سواء كانت العبارة المعنية -أفيون الشعب- أو -أفيون الشعوب-، فليست هذه هي الإشكالية الحقيقية


حميد كوره جي
2025 / 11 / 22 - 12:01     

ترجمة العبارات ذات الطابع الأيديولوجي بين اللغات المختلفة تتسم بتعقيد بالغ، فهي ليست مجرد عملية نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي تكييف ثقافي وسياسي قد يترك تأثيراً جوهرياً على إدراك المتلقي وطريقة تفاعله مع الفكرة الأصلية.
الترجمة الأيديولوجية تنطوي على ثلاثة عوامل أساسية: السياق الثقافي، البُعد السياسي للمصطلح، ومدى الالتزام بالدقة المفاهيمية.

أولاً: السياق الثقافي والدلالات. يمكن أن تكون الكلمة حيادية نسبياً في لغتها الأصلية، لكنها قد تحمل معاني ضمنية قوية، سواء إيجابية أو سلبية، في اللغة الهدف. مثال على ذلك كلمة "الشعب" (Das Volk)؛ ففي اللغة الألمانية قد تشير ببساطة إلى "الناس" أو "الأمة"، بينما في العربية تأخذ دلالة تتصل بالأمة القومية. أما في اللغة الفارسية كمثال "توده‌ها" أو "الجماهير"، فهي تعبر أكثر عن الطبقات الاجتماعية وفق التصور الماركسي. في كثير من الأحيان قد يُضطر المترجم إلى استخدام تعبير وصفي بدلًا من مصطلح واحد بغية توضيح المفهوم كاملًا، خاصة عندما يواجه مصطلحات مرتبطة بثقافة أو فكر معين (مثل بعض المفاهيم الفقهية أو الاشتراكية).

ثانياً: التكيف الأيديولوجي والرقابة. قد تُعدل النصوص لترجيح الأيديولوجيا السائدة أو لتخفيف حدة النص الأصلي في بيئة سياسية معينة، مثل ما حدث أثناء ترجمة النصوص الماركسية خلال فترة الحرب الباردة في بعض البلدان. تم أحياناً إبراز بعض الجوانب كالتحرر الوطني، مع تلطيف أو حذف أجزاء أخرى مثل الدعوة للإلحاد أو الثورة الجذرية. هذا النوع من التغيير يتضمن الاستعانة بمصطلحات أخف لتقليل قوة النقد كاستبدال "الثورة" بكلمة "إصلاح عميق"، أو العكس لإثارة حماسة الجماهير.

ثالثاً: الدقة المفاهيمية. بعض المصطلحات ليست لها مكافئ دقيق في اللغة الهدف، مما يستدعي استحداث كلمات جديدة أو استخدام استعارات مثل مصطلح "بروليتاريا". على سبيل المثال، اختيار كلمة "الجماهير" لترجمة "توده‌ها" في الفارسية يعد نجاحاً دلالياً لأنها تعبّر بوضوح عن المفهوم الطبقي وفق تصور ماركس بشكل يتفوق على استخدام كلمة "الشعب" التي قد تبدو أقل دقة مع السياقات الحديثة. أحياناً يتم تعديل التركيز الأساسي للنص؛ فقد يصبح الجانب السياسي هو المحور الرئيسي بدلاً من الاقتصادي في النسخة المترجمة، مما يؤدي إلى تحول جذري في طبيعة النقاش المطروح. بهذا يمكن القول إن عملية الترجمة الأيديولوجية ليست مجرد نقل للمعنى، بل هي إعادة تشكيل له بما يتناسب مع السياقات الثقافية والسياسية للغات المختلفة، الأمر الذي يجعلها جزءاً من عملية بناء المعاني وتوجيه الفهم.

الاختلافات في الترجمة تحمل تأثيرات عميقة على كيفية استقبال المفاهيم الأيديولوجية، حيث إن اختيار مصطلحات ذات حمولة عاطفية معينة يمكن أن يؤدي إلى استقطاب الدعم أو إثارة الرفض منذ اللحظة الأولى، ودون الحاجة لتحليل المفهوم ذاته. وقد تؤثر الترجمة أيضًا في تحديد من يتم اعتباره الجمهور المستهدف. فعلى سبيل المثال، عندما تُترجم كلمة "الشعب" إلى "الجماهير"، يُعكس التركيز نحو نظام طبقي عالمي. أما إذا تمت ترجمتها إلى "الأمة"، فقد يفهم منها أنها تشير إلى كيان سياسي قومي محدد. فوق ذلك، تسهم الترجمة في تشكيل طبيعة الحركة السياسية التي قد تنشأ متأثرة بالنص. فإذا جرى التركيز في الترجمة على البعد القومي، فإن الحركة التي ستنبثق ستكون قومية اشتراكية. أما إذا أبرزت الترجمة الجانب الطبقي، فستتحول الحركة إلى اشتراكية أممية.



