مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8538 - 2025 / 11 / 26 - 10:21
المحور:
الادب والفن
ها نحن ،اليوم ، نعيش في زمن يُكتب فيه التاريخ بأحبار البكسل والسحابة الإلكترونية، حيث يقف العالم أمام محاكمة صامتة لم يُعلن عنها بعد، محاكمة لأمراء الوادي الرقمي الذين رفعوا شعار «لا تكن شرّاً» ثم تحولوا إلى مهندسي الموت الأكثر دقة في القرن الحادي والعشرين. إنهم ليسوا جنرالات يرتدون الخوذات الحديدية، بل رجال أعمال يرتدون قمصاناً بيضاء مفتوحة الأزرار، يجلسون في غرف زجاجية تطل على خليج سان فرانسيسكو، ومن هناك يوقّعون بعقودٍ هادئة على تسليم بيانات البشر إلى آلة حرب تُسمى نفسها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».
في غزة، حيث يُحوّل السماء إلى جحيم من حديد ونار، كانت أصوات الأطفال تُسجّل في خوادم غوغل كلما صرخت أمهاتهم طلباً للنجدة، ثم تُحوّل تلك الأصوات إلى نقاط إحداثيات، ثم إلى أهداف، ثم إلى قبور جماعية. هذا ليس خيالاً شعرياً، بل هو ما أقرّت به وثائق داخلية لغوغل نفسها، حين وافقت على تزويد الجيش الإسرائيلي بتقنيات التعرف على الوجوه والذكاء الاصطناعي ضمن صفقة «نيمبوس» الشهيرة، تلك الغيمة السوداء التي تزن 1.2 مليار دولار، والتي جعلت من كل فلسطيني في غزة ملفاً مفتوحاً على خوادم أمريكية، يُحدَّد مصيره بلحظة نقرة من ضابط في تل أبيب.
والمفارقة المريرة أن هؤلاء الأمراء أنفسهم، الذين يمدون يد العون للقصف الدقيق، يملكون الجرأة الأخلاقية على أن يصنفوا المقاومة الفلسطينية واليمنية واللبنانية والعراقية بأنها «إرهاب»، فيضعون أسماء أبطال يحملون أجسادهم دروعاً أمام الدبابات في نفس القائمة السوداء التي يضعون فيها تنظيمات تقطع الرؤوس في الصحارى. إنها وقاحة لم يشهد التاريخ لها نظيراً منذ أن باع تجار العبيد في القرن الثامن عشر أسراهم ثم ألقوا عليهم المواعظ عن الأخلاق.
من يستحق السجن مدى الحياة إذن؟ سوندار بيتشاي؟ مارك زوكربيرغ؟ ساتيا ناديلا؟ أم كل من وقّع على عقد يعلم أن نهايته قنبلة تزن طناً تسقط على مدرسة في رفح؟ القانون الدولي لا يتردد هنا. المادة الثامنة من ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية تجعل من التواطؤ في جرائم الحرب جريمة مستقلة، والمساعدة المباشرة في استهداف المدنيين جريمة ضد الإنسانية. وإذا كان تقديم السلاح جريمة، فكيف بتقديم العين التي ترى بها المدفع؟ كيف بتقديم الدماغ الذي يحسب بها مسار القذيفة؟ إن بيانات غوغل وخوارزميات ميتا وخوادم مايكروسوفت لم تكن مجرد أدوات مساعدة، بل كانت جزءاً عضوياً من سلسلة القتل، كما كانت سكك الحديد الألمانية جزءاً عضوياً من الهولوكوست.
وفي الوقت الذي كانت فيه غزة تحترق، كانت هذه الشركات تنفق مئات المليارات على إغراق العالم العربي في مستنقع التفاهة المقصودة. مليارات تُصب في أفلام هوليوود التي تُمجّد الاحتلال، مليارات تُدفع لمؤثرين يرقصون نصف عرايا على تيك توك، مليارات تُشترى بها خوارزميات تجعل أي صوت يرفع شعار «من النهر إلى البحر» يختفي في ثوانٍ. إنه حرب ناعمة مصممة لقتل الوعي قبل قتل الجسد، حرب تجعل الشاب العربي يهتم بفلتر إنستغرام أكثر من اهتمامه بفلتر القناص الذي يصوّب على صدر أخيه في جنين.
