل مأساوي، نسيان رحلات لجنة كينج-كراين وتقريرها.
ما هي رؤية ويلسون؟ من السهل فهم فكرته بتشكيل لجنة لزيارة المنطقة وسؤال الناس عن رغباتهم بشأن كيفية حكمهم. قبل رواج مفهوم إنهاء الاستعمار وتقرير المصير، أرسل ويلسون مجموعة إلى الشرق الأوسط لسؤال شعوب الإمبراطورية العثمانية المهزومة عن كيفية تنظيم حياتهم. وكما أشار جيمس زغبي، أجرت لجنة كينغ-كراين "أول استطلاع للرأي العام العربي".
صرح ويلسون في خطاب ألقاه في يناير 1918 أن نهاية الحرب أتاحت "فرصة كاملة للتنمية المستقلة" للشعوب التي كانت خاضعة للحكم التركي سابقًا. كانت هذه الإمكانية تتعارض تمامًا مع معاهدة سايكس بيكو السرية لعام 1916 بين فرنسا وبريطانيا، والتي بموجبها ستقسم القوى الأوروبية الإمبراطورية العثمانية المنهارة لتحديد مناطق نفوذها.
ترأس لجنة ويلسون هنري كينغ، رئيس كلية أوبرلين، وتشارلز ر. كرين، وهو صناعي ثري من شيكاغو وداعم مالي لويلسون.
كان تقرير لجنة كينغ-كراين بحق "المبادرة المنسية للولايات المتحدة للشرق الأوسط"، وهو عنوان الدراسة الشاملة والمعمقة التي أجراها أندرو باتريك. (كان العنوان الرسمي للتقرير النهائي "تقرير القسم الأمريكي للجنة الدولية المعنية بالانتدابيات في تركيا").
وضع للجنة مهمتان:
1) "فصل مناطق معينة عن الإمبراطورية العثمانية، تشمل، على سبيل المثال، فلسطين وسوريا والدول العربية الواقعة شرق فلسطين وسوريا، وبلاد الرافدين وأرمينيا وكيليكيا... ووضع تنمية شعوبها تحت إشراف حكومات منتدبة تابعة لعصبة الأمم".
2) "تكوين رأي محدد... بشأن تقسيم الأراضي وتوزيع الانتدابات، من شأنها أن تعزز النظام والسلام والتنمية لتلك الشعوب والدول".
لتحقيق ذلك، زار أعضاء اللجنة 36 مدينة وبلدة على مدار 42 يومًا، وقرأوا عرائض عديدة، وأجروا مقابلات مع 1800 شخص. من إسطنبول، زارت اللجنة عدة أماكن في بلاد الشام، من بينها دمشق والقدس وبيروت.
مثّل التقرير النهائي آراءً متباينة داخل اللجنة. من جهة، رغب ممثلو القوى العظمى في استمرار شكل من أشكال الهيمنة الاستعمارية، كما في اتفاقية سايكس بيكو. ومن جهة أخرى، كان هناك مثاليون ويلسونيون، مثل كرين، يسعون إلى معرفة مدى إمكانية تحقيق شكل من أشكال الاستقلال شبه الكامل.
يلخص باتريك توصيات التقرير النهائي على النحو التالي:
1) أن تكون بلاد الشام تحت انتداب قوة عظمى واحدة، الولايات المتحدة أو بريطانيا العظمى، مع نظام ملكي دستوري.
2) أن يتمتع لبنان باستقلال ذاتي واسع النطاق داخل بلاد الشام، مع احتمال إخضاعه للانتداب الفرنسي.
3) نظرًا للعداء الإقليمي للفكرة، لم يُوصَ بإنشاء دولة منفصلة لليهود. [يضاف لذلك رفضت اللجنة فكرة إنشاء دولة بناءًا على دولة قامت قبل الفي عام، وكانت فكرة دولة داود وسليمان لم تخضع بعد للتشكيك ثم الإنكار.]
4) تحصل الولايات المتحدة على تفويض[انتداب] إقامة دولة قسطنطينة الدولية الجديدة تحت إشراف عصبة الأمم.
٥) ستخضع بلاد ما بين النهرين لانتداب بريطانيا العظمى.