الترجمة الفارسية "أفيون توده‌ها"، والتي تعني "أفيون الجماهير"، تُعد بالفعل ترجمة دقيقة وموفقة للغاية تعكس المعنى المقصود بوضوح. اختيار كلمة "الجماهير" (توده‌ها) عوضًا عن كلمة قد تُفهم من سياقها بشكل أضيق مثل "الشعب"، يُشير إلى وعي عميق بفروق اللغة والسياق الاجتماعي والسياسي.
كلمة "الجماهير" في الأدبيات الماركسية والمفردات السياسية تحمل معنى محددًا ودقيقًا، فهي ترمز إلى الطبقات الواسعة من المجتمع، وخصوصًا الطبقات العاملة والكادحة والمقهورة التي تقع تحت وطأة الاستغلال. في المقابل، فإن مصطلح "الشعب" باللغة العربية المتداولة قد ينصرف ذهن المتلقي بسهولة إلى معانٍ أخرى تقلل من دقة الرسالة؛ مثل الإشارة إلى شعب معين أو سياق قومي يقيّد الفهم العالمي لفكرة الطبقية والنضال الجمعي الذي أراده ماركس.

ماركس كان يقصد عند استخدامه لعبارة "Das Volk" التعبير عن مفهوم إنساني عالمي، حيث يشير إلى جميع الأفراد الذين يعانون من أشكال القهر والاستغلال بصرف النظر عن قومياتهم أو انتماءاتهم. وبالتالي، فإن استخدام مصطلح "الجماهير" بدلاً من "الشعب" في الترجمة العربية يعزز هذا المعنى الأشمل ويبتعد عن أي التباسات قد تجعل القارئ يفهمها في سياقات قومية أو وطنية ضيقة.لذلك، يمكن القول بأن ترجمة العبارة إلى "أفيون الجماهير" لا تعكس فقط النية التحليلية الأصلية لماركس بشكلٍ أوضح، بل تسهم أيضًا في الحفاظ على العمق الفلسفي والاجتماعي للمفهوم. هذه الدقة اللغوية تضمن إيصال الفكر الماركسي بفعالية أكبر مقارنة بترجمة حرفية مثل "أفيون الشعب"، التي ربما تفقد شيئًا من البعد الشمولي والطبقي الذي أراده النص الأصلي.
يُفسَّر وصف الحزب الشيوعي العراقي لانقلاب 17–30 تموز 1968 بـ "التغيير الثوري" بدلاً من تسميته انقلاباً بشكل رئيسي ضمن إطار الضرورات السياسية والتكتيكية اللازمة لإبرام ميثاق الجبهة الوطنية مع حزب البعث الحاكم آنذاك. كان هذا التوصيف يمثل تنازلاً أيديولوجياً وتعبيرياً لإدامة التحالف السياسي بين الطرفين، ويمكن فهمه بناءً على عدة عوامل:

أولاً، مصطلح "انقلاب" يحمل دلالات سلبية توحي بأن حزب البعث وصل إلى السلطة بوسائل غير مشروعة أو غير ديمقراطية. ولأن الحزب الشيوعي كان معنياً بشرعنة هذا النظام أمام الجمهور وضمان الدعم الشعبي للجبهة، فقد فضّل استخدام لغة أدق سياسياً وأكثر قبولاً، مثل "التغيير" أو "التحول". وصف الحليف الحاكم بـ"انقلابي" كان ليُضعف المصداقية السياسية للتحالف.

ثانياً، هذا الوصف الإيجابي كان محاولة لتعزيز الثقة بين الطرفين، خاصة أن الحزب الشيوعي عانى من القمع الشديد في الفترات التي سبقت الاتفاق. وكان من الضروري تقديم التنازلات اللازمة لتخفيف التوتر وتحقيق الحد الأدنى من التعاون السياسي.

أما على صعيد الخطاب الأيديولوجي، سعى الحزب الشيوعي العراقي لتبرير تحالفه مع البعث بالإشارة إلى أن السياسات التي تبنتها السلطة بعد عام 1968، وخصوصاً تأميم النفط عام 1972، عكست تحولاً نحو "خط وطني تقدمي"، بالرغم من أن السلطة تم الاستيلاء عليها عبر انقلاب عسكري. هذا التغير السياسي وُصف بـ"الثوري"، حيث جرى التركيز على النتائج والوعود المستقبلية التي أمل الحزب تحقيقها من هذا التحالف بدلاً من التركيز على طريقة الوصول إلى السلطة.