ولأن المال لا يكفي، فقد قررت هذه الشركات أن تبني جنة التكنولوجيا الخاصة بها فوق جثث الفلسطينيين المطرودين. ثاني أكبر وادي سيليكون في العالم لم يُبنَ في صحراء النقب كما يحلو للرواية الصهيونية أن تدّعي، بل 70% منه يقع في منطقة غلاف غزة والنقب الغربي، و30% في الجليل الأعلى، على أراضٍ سُجلت في دفاتر الأمم المتحدة بأسماء لاجئين لا يزالون يحملون مفاتيح بيوت من طين لم يعودوا إليها منذ سبعة وسبعين عاماً. كل مبنى زجاجي في هرتسليا أو بئر السبع هو شاهد إثبات على سرقة مستمرة، وكل مهندس يعمل فيه يتقاضى راتباً من دمٍ لم يجف بعد.
كم ينبغي أن تدفع هذه الشركات تعويضاً؟ الرقم ليس مجرد حسابات، بل هو دين أخلاقي. إذا كانت غوغل قد جنت أرباحاً صافية تجاوزت 300 مليار دولار في السنوات الخمس الأخيرة من السوق الإسرائيلي ومن الصفقات العسكرية، وإذا كانت ميتا قد حققت أكثر من 150 مليار دولار من الإعلانات التي استهدفت الجمهور العربي بينما تحظر أي محتوى فلسطيني، فإن الحد الأدنى للتعويض ينبغي أن يبدأ بتريليون دولار، تُوزع كتعويض فردي لكل لاجئ فلسطيني، لكل أرملة، لكل طفل فقد ساقيه بسبب قنبلة أمريكية الصنع وجهتها خوارزمية أمريكية البرمجة.
ولا تنتهي القصة هنا، فخلف هذه الشركات تقف محميات نفطية تلبس ثوب الحداثة وتدير ظهرها لدماء إخوتها. الإمارات التي تضخ تريليوناً ونصف التريليون في شراكات مع مايكروسوفت وأوبن إيه آي، والسعودية التي أعلنت عن صندوق استثمار بقيمة تريليون دولار للذكاء الاصطناعي الأمريكي، وقطر التي تمول غوغل كلاود بمئات المليارات، كلها شريكة في الجريمة. هذه الأموال التي تُجمع من بيع نفط الأمة يجب أن تُصادر وتُحول إلى صندوق تعويضات فلسطيني يديره فلسطينيون، لا حكومات تطبّع مقابل حفنة دولارات وكرسي في الأمم المتحدة.
إننا اليوم أمام لحظة تاريخية لم نشهدها منذ محاكمات نورمبرغ. فكما حُاسب الصناعيون الألمان الذين زودوا النازيين بالغاز والقطارات، ينبغي أن يُحاسب مهندسو السيليكون الذين زودوا النازية الجديدة بالبيانات والخوارزميات. ليس من العدالة أن يعيش رجل في قصر على تلة في كاليفورنيا بينما يُدفن طفل في غزة تحت أنقاض بيت دمّرته قنبلة وجّهتها شركته. ليس من العدالة أن يُصنّف نضال شعب يدافع عن أرضه إرهاباً بينما تُكافأ جريمة الإبادة بعقود حكومية وأسهم ترتفع في بورصة نيويورك.
في النهاية، ليست المسألة قانونية فقط، بل هي مسألة كرامة إنسانية. إما أن نترك التاريخ يُكتب بأقلام المنتصرين الذين يملكون الخوادم والصواريخ، أو نكتب نحن فصلاً جديداً يبدأ باعتقال أول مدير تنفيذي يوقّع على تسليم بيانات بشرية لآلة قتل، وينتهي بصباح يستيقظ فيه طفل فلسطيني على تعويض يعيد له بيت جده، وعلى سماء لم تعد فيها طائرة بدون طيار تحمل شعار شركة كان يظن أنها جاءت لتوصل الناس ببعضهم.
