الماركسية ومستقبل الإشتراكية / الحلقة 4 / الانتقال الطويل والعسير إلى الإشتراكية من رحم الرأسمالية أو القطع المفاجئ مع هذا النظام من خلال الثورة ؟
أحمد زوبدي
2025 / 11 / 28 - 06:58
الماركسية ومستقبل الإشتراكية /
الحلقة 4 /
الانتقال الطويل والعسير إلى الإشتراكية من رحم الرأسمالية أو القطع المفاجئ مع هذا النظام من خلال الثورة ؟
يقول ماركس في صياغة مبدعة للمادية التاريخية أن "الإنسانية لا تطرح إلا المشاكل التي يمكن حلها، لأن هذه المشاكل نفسها تنشأ فقط عندما تكون الظروف المادية لحلها متوفرة بالفعل، أو على الأقل في طريقها إلى أن تجد النور " (مقدمة لنقد الاقتصاد السياسي، 1859). لكن بدائل مشاكل روح العصر لا يمكن أن ترى النور إلا من خلال النشاط العملي النقدي والتحرري والجماعي للملتزمين بالتغيير.
" منذ الثمانينيات من القرن العشرين على الأقل، لم تدخل البشرية بعد في ما يطلق عليها بمرحلة ما بعد الحداثة الرأسمالية، حيث لم تعد التناقضات الاجتماعية ناتجة بشكل واضح عن تناقض بين البروليتاريا والبورجوازية، ولكن "من خلال أقطاب جديدة من الهوية المعارضة" - الجنس، العرق، البيئة، التوجه الجنسي، التنوع الإقليمي أو القاري على حد تعبير بيري أندرسون Perry Anderson. الأمر الأكثر شكا في هذه النقطة هو أن ديفيد هارفي David Harvey يشير في كتابه "مساحات الأمل" إلى أن "القوى العاملة اليوم أكثر تشتتا جغرافيا، وغير متجانسة ثقافيا، ومتنوعة عرقيا ودينيا، ومقسمة عرقيا ومجزأة لغويا"، مما يجعل بناء مجتمع عالمي أكثر تنوعا. أما "الكتلة الاجتماعية" المناهضة للرأسمالية فهي أكثر تعقيدا"( راجع،
Jean Batou, Marx au 21e siècle : et si les questions comptaient plus que les réponses ?, Contretemps, juin 2017).
اليوم، في ظل مناخ فكري وسياسي يغلب عليه الارتباك ويفتقد لرؤية في موضوع الإشتراكية في النظرية و الممارسة، يمكن القول أنه ليس هناك مشروعا جاهزا للإشتراكية. هناك العديد من المفكرين يناقشون اليوم إشكالية الإنتقال إلى الإشتراكية كسمير أمين وفالارشتاين وباديو و زيزاك وبيهر ، إلخ. مما يعنى أنه ليس هناك حتى الآن نظرية جاهزة في الاشتراكية على الرغم من التفكيك الذي عرفه هذا المفهوم خاصة مع انهيار التجربة الاشتراكية. بخلاصة، النقاش اليوم مركز بالأساس، في ما يخص هذا الموضوع، حول المشاكل والأزمات التي ستعصف لا محالة بالرأسمالية مثلا عسكرة الإقتصاد، الثقافة الرأسمالية التي أدت إلى تسليع المجتمع، انتفاضة الشعوب والحركات الإجتماعية الرافضة للسياسات النيوليبرالية، الذكاء الاصطناعي الذي، من جهة، فكك منظومة العمل مكرسا استغلال قوة العمل مع التخلص من انخراط العامل نقابيا واحلال مكان ذلك الفردية ( individualisation)( وليس الفردانية( individualisme) المتعلقة بالمنهج مقابل منهج الكُلَّانِيَّة أو الكُلِّيِّة (holisme)) ومرونة العمل. من جهة أخرى، فتح الباب لوضع شروط بناء نواة مجتمع الوفرة مقابل مجتمع النذرة الذي تفرضه الرأسمالية، إلخ. كل هذه العوامل مجتمعة تفتح الباب لانهيار الرأسمالية وبلورة شروط المرحلة الانتقالية لتجاوزها. اليوم هناك تناقضات من وفي الرأسمالية تعمل على هدم تدريجي لأسس هذا النظام : مؤشرات سباقة للانتقال الطويل و العسير إلى الإشتراكية من رحم الرأسمالية أو للقطع المفاجئ مع هذا النظام من خلال الثورة. من ناحية أخرى، الرأسمالية يمكن أن تنهار لكن لا يمكن أن تزول من ذاتها. تجاوز الرأسمالية يحتاج إلى ثورة لتغيير علاقات الإنتاج. الرأسمالية تعيش اليوم المرحلة الأخيرة من حياتها نظرا لتجاوز وتهالك بنياتها. الرأسمالية دخلت اليوم مرحلة خريف هذا النظام (capitalisme sénile)، كما يرى سمير أمين.