إضافة إلى ذلك، اعتبر الحزب مشاركة الشيوعيين في السلطة، وإن كانت رمزية، خطوة نحو تحقيق مكتسبات سياسية وبناء جبهة وطنية ضد الإمبريالية والقوى الرجعية.

الراحل عزيز محمد، السكرتير الأول للحزب حينها، برز كرائد لهذه السياسة الواقعية في ذلك الوقت والمتماشية مع سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي. اعتمدت قراراته على تقييم دقيق للسياقات الدولية والإقليمية والحاجة لتوحيد القوى "التقدمية" لمواجهة التحديات الكبرى، بما فيها التهديد الإمبريالي. لذلك، ارتأى الحزب أن استخدام تعبيرات مثل "التغيير الثوري" كان ضرورياً ومقبولاً سياسياً للدخول في هذا النوع من التحالفات دون تقديم شرعية مباشرة لنظام اعتُبر في يومٍ ما غير قانوني.

لنعد إلى الإشكال الرئيسي!
يُعدّ استخدام الاسم المفرد المعرّف المرتبط بالألف واللام وسيلة لغوية وبلاغية ذات جذور ثابتة في التعبير عن الجنس أو الفئة ككل، ويُعرف في الدراسات اللغوية بـ "اسم الجنس المعرّف بالألف واللام". يتم في هذا السياق توظيف الاسم المفرد ليعمل بوصفه رمزاً شاملاً يُجسّد كل العناصر أو الأفراد الذين ينتمون إلى الفئة المشار إليها، مما يزيد من دلالة المعنى ويُعطيه طابعاً شاملًا. وفي بعض النظريات اللغوية والتحليلية، يُشار إلى هذا المصطلح بمسماه الإنجليزي "Indefinite Genus Noun".
تبرز أهمية هذا الأسلوب بشكل واضح في توجهات كتابات ماركس، حيث اعتمد على توظيف كلمة "الشعب" (كمفرد معرّف) لتوصيل رؤية فلسفية ذات عمق تحليلي، وهي أداة لغوية أكثر دقة من استخدام الجمع "الشعوب". ففي اللغتين؛ العربية التي تمت ترجمة مؤلفاته إليها لاحقاً، والألمانية التي كانت اللغة الأصلية لكتاباته، يتيح المفرد المعرّف إمكانية الإشارة إلى العموم بفعالية كبيرة. وتتجلّى هذه السمة في كلمات مثل "الطفل"، "المرأة"، "المريض"، و"الشركة"، مما يجعل الاسم المفرد المعرّف عنصرًا فعالًا في توحيد المعنى ضمن نطاق شمولي اجتماعي.

ومن الأمثلة الأكثر شهرة على ذلك عبارة ماركس "Das Opium des Volkes"، والتي تُرجمت إلى "أفيون الشعب". لم يكن اختيار ماركس لهذه العبارة عشوائيًا، بل كان يتضمن قصدًا فلسفيًا يؤكد الحديث عن الظاهرة الدينية كواقع مجتمعي يتجاوز حدود المجتمعات المختلفة ليطال جميع الفئات المضطهدة اجتماعيًا. هنا، لم يكن الغرض تحليلًا خاصًا بشعوب محددة، بل معالجة قضية عالمية تنطبق على أي مجموعة اجتماعية تُعاني القهر أو تعيش تحت وطأة أنظمة ظالمة.

يمثّل التباين بين استخدام "الشعب" و"الشعوب" أكثر من مجرد اختلاف لغوي، بل يُعبّر عن أبعاد فلسفية واجتماعية جوهرية. استخدام مصطلح "الشعب" كمفرد معرّف في إطار التحليل الماركسي غالبًا ما يرتبط بوصف الشرائح الاجتماعية العاملة والمقهورة داخل كيان مجتمعي موحد. إنه يعبر عن الطبقة الكادحة بوصفها وحدة متماسكة ضمن تحليل النظام الطبقي، بعيداً عن التصنيفات القومية أو الفصل الجغرافي.