اليوم، ليس السؤال: هل سيُحاسب هؤلاء؟
السؤال الحقيقي هو: كم من الوقت سنسمح لهم بأن يعيشوا أحراراً بعد أن أصبحوا مجرمي حرب ببدلات رسمية؟
وكملحق توضيحي عن آثار طوفان الأقصى ..وفجأة، في قلب أغنى مدينة على وجه الأرض، نيويورك، تلك الجزيرة المانهاتنية التي كانت منذ عقود حلبة مصارعة سرية بين اللوبي الصهيوني ومجمع الصناعات الحربية الأمريكية، حيث يُقرَّر مصير شعوب بكاملها على طاولات عشاء في بنتهاوسات مطلة على سنترال بارك، وُلد جيل لم يكن أحد يتوقع ولادته. جيل لم ينشأ على أساطير هوليوود عن "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، ولا على خطابات السياسيين التي تُردَّد كالترانيم في قاعات الكونغرس كلما احتاجت شركات الأسلحة إلى حرب جديدة تبيع فيها صواريخها بمليارات الدولارات. جيل رأى بأمّ عينيه، عبر شاشات هواتفه التي صنعتها نفس الشركات التي تبيع القنابل، كيف تتحول غزة إلى مختبر لأحدث أسلحة الإبادة، فاستيقظ.
كان زهران مميداني، ذلك الشاب الشيوعي الوسيم ذو العينين اللتين تحملان غضب قرن كامل من الظلم، رمز هذا الجيل الجديد. لم يكن وحده، لكنه كان الأعلى صوتاً، الأكثر جرأة، الأكثر قدرة على أن يقف في ميدان تايمز، حيث تتلألأ شاشات الدعاية الصهيونية منذ عقود، ويصرخ بصوت يسمعه العالم كله: "غزة كسرت قيود التاريخ!". في تلك اللحظة بالذات، انهار جدار كان يُعتقد أنه من حديد: جدار الخوف الذي بناه اللوبي الصهيوني داخل الضمير الأمريكي الشاب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جدارٌ غذّاه الإعلام، ورعته هوليوود، وموّلته شركات الأسلحة التي لا يهمها إن كان الدم فلسطينياً أو عراقياً أو يمنياً أو ليبياً، المهم أن يتدفق ليبيعوا المزيد من الطائرات والدبابات والقنابل الذكية.
في الأشهر التي تلت طوفان الأقصى، حدث ما لم يحدث من قبل في تاريخ الإمبراطورية الأمريكية: مئات الألوف من الشباب، أبناء الطبقة الوسطى البيضاء، طلاب الجامعات المرموقة، أبناء اليهود الأمريكيين التقدميين أنفسهم، خرجوا إلى الشوارع يحملون الكوفية ويرددون "من النهر إلى البحر"، وكأن نسمة من بيروت القديمة أو من مخيم اليرموك هبت فجأة في شوارع مانهاتن وبروكلين. لم يعد أحد يصدق الرواية القديمة. لم يعد أحد يصدق أن هناك "ديمقراطية" في بلد يرسل 26 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لتمويل إبادة جماعية تُبث مباشرة على إنستغرام، ثم يعتقل الطلاب الذين يحتجون على ذلك بتهمة "معاداة السامية". لقد سقط القناع، ولم يعد بالإمكان ترقيعه.
هذا الجيل الجديد، الذي يسميه البعض "جيل طوفان الأقصى"، لم يكتفِ برفض الرواية الصهيونية، بل ذهب أبعد من ذلك: بدأ يرى في إيران واليمن، اللذين كانا يُصوَّران له كشياطين في مسلسلات نتفليكس، حليفين طبيعيين لكل مضطهد على وجه الأرض. فجأة، صار علم اليمن يرفرف في مظاهرات شيكاغو وديترويت إلى جانب العلم الفلسطيني، وصار شباب أمريكيون يرددون "الموت لأمريكا" ليس كشعار طائفي، بل كرفض لإمبراطورية ترسل حاملات طائراتها لتحمي سفن الشحن الصهيونية بينما تمنع وصول علبة حليب إلى طفل في رفح. صار الشاب الأمريكي يدرك أن الذي يقصف الحديدة اليوم هو نفس الذي قصف الفلوجة أمس، ونفس الذي سيقتل أبناءه غداً إذا ما تجرأوا على المطالبة بتعليم مجاني أو صحة مجانية.
في الجامعات، حيث كانت المنح الدراسية تُقدَّم للطلاب اليهود فقط إذا ما أقسموا بالولاء لإسرائيل، انقلب الطاولة. صار الطلاب اليهود الأمريكيون أنفسهم، أحفاد الناجين من الهولوكوست، يضعون الكوفية ويخاطبون أجدادهم في السماء: "لقد استخدموا مأساتكم ليبرروا مأساة جديدة". صاروا يقولون لأمهاتهم اللواتي يبكين خوفاً عليهم: "نحن لا نكره يهوديتنا، نحن نكره أن تُستخدم يهوديتنا لقتل أطفال لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في غزة".