"بلغة ماركس، من الواضح، في القرن الحادي والعشرين، أن الممارسة النقدية تطرح مشاكل جديدة، التي ينبغي أن تحفزنا على إعادة الاتصال بجدول أعمال ماركس التقليدي، ولا سيما فيما يتعلق بتناقضات النوع والقومية والإثنية والبيئية، كما هو الحال فيما يتعلق بقدرات التشكيلات الإجتماعية غير الأوروبية في مواجهة العولمة الرأسمالية. وفي الوقت نفسه، الأسئلة التي يطرحها الانهيار المتزامن تقريبا لنظامين تاريخيين رئيسيين ـ الديمقراطية الإجتماعية والاشتراكية في نسختها الستالينية ـ اللذان ادعيا بشكل مسيء انتسابهما للماركسية. ولكن أيضا عجز الحركات المناهضة للنظام في 1968 من القرن الماضي لتغيير هذا الوضع بالفعل، قد ترك أثرا عميقا على الإطار الثقافي التراجعي للعصر الحالي، حيث أصبح التفكير في نهاية العالم أسهل من التفكير في نهاية الرأسمالية (إذا استخدمنا صيغة معروفة من الفيلسوف الأمريكي فريدريك جيمسون)"(Jean Batou، المرجع السابق).
تفكك نمط الحكم الديموقراطي في الغرب، بحكم تفكيك أصول الرأسمالية التي على أساسها تطورت ونضجت كالدولة والمرفق العام لا الحصر، نتجت عنه ديموقراطية ذات الكثافة المنخفضة ( démocratie à basse intensité ) ( سمير أمين) أي أن النظام السياسي أصبح تحت سيطرة الاوليغارشيات البنكية والعقارية والمالية والصناعة الرقمية والاعلامية، فضلا عن تحول جل اليسار اليوم في الغرب إلى حليف للإمبريالية يطبق سياسة اليمين والباقي من هذا اليسار يسعى للمشاركة في الانتخابات معتقدا أنه سينتصر دون أن يطرح برنامج الثورة للقطع مع خطاب الأنوار المبتذل وليس ثقافة عصر الأنوار، التي مهدت إلى فكر الإشتراكية العلمية، التي تحتاج اليوم إلى إنتاج الأفكار عوض الإستمرار في تكرار فكر ماركس و الماركسية التقليدية، مما يؤدي الى السقوط في الأصولية.
المشكل اليوم هو تجاوز الرأسمالية لتوفير شروط الانتقال من الديموقراطية الشكلية التي أدت وظيفتها التاريخية إلى الديموقراطية الحقيقية أي وضع آليات توزيع عادل للثروة و وضع حد للإغتناء ولو كان مشروعا أي جعل كل الناس يشتغلون لصالح الجماعة، تقنين بشكل كبير الملكية الخاصة عبر تطوير وتوسيع مساحة الأملاك الجماعية ( biens communs)، مد جسور لجان شعبية تسهر على تدبير الشأن العام ومعها لجان تراقبها بمعنى وضع مؤسسات للمساءلة والمراقبة من خلال تراتبية في التدبير والمراقبة، تطبيق صارم للقانون، إلخ.
على المستوى العالمي، ضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب ( Monde polycentrique) مرحليا، لا محيد عنه، لأجل القضاء على الإمبريالية من خلال تغيير ميزان القوى الذي يلعب لصالح الثالوث الفاشستي ( أمريكا، أوروبا، اليابان) في أفق إسقاط النظام-العالم المسيطر اليوم والعمل على بناء بديل له. البديل اليوم المتمثل في الصين والهند وروسيا و فنزويلا وكوبا وإيران و دول أخرى لبناء جبهة أممية أو أممية الشعوب، شريطة أن تنضبط الدول المعنية لشروط الجبهة الأممية إياها منها إرساء نمط حكم ديموقراطي في أوطانها والالتزام بتوفير مناخ دولي يخضع للقانون لأجل مد جسور السلم والتعايش وبناء حضارة إنسانية تليق بهذا الإسم.
هذه الاستراتيجية تسمح للشعوب الطواقة لبناء مجتمع دولي عادل بتوفير شروط الانتقال إلى الاشتراكية من خلال توفير مناخ الثورة للقطع مع الرأسمالية أو من خلال الولادة العسيرة أي الانتقال من رحم هذه الأخيرة.