حيث قد يوجه السؤال كيف يمكن أن تكون الانتدابات جزءًا من تفكيك الاستعمار أو تقرير المصير، يتوجب الإشارة إلى أن الانتدابات ستخضع لعصبة الأمم، وهي مختلفة تمامًا عن الاستعمار الصريح. كما لاحظ باتريك بصدد تقرير المفوضين؛ " رأى المفوضون بحزم عدم مقاربة الانتداب كمستعمرة. كان على السلطة الانتدابية ان "تثقف" شعوب هذه المناطق حول "الحكم الذاتي" ومساعدتهم على إنشاء "دولة ديمقراطية" تحمي الأقليات داخلها. الانتدابات مطالبة بأن تساعد في تطوير المواطن "الذكي " يتمتع "بشعور وطني قوي" يمثل هدفه الأسمى "تقدم البلاد".[ هذا ما ادعته الدول الامبريالية لتبرير استعمارها لشعوب الشرق -التحضر للشعوب]
ماذا حدث للتقرير؟ قدمت اللجنة تقريرها إلى لجنة السلام الأمريكية في باريس. تم تسليم نسخة من التقرير إلى البيت الأبيض، لكن معظم المؤرخين يعتقدون أن مرض الرئيس ويلسون منعه من قراءة التقرير. تم دفن التقرير بين أرشيفات وزارة الخارجية الى ان عثر عليه عام 1922. في أوائل ديسمبر/كانون الأول 1922، نشرت صحيفة نيويورك تايمز التقرير كاملاً مع مقدمة قصيرة كتبها أحد الصحفيين. [عبر عن الأسف لتجاهل تقرير كان بالإمكان الحيلولة دون الاضطرابات التي نشهدها].
وصف الصحفي ويليام إليس التقرير بأنه "من أهم الوثائق المقموعة في فترة صنع السلام". وكتب تشارلز كرين في ثلاثينيات القرن الماضي: "استطاعت المصالح المعارضة للتقرير، وخاصةً اليهودية والفرنسية، إقناع الرئيس ويلسون طالما أن الأمريكيين لن يتحملوا أي مسؤولية مستقبلية عن فلسطين، فليس من النزاهة نشر التقرير. لذا حُفظ في أرشيف وزارة الخارجية".
وفيما يتعلق بتأثيره على المنطقة، يشير باتريك إلى أنه "عندما بدا أن اللجنة سيكون لها تأثير طفيف على القرارات المتخذة في باريس... بزغت نزعة قومية شعبوية أكثر حدة".
هل كان الوضع ليختلف اليوم لو طُبقت التوصيات وجرى تحقيق رؤية ويلسون؟ من المهم الإشارة إلى أن صحيفة نيويورك تايمز نشرت على صفحتها الأولى من عدد يوم 5 أغسطس/آب 2025، اتفاقية سايكس بيكو السرية كي تبين كيف غيّرت بريطانيا وفرنسا طموحاتهما الاستعمارية التاريخية بالمنطقة محبذة في الوقت الراهن قيام دولة فلسطينية. لم تأت على ذكر لجنة كينغ- كرين ولا رؤية ويلسون.
كان لنسيان تقرير لجنة كينغ-كرين عواقب وخيمة. وكما كتب ريتشارد دريك عام ٢٠١٤: "لا تكمن مأساة تقرير كينغ-كرين في عدم تنفيذ توصياته... إنما في تجاهله على الإطلاق. يظل أفضل مصدر تاريخي متاح لفهم مخاوف العرب بشأن الشرق الأوسط عام ١٩١٩. نعيش اليوم مع عواقب تجاهلنا للعرب في تلك اللحظة المصيرية".
حيث ان الحقائق المضادة محفوفة بالمخاطر، فإن ما تتخطاه المخاطر كوننا نعيش اليوم مع عواقب أصوات لجنة كينغ- كرين ورغباتها المحبطة عام ١٩١٩ والتي سرعان ما نُسيت. إن تراجيديا "مبادرة أمريكا المنسية حول الشرق الأوسط" التي التقطها أندرو باتريك لا تزال حاضرة في أذهاننا منذ أكثر من ١٠٠ عام.