هذا التحول لم يكن عابراً، بل كان زلزالاً جيولوجياً في الضمير الغربي. لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، بدأ الشباب الأوروبي والأمريكي ينظر إلى الشرق، ليس كعدو، بل كمرآة تكشف زيف الديمقراطية التي يعيشون فيها. بدأوا يرون أن الذي يقمع احتجاجاتهم في جامعة كولومبيا بالغاز المسيل للدموع هو نفس الذي يقصف المستشفيات في غزة. بدأوا يفهمون أن الرأسمالية التي وُعدوا بها كانت دائماً رأسمالية حرب، تقوم على بيع السلاح للطرفين، ثم تدمير الطرفين، ثم إعادة البناء بقروض مرابية.
في هذا الجيل الجديد، استيقظ وعي لم يره التاريخ من قبل: وعي يرى أن فلسطين ليست قضية إقليمية، بل هي مفتاح فهم العالم كله. من فهم غزة فهم كيف تدار الإمبراطورية. من رأى كيف تُقتل الأطفال في المستشفيات ثم تُبرر الجريمة بـ"حق الدفاع عن النفس"، فهم أن كل الجرائم الأخرى في العالم تُبرر بنفس المنطق. من تضامن مع غزة تضامن مع كل مظلوم، من كوباني إلى اليمن إلى الكونغو إلى السودان.
ولذلك، فإن طوفان الأقصى لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان لحظة ميلاد عالم جديد. لحظة انهارت فيها آخر أوهام القرن العشرين. لحظة بدأ فيها الشباب في أغنى مدينة في العالم، تحت أنظار تماثيل الحرية المزيفة، بكتابة تاريخ جديد بأيديهم. تاريخ لا تقوده شركات الأسلحة ولا لوبيات المال، بل ضمير إنساني استيقظ أخيراً من سباته الطويل، ونظر إلى غزة، فرأى في عيون أطفالها وجهه هو نفسه.
هذا الجيل لا يريد إصلاح النظام. هذا الجيل يريد نهاية النظام. وهو يعلم أن الطريق إلى نهاية النظام يمر عبر تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، لأن تحرير فلسطين ليس مجرد تحرير أرض، بل تحرير للإنسانية جمعاء من أوهامها، من خوفها، من خضوعها لإمبراطورية تقتل الأطفال ثم تبيعهم ألعاباً إلكترونية تحمل شعار "صنع في إسرائيل".
في عيون زهران مميداني ورفاقه، نرى اليوم وجه المستقبل. وجه لا يخاف، لا يكذب، لا يساوم. وجه يعرف أن الحرية لا تُستجدى من مجرمي الحرب، بل تُنتزع من أيديهم. وجه يعرف أن اليوم الذي يرفرف فيه العلم الفلسطيني فوق القدس المحررة سيكون هو نفسه اليوم الذي تنهار فيه آخر إمبراطورية تقوم على الدم والكذب والمال.
ذلك اليوم ليس حلماً. إنه وعد كتبته دماء أطفال غزة في دفتر التاريخ، ويقرأه اليوم جيل جديد في أغنى مدينة في العالم، فيرفع صوته عالياً: "سنكون هناك. سنكون جزءاً من ذلك اليوم".
………
المادة الساخرة :
غوغل: ابحث… اقصف… احذف الدليل… وكلّه بنقرة واحدة
أيها الأصدقاء، اربطوا أحزمتكم، لأننا على وشك أن ننطلق في رحلة ساخرة طويلة جداً، صفحات عدة من الضحك المرّ الذي يُشبه طعم القهوة الستاربكس بعد أن تكتشف أنها مُرشَّة بغاز مسيل للدموع، رحلة في عالم الشركات التقنية الأمريكية التي تُدير الكوكب بابتسامة «يوزر فريندلي» وبإصبع على زر القنبلة الذكية.
تخيّلوا لو أن التاريخ كان منصفاً، لكان اليوم يُدرس في المدارس فصل بعنوان «كيف حولت غوغل وميتا ومايكروسوفت وآبل وأمازون ونتفليكس العالم إلى لعبة غراند ثفت أوتو واقعية، لكن بدل ما تسرق سيارات، تسرق شعوباً بأكملها، وبدل ما تهرب من الشرطة، الشرطة هي اللي بتشتغل عندك». لكن التاريخ ليس منصفاً، التاريخ يكتبه الفائزون، والفائزون الآن هم حفنة من المليارديرات الذين يرتدون جينزات ممزقة بـ ٨٠٠ دولار ويتكلمون عن «التنوع والشمولية» بينما يمولون أكبر عملية إبادة جماعية منذ الهولوكوست ويضعون فلتر «Pride» على صورهم في يونيو.