إن التطور غير المسبوق للقوى المنتجة، كما نعيش في ظل الثورة الرقمية، لن يزيح دور العلاقات الإجتماعية في تفسير الحركية الإجتماعية في شتى صيغها أكان الجانب الإقتصادي أو السياسي أو الثقافي. معنى ذلك أن التطور غير المسبوق للتكنولوجيا، في حلتها الرقمية، لن يعوض دور القوى الإجتماعية المسؤولة عن و في حركية التغيير التي تعرفها المجتمعات رغم الفراغات التي تعرفها والردات التي تقف في وجهها. دور الآلة أو التقنية رهين بالكيفية التي سيتعامل معها الإنسان أو قل أن الثورة العلمية هي من عمل القوى الإنسانية وبالتالي فتوفير مناخ اجتماعي تسود فيه العدالة والمساواة والحرية هو الذي سيمكن من فتح الأبواب لكل الشرائح الإجتماعية للاستفاده من التطور التقني. اليوم المعضلة الكبيرة هي أن علاقات الإنتاج الرأسمالية لم تتغير أي أنها بقيت عائقا أمام التطور الذي تعرفه القوى المنتجة.
البشرية اليوم في حاجة الى تجاوز علاقات الإنتاج السائدة أي الانتقال إلى علاقات إنتاج اشتراكية.. وهو ما يسمح لكل إنسان من الاستفادة من تطور القوى المنتجة.
أعتقد أن اليسار غير الجذري مدعو إلى النبش في حفريات المعرفة( archéologies du savoir) لتطوير أدواته التنظيميه والايديولوحية ليتمكن من فرض أجندته بتوسيع القواعد الشعبية، قبل التفكير في المشاركة في الحكم ومنها الانتخابات..
أزعم أننا عشنا تجربة اشتراكية وليست اشتراكية، انتهت بقيام رأسمالية الدولة وانضمت بهدوء إلى الرأسمالية كنظام ـ عالم( système-monde). ما أريد قوله بعجالة وهذا موضوع شائك لا يمكن نقاشه في بضع سطور أن الإنتقال إلى الإشتراكية من رحم الرأسمالية (وهو السيناريو المحتمل جدا في غياب شروط الثورة اليوم) أو بالقطع معها يتطلب مرحلة طويلة كما هو الأمر بالنسبة لمرحلة الانتقال من الفيودالية إلى الرأسمالية التي انطلقت من القرن ال11 حتى نهاية القرن ال15 مع المرحلة المركنتيلية. أربعة قرون على الأقل لينهار النظام الفيودالي وتتبلور بنيات الرأسمالية لتتعمم تدريجيا في أوربا وأمريكا تم تنتشر في الدول التي ستعرف التخلف بسبب الاستعمار ومسلسلات النهب الإمبريالي والفاشستي.
اليوم تعيش المنظومة-العالم بمفهوم فالارشتاين Wallerstein نوعا من الفوضى لكن في ذات الوقت هناك الشعوب تتحرك وتنتفض وهناك أيضا قوى أخرى تخوض معارك مختلفة فضلا عن الثورة المعلوماتية، الكل في اتجاه فرض نموذج نسميه عادة اشتراكي لكن الأهم يتجاوز الرأسمالية القائمة بالفعل.
الرأسمالية لا تنهار بالضرورة من تلقاء نفسها فهي تبحث باستمرار عن مفاتيح لتجاوز أزماتها ولو على حساب قوت وحياة البشر. معارضة الرأسمالية تستدعي أنشطة ثورية مستمرة. لقد رأى ماركس أن البربرية تطيح بالرأسمالية عندما تثور الجماهير بعفوية. بالمقابل، تعمل الأنظمة المسيطرة في دول الجنوب بانتظام على تدجين الطبقات المستفيدة من الوضع وتسويق سياسات تخدم الطبقة الحاكمة، مما يسمح لها بتوسيع نفوذها. تقوم الباطرونا بشراء القيادات الرسمية للأحزاب والنقابات العمالية. أما الدول الإمبريالية فتقوم بشراء حكومات البلدان التي يبدو أنها تحررت من الاستعمار. يعد الفساد المستشري إحدى الآليات الأساسية الضرورية لتهدئة الأوضاع. لكن هذا لا يعني أن الأمور ستمر على ما يرام لأن هناك القوى " النائمة " أي القوى الناقمة على الأوضاع( حالة جيل" زيد" z، اليوم، نموذجا)، تكون دائما القوى الحاضرة والمحتملة أي المستعدة لقلب موازين القوى. تكفي انتفاضة عفوية غير مبرمجة، كما عرف ذلك الربيع العربي الذي للأسف الشديد تم تطويقه من طرف القوى الرجعية التي ثار في وجهها الشارع ومعها طبعا القوى الامبريالوصهيونية، لخلخلة الوضع وتدشين شروط التغيير الجدري.
أحمد زوبدي.
لوهافر/ باريس، في 13-21/ 11/ 2025.
يتبع.