«دمٌ تحت الشمس ودمعٌ تحت القمر» مقارنة بين رواية رجال تحت الشمس لكنفاني ورواية القمر الذي أضاء الخرافات لاحمد صالح سلوم


احمد صالح سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 8530 - 2025 / 11 / 18 - 22:22
المحور: الادب والفن     

مقارنة بين رواية رجال تحت الشمس لكنفاني ورواية القمر الذي أضاء الخرافات لاحمد صالح سلوم

في ظلِّ القمر الزائف

عندما تُشرق الشمس على جثث ثلاثة رجال داخل خزان ماء في صحراء العراق، وعندما يضيء قمر من ورق مدينة تُدعى إمارة الظل، يلتقي كاتبان فلسطينيان في نقطة واحدة من الألم، لكنهما ينفصلان في كل ما عداها. أحدهما ينزف دماً ساخناً، والآخر ينزف ضحكة باردة. أحدهما يريد أن يحرق العالم، والآخر يريد أن يُطفئ حتى آخر شعلة أمل كاذبة في قلوبنا. بينهما نصف قرن من الخيبات، وسبعة وسبعون عاماً من النكبة المستمرة، ومع ذلك يظل السؤال نفسه يتردد: كيف نكتب فلسطين بعد أن صارت أشلاءً في الذاكرة، وأوهاماً في الواقع؟

غسان كنفاني لا يكتب رواية، يكتب شهادة ميلاد لأمة ميتة. كلماته ليست حبراً، بل شظايا قنبلة انفجرت في صدره منذ طفولته في عكا المحتلة. في «رجال في الشمس» لا يوجد بطل، بل ثلاثة أشباح تتنفس داخل حديد محمّى. الشمس هنا ليست رمزاً أدبياً، هي الجلاد الفعلي، الذي يضرب على الحديد حتى يغلي، ثم يضرب على الصدور حتى تنفجر. كنفاني يرفض أن يمنح القارئ أي متنفس، لا ظلاً، لا نسيماً، لا حتى دمعة رخيصة. لأن اللاجئ الفلسطيني لم يُمنح ظلاً منذ العام ثمانية وأربعين، فكيف يُمنح القارئ؟ في النهاية، عندما يُطرق جدار الخزان من الخارج ولا يجيب أحد، يصير الصمت أعلى صرخة في تاريخ الأدب العربي الحديث.

أما أحمد صالح سلوم فيأتي بعد أن صار الصمت نفسه كذبة أخرى. يأتي من منفى بلجيكي نظيف وهادئ، حيث لا تسمع صوت القصف إلا إذا فتحت تطبيق الأخبار. فيأتي بقمر من كرتون، قمر يضيء الخرافات لا الحقيقة. في روايته القصيرة جداً «القمر الذي أضاء الخرافات» لا يوجد بطل اسمه خالد أو مروان أو سعيد، بل شبح اسمه الشيخ أبو نور يقف أمام نافذة مسجده المتداعي ويخاطب قوماً يؤمنون أن السماء ستنزل لهم مائدة من الوهم. سلوم لا يصرخ، لا يبكي، لا يرفع قبضته. يبتسم ابتسامة سوداء طويلة، ثم يطعنك بها في خاصرتك وأنت تضحك معه.

الفرق الأعمق بين الرجلين يكمن في علاقتهما بالزمن. كنفاني يحسب الزمن بالنكبات: ثمانية وأربعين، سبعة وستين، صبرا وشاتيلا، بيروت اثنين وثمانين. كل تاريخ دمه يسيل على الصفحة. أما سلوم فيُلغي التقويم تماماً. لا تواريخ في إمارة الظل، لا سنوات، لا شهور، فقط ليالٍ طويلة متكررة يتوهج فيها القمر الكاذب. كنفاني يريد أن يُذكّر، سلوم يريد أن يُنسِي حتى تدرك فجأة أنك كنت نائماً منذ سبعة وسبعين عاماً، وأن الحلم الذي تعيشه هو الكابوس بعينه.

في لغة كنفاني لا مكان للزينة. الجملة قصيرة، حادة، كالرصاصة. الحوار الداخلي يمزق الصدر من الداخل. لا استعارات مفرطة، لا إيقاع شعري متكلف. اللغة عارية كجثة على قارعة الطريق. أما سلوم فيكتب بلغة مرآة مكسورة، كل شظية تعكس وجهاً مختلفاً من الكذب الجماعي. يستخدم الجناس، السجع، التقطيع الشعري، حتى تشعر أنك تقرأ قصيدة طويلة تتنكر في ثياب رواية. كنفاني يريد أن يُسمع، سلوم يريد أن يُرى وجهك المشوه وأنت تبتسم لكذبتك المفضلة.

رمزية كنفاني واقعية إلى حد التوحش. الشمس شمس حقيقية تقتل، الباب المغلق باب بيت في حيفا، الطفل مروان هو الجيل الثالث الذي سيحمل السلاح أو يموت محاولاً. لا غموض، لا لف ودوران. أما رمزية سلوم فملتوية، ساحرة، خادعة. القمر قمر من ورق، الغبار غبار المخيمات وغبار الذاكرة الممحاة عمداً، الشيخ أبو نور هو أنت وأنا وكل من يردد شعاراً وهو يعرف أنه كذب. كنفاني يضع الرمز في يدك كقنبلة موقوتة، سلوم يضعه في عينيك كغبار لا تراه إلا بعد أن يعميك.

نهاية كنفاني مأساوية صارخة. لا يطرق أحد جدار الخزان، والصمت يفطر القلب. نهاية سلوم ملهاة مُبكية. الشيخ أبو نور يضحك ضحكة طويلة، ثم يبكي، ثم يضحك ثانية، ولا نعرف أين يبدأ البكاء وأين ينتهي الضحك. كنفاني يقتلك بالمأساة، سلوم يقتلك بالضحك. الأول يخرجك ثائراً، الثاني يخرجك مشككاً في كل شيء، حتى في ثورتك، حتى في دمك.

كنفاني كتب لجيل كان يحمل البندقية في يد وكتابه في اليد الأخرى. أراد أن يُشعل النار في الصدور. سلوم. سلوم يكتب لجيل يحمل الهاتف الذكي في يده ويغلق عينيه عن النار التي تأكل غزة على الشاشة نفسها. كنفاني كان يخاطب المقاتل، سلوم يخاطب المتفرج المذنب الذي يعرف أنه مذنب ويضحك لأنه لا يملك سوى الضحك.

منفى كنفاني كان منفى بيروت والكويت وان ومات في انفجار سيارة. منفاه جسدي، لكنه ظل متصلاً بالأرض حتى اللحظة الأخيرة. منفى سلوم منفى بلجيكا، منفى بارد ونظيف وهادئ، منفى يجعلك تشك في أن هناك حرباً على بعد آلاف الكيلومترات. منفاه منفى الروح أكثر من الجسد، منفى الذي يُشعرك أنكثر بأنك حتى لو عدت إلى حيفا فلن تجد حيفا، لأنك فقدت القدرة على رؤيتها، لأن عينيك قد صارتا قمرين من ورق.

كنفاني يكتب ليقول: الأرض ما زالت تُسرق، قوموا.
سلوم يكتب ليقول: عيناك قد سُرقتا منذ زمن، استيقظوا، أو اضحكوا، فلا فرق.

بين الشمس والقمر، بين الغضب والسخرية، بين الذاكرة والنسيان، بين الدم والضحكة، تبقى فلسطين تنزف، وتبقى الكلمة هي الجرح الوحيد الذي لا يندمل، سواء صرخت به الشمس أو همست به القمر الزائف.


ذ.ا