على النقيض، ترتبط كلمة "الشعوب" عادة بدلالات قومية أو إثنية أو تشير إلى مجموعات مختلفة من الأمم والدول. يُحدث هذا الفرق الأهمية عند التركيز في منهجية ماركس الاجتماعية؛ فقد جعل اختيار كلمة "الشعب" في الحديث عن الظاهرة الدينية أداة لاستهداف القضايا الطبقية والاجتماعية بدقة متناهية. هذا الأسلوب ساعده على التركيز على دور الدين بوصفه وسيلة تستخدمها الطبقات المُضطهدة للتخفيف من وطأة المعاناة اليومية والظروف القاسية، دون أن يُشتت التحليل نحو أبعاد قومية أو تأويلات سياسية غير مرتبطة مباشرة بالسياق الطبقي الذي يسعى إلى معالجته. لقد كان هذا الاختيار جزءًا من دقة ماركس في إيصال هدفه الأساسي لنقد النظام الاجتماعي القائم وتركيز الضوء على آليات الاستغلال الاقتصادي في صميم البنية المجتمعية.


شمولية التحليل الماركسي
رؤية ماركس للظاهرة الدينية كصدى للاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي تتسم بطابع عالمي يتجاوز الحدود القومية والثقافية، حيث يمكن تطبيقها على أي مجتمع يعاني من الظلم. من بين هذه المجتمعات، نجد الشعوب الإسلامية التي تواجه أشكالاً من الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي المشابهة لما وصفه ماركس. إن توظيف مفهوم "الشعب" بهذه العمومية لا يُغفل تنوع المجتمعات، بل يعكس قدرة التحليل الماركسي على استيعاب التجارب الإنسانية المتقاربة في جوهرها الأساسي.

تحليل التفسير وموقف الإسلاميين

يسعى بعض الشيوعيين التقليديين من خلال تقديم تفسير محدود إلى تجنب المواجهة الأيديولوجية المباشرة مع الحركات الإسلامية أو المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. يهدف هذا التوجه إلى بناء تحالف مشترك في مواجهة الاستغلال الاقتصادي، دون إثارة القضايا الحساسة المتعلقة بنقد الدين.
في هذا السياق، يتم تضييق مفهوم "الشعب" ليقتصر على سياق ألمانيا في القرن التاسع عشر، في محاولة لنزع البعد الشمولي عن تحليل ماركس للظاهرة الدينية.
ولكن كما تم توضيحه سابقًا، فإن استخدام ماركس لمفهوم "الشعب" كان للإشارة إلى الفئة المضطهدة عمومًا، وليس بخلفية جغرافية أو قومية محددة. التفسير الذي ينص على أن المفهوم يخص الشعب الألماني فقط يعارض الطبيعة الشمولية للتحليل الماركسي.

فهم الإسلاميين لشمولية النص

الإسلاميون (إلى جانب بعض المفكرين القوميين) ليسوا غافلين، بل يدركون أن ماركس لم يكن يسعى لتأريخ ظاهرة محلية أو محددة، وإنما كان يقدم نظرية اجتماعية واقتصادية ذات طابع شمولي.
يدرك هؤلاء أن وصف ماركس للدين كـ "التنهيدة للمخلوق المضطهد" و"روح عالم بلا قلب" يعكس نقدًا عامًا للممارسات الدينية التي تصبح وسيلة لتسكين الآلام الناتجة عن القهر الطبقي، بغض النظر عن اسم الدين أو شكله.
حتى وإن قبلت بعض الأطراف التفسير الضيق لمفهوم "أفيون الشعب"، فإن الإسلاميين غالبًا ما يرفضون جوهر الفكرة ذاتها، لأنها تتعارض مع رؤيتهم للدين كمصدر للتحرر والعدالة، وليس مجرد وسيلة للعزاء أو الهروب السلبي.

محاولة حصر عبارة "أفيون الشعب" داخل السياق الألماني تعد تفسيرًا سياسيًا وتكتيكيًا بالدرجة الأولى. يهدف هذا المنطلق إلى تعزيز التعاون مع القوى الإسلامية، لكنه يتجنب المعنى الفلسفي العميق الذي يحمله المصطلح. استخدام ماركس لعبارة ذات دلالة شمولية يشير بوضوح إلى الطبقة المضطهدة في أرجاء العالم. لهذا السبب، غالبًا ما لا تنطلي هذه المحاولات التأويلية على المخاطبين بها، الذين يتمكنون من استقراء البعد النقدي الجذري الكامن وراء العبارة.

كان ماركس يظهر تعاطفاً واضحاً تجاه المؤمنين الكادحين الذين وقعوا ضحية الخداع، ولم يكن ينتقدهم كأفراد، بل توجه نقده إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي دفعتهم للتمسك بالدين بوصفه "أفيون" أو "تنهيدة" تخفف من آلامهم.