ابدأوا مع غوغل، هذه الشركة التي شعارها كان «Don’t be evil» ثم غيّروه إلى «Do the right thing» لأن «لا تكن شريراً» صار يبدو كذبة كبيرة حتى بالنسبة لهم. الآن الشعار الجديد الحقيقي هو «Do the right wing»، لأن كل شيء يمين، يمين متطرف، يمين يقصف، يمين يحتل، يمين يسرق أرضاً ويبيعها كـ «ستارت أب نيشن». غوغل التي تعرف متى تذهب إلى الحمام ومتى تبكي في السرير، قررت أن تعطي هذه المعلومات مجاناً للجيش الإسرائيلي عبر مشروع نيمبوس، يعني بدل ما تستخدم بياناتك عشان تبيعك حذاء، تستخدمها عشان تبيعك قبر. خدمة جديدة اسمها Google Graves، اشتركوا الآن واحصلوا على خصم ٢٠٪ على القبر المجاور.
وفيسبوك، أو ميتا كما يحب زوكربيرغ أن نسميه الآن، لأن «فيسبوك» صار اسم يُخجل حتى الشيطان. ميتا التي حظرت كلمة «فلسطين» أكثر من مرة لأنها «تحتوي على عنف»، بينما صفحات المستوطنين اللي بيكتبوا «اقتلوا العرب» بتبقى تريندينغ. زوكربيرغ نفسه، هذا الروبوت الذي يشرب الماء فقط لما الكاميرا شغالة، قرر أن يحول الميتافيرس إلى مستوطنة افتراضية، يعني لو ما قدرتش تسكن في أريئيل واقعياً، تقدر تسكن فيها افتراضياً، وتدفع إيجار بالدولار لمستوطن يهودي أمريكي انتقل إلى هناك بعد ما شاف فيديو على تيك توك.
وآبل، يا سلام على آبل، الشركة التي تبيعك هاتف بـ ١٥٠٠ دولار وتقولك «هذا الهاتف يحمي خصوصيتك»، ثم تكتشف أن الخصوصية تنتهي عند أول طلب من البنتاغون أو الموساد. آبل التي صممت آيفون بكاميرا أمامية عالية الدقة عشان تقدر تصور وجهك وأنت بتبكي على فيديو قصف غزة، ثم ترسل الصورة تلقائياً للخوارزمية الإسرائيلية لتتعرف عليك إذا كنت «تهديد محتمل». وطبعاً كل آيفون جديد بيطلع بميزة جديدة: «وضع القصف الذكي»، يعني الكاميرا بتفتح تلقائياً لو حسّت إن في طائرة بدون طيار فوق راسك، عشان توثق اللحظة التاريخية وترفعها على آي كلاود بجودة ٤كيه.
نتفليكس، هذه المنصة التي تقدم لك مسلسلات عن «البطلات النسويات» بينما تمول أفلام دعاية صهيونية بمئات الملايين. آخر إنتاجاتهم: مسلسل «Fauda Season 17: The Final Genocide»، بطولة نفس الممثل الذي يلعب دور الضابط الإسرائيلي الوسيم الذي يبكي لأنه اضطر يقتل ٣٠٠ طفل عشان يحمي «الديمقراطية». والجمهور يبكي معاه، ويحط خمس نجوم، ويكتب في التعليقات «أقوى حلقة في الموسم، حسيت إني أنا اللي قتلتهم، دراما حقيقية».
أمازون، جيف بيزوس الذي طار للفضاء عشان يشوف الأرض من بعيد ويقول «يا سلام كلنا على كوكب واحد»، ثم نزل ووقّع عقد مع الجيش الإسرائيلي عشان يستخدموا AWS في توجيه الصواريخ. يعني نفس السحابة اللي بتحفظ صور قطتك بتحفظ إحداثيات بيت جدتك في رفح. وطبعاً الشحن مجاني لو اشتريت أكثر من ٥٠ قنبلة في الطلب الواحد.
