العمل المرن والأزمنة السائلة


أيمن زهري
2025 / 11 / 24 - 18:49     

يمثّل العمل المرن أحد أهم التحولات التي أصابت الحياة المهنية خلال العقود الأخيرة، ليس فقط بوصفه ترتيبًا إداريًا جديدًا، بل باعتباره انعكاسًا لطريقة مختلفة في فهم الزمن والعمل والهوية المهنية. يتقدّم هذا المفهوم إلى مركز النقاش العام لأن العالم يعيش اليوم انتقالًا من فكرة “المسار المهني المستقر” إلى “المسار المتحوّل”، حيث تصبح الوظيفة نقطة عبور بدلًا من أن تكون محطة نهائية، ويتحول الاستقرار إلى وضع مؤقت لا يُعوَّل عليه طويلًا.

يقوم العمل المرن على إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد والإنتاج، إذ يسمح للعامل بتحديد ساعات عمله، وطريقة أدائه، وحتى مكان عمله، بما يحقق توازنًا أفضل بين حياته الشخصية والمهنية. يخرج المفهوم من حدود العمل من المنزل أو العمل بعض الوقت ليصبح رؤية أشمل تقوم على منح الفرد قدرة أكبر على التحكم في وقته، وعلى إعادة توزيع الجهد بما يناسب ظروفه وإيقاع حياته، كما يصبح الالتزام المهني قائمًا على المخرجات، لا على الزمن نفسه، وعلى نوعية القيمة المنتَجة، لا على عدد الساعات التي يقضيها العامل في المكتب.

يصبح هذا التحول أكثر وضوحًا حين نضعه في سياق ما يصفه باومان بـ“الأزمنة السائلة”، وهي مرحلة تاريخية تتداعى فيها البنى الصلبة التي كانت تنظّم الحياة المهنية لعقود طويلة، حيث لا يستمر المسار الوظيفي خطًا مستقيمًا، بل يتحول إلى سلسلة من الخبرات المتتالية. تتغير المهن بسرعة وتختفي وظائف وتظهر أخرى وتتبدل توقعات المؤسسات من العاملين بوتيرة لا تكاد تهدأ. يأخذ العمل المرن هنا معنى وجوديًا يتجاوز ترتيبات العمل نفسها، ويصبح طريقة للتكيّف مع واقع تتحرك فيه التكنولوجيا والقطاعات الاقتصادية بوتيرة أسرع من قدرة الأفراد على ملاحقتها.

يتحوّل الانتقال من عمل إلى آخر، والحال كذلك، إلى أمر طبيعي، بل ضروري أحيانًا. يغيّر العامل وظيفته لأسباب متعددة مثل تغير الطلب وانتهاء المشروعات وإعادة هيكلة المؤسسات أو رغبة العامل في تطوير ذاته. لا يُنظر إلى التنقل المتكرر باعتباره دلالة على اضطراب مهني، بل باعتباره إشارة إلى ديناميكية الفرد وقدرته على اكتساب مهارات جديدة. يتراجع مفهوم “الوظيفة الواحدة مدى الحياة”، ويحل محله نموذج يقوم على التجربة المستمرة، وعلى الاستعداد الدائم لإعادة التموضع المهني.

تفرض هذه الطبيعة المتحركة لسوق العمل قبول فترات بطالة بينية قصيرة، لا بوصفها إخفاقًا، بل باعتبارها فواصل مهنية طبيعية تمنح الفرد فرصة لإعادة ترتيب مساره. يتحول “الفراغ المهني” إلى مساحة للتعلم، وصقل المهارات، والتقاط الأنفاس بعد سنوات من العمل المضغوط. تنشأ نظرة جديدة لهذا النوع من الانقطاع، وتبتعد عن الوصم الاجتماعي القديم الذي كان يرى البطالة المؤقتة علامة ضعف، لتصبح علامة على مرونة الشخص وقدرته على تحمل تقلبات السوق.

يعتمد النجاح في بيئات العمل المتغيرة على امتلاك مجموعة من المهارات الأساسية التي تسمح للفرد بالتجول بين قطاعات مختلفة. تشمل هذه المهارات اللغة والكفاءة الرقمية والقدرة على التكيّف وحل المشكلات والتواصل الفعّال. تمثل هذه الحزمة “جواز السفر المهني” الذي يمكن الفرد من الانتقال بين بيئات متباينة دون أن يفقد كفاءته أو ثقة أصحاب العمل فيه، كما تظهر أهمية العمل المرن حين يدرك الفرد أنه قد يعمل خلال حياته في مجالات مختلفة، وأن أهم ما يمتلكه ليس الوظيفة، بل القدرة على تعلم مهارة جديدة كلما تطلب الأمر.

يغيّر العمل المرن الطريقة التي ينظر بها الفرد إلى ذاته المهنية، ويتحول التعريف من “أنا أعمل في مؤسسة كذا” إلى “أنا أمتلك القدرة على كذا،” أي إن الهوية تصبح قائمة على المهارة، لا على الموقع الوظيفي. تتشكل شخصية العامل من خلال خبرات مختلطة من مؤسسات وفرق عمل متعددة، فتزداد خبرته في التفاوض وإدارة الوقت وتنظيم المهام والتعامل مع تنوع ثقافي ومهني واسع، ويتحوّل النجاح من قيمة مرتبطة بالثبات إلى قيمة مرتبطة بالقدرة على التكيف.

يظهر أثر العمل المرن على المستوى الاجتماعي كذلك، إذ يمنح الأفراد قدرة أكبر على تنظيم يومهم وفقًا لاحتياجاتهم، وعلى تخصيص وقت لأسرهم وهواياتهم، وعلى تحقيق توازن ذهني ونفسي. تتغير صورة العالم المهني في الوعي العام ويتراجع النموذج التقليدي الذي يربط النجاح بعدد الساعات الطويلة خلف المكتب لتحل محله صورة العامل الذي يخلق قيمة في زمن أقل وبمرونة أعلى. تتسع مساحة الحرية المهنية، ويتغير مفهوم “الأمان الوظيفي” فيصبح قائمًا على المهارة والقدرة على التعلم المستمر بدلًا من العقد الدائم.

يمثل العمل المرن في النهاية مظهرًا من مظاهر التحول العميق في العلاقة بين الإنسان والزمن المهني، بما يعكس هشاشة البنى التقليدية ويجسد طبيعة العصر الذي تتشابك فيه التكنولوجيا مع الحياة اليومية ويتيح للفرد فرصة لبناء مسار مهني مفتوح يتشكل باستمرار بعيدًا عن الجمود والتقليدية. يظل العمل المرن وعدًا بالحرية وبالاختيار، لكنه يضع على عاتق الفرد مسؤولية أكبر في التخطيط لمستقبله، وفهم اتجاهات واحتياجات السوق، وتطوير مهاراته دون توقف، ليظل قادرًا على العبور بثقة في عالم لم يعد يعرف الثبات طويلًا.

يثير العمل المرن العديد من القضايا المرتبطة بالتنظيم النقابي وحقوق العمال وكذلك المنهجيات الخاصة بالقوى العاملة وكيفية احتساب معدلات البطالة والتشغيل