العبارة الشهيرة التي استخدم فيها ماركس مصطلح "أفيون الشعب" ليست مجرد كلمات عابرة، بل تمثل جزءاً من تحليل أعمق يكشف أسلوبه النقدي الممزوج بالتعاطف مع الإنسان المضطهد والمقهور. ورد هذا النص في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل" عام 1844. ويقول فيه: "إن الشقاء الديني يعبر جزئياً عن الشقاء الواقعي، وجزئياً عن احتجاج عليه. الدين هو تنهيدة الكائن المقهور، روح عالم بلا قلب، ونفس شروط بلا روح. إنه أفيون الشعب."

تحليل التعاطف النقدي

يظهر فهم ماركس للدين باعتباره متنفساً للمضطهدين، حيث وصفه بأنه "تنهيدة المخلوق المضطهد" و"شعور عالم بلا قلب". يسلط هذا الوصف الضوء على المعاناة الحقيقية التي تدفع البشر إلى البحث عن عزاء روحي، مما يعكس تعاطفه مع أولئك الذين يلجؤون إلى هذا المخرج.

اعتبر ماركس الدين أيضاً "احتجاجاً على الشقاء الفعلي"، مما يشير إلى أن الإيمان بمنظوره يمثل رفضاً غير مباشر ولكن مؤثراً للواقع الاجتماعي القاسي والظالم. عندما أشار إلى الدين بوصفه "الأفيون"، لم يكن لانتقاد المؤمن نفسه، بل كان ينتقد المادة المخدرة التي تقدم تسكيناً مؤقتاً للألم، مع التركيز بشكل أكبر على المرض الأساسي، أي الشقاء الاجتماعي والاقتصادي، الذي يجعل اللجوء لهذا التسكين ضرورياً.
لم تكن أهداف ماركس تتعلق بمجرد القضاء على الدين كظاهرة، بل كانت تنصب بالأساس على التخلص من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تُنتج هذه الحاجة إلى "الأفيون الديني". من هنا يظهر تعاطفه الواضح مع الطبقات الكادحة ومعاناتها وتأكيده على ضرورة تغيير الظروف المسببة لهذا الألم.
الهدف الذي سعى ماركس لتحقيقه من خلال "نقد الدين" وإلغائه كـ "أفيون الشعب" هو تحرير الإنسان من الوهم ليتمكن من السعي لتحقيق التحرر الفعلي والعدالة الاجتماعية في الحياة الواقعية.


هدف ماركس: إزالة الوهم للوصول إلى الواقع
يمكن تلخيص رؤية ماركس بناءً على تحليله في "مساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل" في الأفكار التالية:

ماركس لم يعتبر الدين سببًا في شقاء الإنسان، بل رآه نتيجة لهذا الشقاء، وعَرضًا يعبّر عن المعاناة الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية. الدين، كما وصفه، هو "تنهيدة المضطهد"، و"روح لشروط بلا روح".

إلغاء الدين، الذي يُشبهه ماركس بالأفيون، يعني في جوهره كشف المرض الأساسي الكامن خلفه، والمتمثل في الاستغلال والظلم الطبقي. الهدف هو التحول من الاكتفاء بالتنهيدة السماوية إلى مواجهة مظاهر القهر الأرضية.
في رؤيته، كان الهدف الأساسي هو توجيه الطاقة الإنسانية بعيدًا عن التعلق بالعزاء والمكافآت الأخروية، نحو التركيز على المطالبة بالحقوق وتحقيق العدالة في الحياة المعيشية. فالإيمان بالتعويض في الحياة الآخرة بالنسبة لماركس يؤدي إلى حالة من القبول والاستسلام للظلم في الواقع.

كشف الوهم الديني، بحسب ماركس، يجعل الإنسان قادرًا على العودة إلى ذاته وممارسة حريته ووعيه بالسعي لتحقيق "السعادة الحقيقية". ويتم هذا من خلال إزالة الظروف التي تفرض على الإنسان احتياجًا إلى الأوهام الدينية.
نقد الدين لدى ماركس كان جزءًا من مشروع أكبر يهدف لتحقيق التحرر الإنساني الكامل، والذي يرتكز على الإلغاء الجذري لأي شكل من أشكال الظلم. ماركس لم يكن معنِيًّا بمهاجمة الإيمان الديني بحد ذاته، بقدر ما كان مهتمًا بتغيير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع الناس للجوء إلى الدين كوسيلة للهروب من واقعهم .فالتحرر الحقيقي في نظر ماركس يتحقق عندما يعيش الإنسان في عالم عادل، لا يحتاج فيه إلى "الأفيون" لتهدئة آلامه.

مقولة جامعة: "إن نقد السماء يتحول بالتالي إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد الحق، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة."
بمعنى آخر، كان الهدف هو استخدام نقد الدين كجسر للعبور إلى النقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الثوري.