والإعلام الغربي، يا إلهي، هذه التحفة الفنية. سي إن إن التي تبث ٢٤ ساعة يومياً عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» وكأن غزة هي اللي عندها أسطول نووي. بي بي سي التي تصف المستوطنين اللي بيحرقوا بيوت الفلسطينيين بـ «سكان محليون يعبرون عن غضبهم». نيويورك تايمز التي تنشر مقال رأي كل أسبوع بعنوان «هل يبالغ الفلسطينيون في الموت؟ تحقيق استقصائي». وفوكس نيوز التي تعتقد أن غزة هي اسم فرقة روك إندونيزي.
وكلما طلع صحفي شجاع يقول الحقيقة، يتم طرده فوراً ويُستبدل بـ «خبير في الشرق الأوسط» اسمه دائماً «مارك من تل أبيب» أو «ديفيد من واشنطن»، وكلاهما عنده نفس الجملة الجاهزة: «الوضع معقد جداً». معقد؟ لا يا حبيبي، الوضع بسيط جداً: واحد عنده دبابة وطيارة إف-٣٥، والثاني عنده حجر وكوفية، وأنت بتقول معقد؟ ده أبسط من مسألة رياضيات في الصف الثالث ابتدائي.
والأكاديميا الأمريكية، لا تنسوا الأكاديميا. الجامعات التي كانت تتباهى بأنها «مساحات للحوار الحر» ثم تستدعي الشرطة بكلابها لتفريق طلاب يطالبون بوقف الإبادة. هارفرد التي تمنح درجات دكتوراه فخرية لمجرمي حرب، وكولومبيا التي تعتقل رئيسة الطلاب لأنها قالت «فلسطين حرة». ياللا يا جماعة، الديمقراطية في أجمل صورها: تحرّض على قتل الأطفال ثم تعتقل اللي بيحتجوا على قتل الأطفال، وتسمي ده «حرية أكاديمية».
وحتى الثقافة الشعبية ما سلمت. تايلور سويفت التي غنت عن الحب والقلب المكسور ثم صمتت صمت القبور عن غزة، لأن مدير أعمالها قال لها «لو تكلمتِ هيخسروكِ جمهور السوق الإسرائيلي». بيونسيه التي رفعت علم فلسطين مرة في حفلة سنة ٢٠١٤ ثم اختفت القضية من قاموسها تماماً. وكاني ويست اللي قال «أنا أحب هتلر» فتم إلغاؤه فوراً، لكن نتنياهو اللي قال «نحول غزة إلى جزيرة» بقى ضيف شرف في الكونغرس يتصفق له ٥٨ مرة.
والرياضة كمان. الفيفا اللي يمنع روسيا من كأس العالم عشان غزت أوكرانيا، لكن إسرائيل تقصف غزة من ٧٥ سنة وتلعب مباريات ودية مع ريال مدريد. الاتحاد الدولي لكرة القدم اللي يقول «الرياضة خارج السياسة» ثم يسيّس كل شيء إلا إذا كان الجاني يملك لوبي قوي في واشنطن.
وفي النهاية، بعد كل هذه الكوميديا السوداء، يأتي جيل زهران مميداني، جيل يضحك من كل هذا العبث، يضحك لأنه اكتشف اللعبة، واكتشف أن كل اللي فاكرين نفسهم أبطال هم في الحقيقة شخصيات كوميدية في مسرحية كتبها طوفان الأقصى. جيل يرفع الكوفية في مانهاتن ويقول للكاميرا: «خلاص، الكذبة انكشفت، الإمبراطور عاري، والعاري دلوقتي مش بس عاري، ده كمان ملطخ بدماء أطفال غزة».
هذه الصفحات من السخرية لن تكفي، لأن الواقع نفسه صار أكبر نكتة في التاريخ: شعب بأكمله يُباد على الهواء مباشرة، والعالم يشاهد ويأكل بوبكورن ويكتب في التعليقات «الوضع معقد». لكن الضحكة الأخيرة قادمة، وستكون من القدس، من حيفا، من يافا، من الناصرة، من كل شبر تم تحريره، وستسمعها غوغل وميتا وآبل ونتفليكس وكل من راهن على أن الشعب الفلسطيني سيموت صامتاً.
الضحكة قادمة، وستكون عالية جداً، عالية بما يكفي لتحطم كل الخوادم، كل الأقمار الصناعية، كل الأكاذيب التي بنوا عليها إمبراطوريتهم. وعندها سنرى من سيدفع الفاتورة، وستكون فاتورة طويلة جداً، مكتوبة بخط كبير: «من النهر إلى البحر، فلسطين حرة، والحساب بدأ».
……