المثقف العربي المأجور واليهودي الحر: قراءة في خطاب الخيانة وشجاعة الضمير!
منذر علي
2025 / 11 / 11 - 07:22
في زمنٍ تهاوت فيه المعايير وتبدّدت البوصلات، لم تعد الخيانة تُمارس في الخفاء، ولا صار التواطؤ بحاجة إلى أقنعة. فالمثقف الذي كان يُنتظر منه أن يكون ضمير الأمة، غدا في غير موضعٍ منها، يبرّر القهر باسم التنوير، ويمجّد القوة باسم الواقعية. لقد تحوّل الانتماء الأخلاقي إلى امتحانٍ عسيرٍ في عالمٍ تذوب فيه الحدود بين الجلاد والضحية، و من يملك السلطة ومن يملك الحقيقة.
لم تعد المسألة بين عربيٍّ ويهودي، بل بين من يناصر العدالة ومن يبرّر القتل. في مفارقةٍ جارحة، نرى إسرائيليًّا حرًّا يبكي على الضحية الفلسطينية، فيمَا يقف عربيٌّ متصهين ليمجّد القاتل ويمسح الدَّم بالحبر. ليست هذه المفارقة عرضًا عابرًا، بل ثمرة لما سمّاه إدوارد سعيد "الهيمنة الخطابية"؛ أي حين تُستعمر اللغة نفسها، فيتحوّل الكلام إلى أداةٍ للغزو، وتصبح الكلمة سلاحًا بيد السلطة. عندها، يفقد المثقف وظيفته النقدية، ويتحوّل إلى "وسيطٍ لُغَوي" في ماكينة القهر، يبرّر القبح باسم الجمال، والاستعمار باسم الحداثة.
أولًا: الإماراتي المتصهين – المثقف كموظّف في ماكينة الهيمنة
في 18 أكتوبر 2024، كتب الكاتب الإماراتي أمجد طه محتفيًا باغتيال الشهيد يحيى السنوار، واصفًا إياه بأنه "الإرهابي خاطف الأطفال ومغتصب النساء".
هكذا تتكلم الدعاية حين تستولي على الوعي: لا نقد سياسي، بل تجريد مطلق للضحية من إنسانيّتها. في مثل هذه اللغة، ينكشف المثقف الذي باع ضميره، وانحاز إلى الجلاد بوصفه "رمز النظام"، لا باعتباره قاتلًا.
بعد أسابيع، زار تل أبيب منبهرًا بـ"جمالها وشواطئها"، واصفًا الإسرائيليين بأنهم "أهل الجود والكرم". هنا يبلغ الانبهار بالجلاد حدَّ الذوبان في صورته، إذ يصفه بالكلمات نفسها التي كان ينبغي أن يصف بها وطنه المغتصب. إنها لحظة سقوط أخلاقي مكتملة الأركان، حين يستبدل المقهورُ حبَّ وطنه بالإعجاب بفاتحه.
في سلسلة من التغريدات بين أكتوبر 2024 وأكتوبر 2025، كتب طه أن "انتصار إسرائيل هو انتصار الشرق الأوسط على التطرف"، وأن "كل رهينة يتم إطلاق سراحها تقرّب العالم من نهاية معاداة السامية"، خاتمًا بعبارةٍ تلخّص منطق الاستلاب: "تأييد المقاومة ليس موقفًا سياسيًا، بل احتضانٌ للإرهاب."
لقد تجاوز الأمر حدود الموقف السياسي إلى الانخراط في خطابٍ دعائي صهيوني صريح، يُعيد إنتاج الأسطورة الاستعمارية القديمة: إسرائيل كرمزٍ للتقدّم، والفلسطيني كرمزٍ للهمجية. وهنا تتجلّى المفارقة التي نبّه إليها إدوارد سعيد حين تحدّث عن "الاستشراق المعكوس" — أي حين يتحول المثقف الشرقي إلى ناطقٍ باسم المستعمِر، مقلّدًا لغته ومبرّراته، من داخل بنيةٍ ثقافية تجهل نفسها وتُمجّد قاهرها.
بلغ هذا التماهي ذروته حين استشهد نتنياهو نفسه بأقوال أمجد طه في الكنيست، في مشهدٍ فاضحٍ يظهر مدى اندماج الخطاب العربي المتصهين في بنية الدعاية الصهيونية. ولعلّ أكثر ما يكشف بنية هذا الوعي المنقلب، أن أمجد طه — ذاته الذي يبرّر قتل الفلسطينيين — هو الداعي أيضًا إلى تقسيم اليمن باسم "دولة الجَنُوب العربي"، منسجمًا مع نزعةٍ واحدة: تمزيق الهويّات لحساب القوة، وتفكيك الوعي خدمةً للمهيمن.
ثانيًا: اليهودي الحر – جدعون ليفي وشهادة المنفيّ في وطنه:
على الطرف الآخر، يقف الصحفي والكاتب الإسرائيلي التقدّمي، جدعون ليفي نموذجًا نادرًا للمثقف الذي يكتب ضدّ قومه، لا خيانة لهم، بل وفاء للضمير الإنساني. هو ما سمّاه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد "المثقف المنفيّ في وطنه"، منفيّ لا لأنّه غادر المكان، بل لأنّه رفض الانتماء إلى الكذبة الكبرى.
في 6 أكتوبر 2025 كتب ليفي في هآرتس:
"كان بإمكان إسرائيل أن تتجنّب هذه الحرب. مفاوضات مباشرة مع حماس أو بادرة حسن نية كانت كفيلة بتغيير مجرى الأمور. لكن إسرائيل، كعادتها، اختارت طريقًا آخر."
ثم يرسم ليفي صورةً للخراب الإنساني في غزة:
"غزة — وحتى حماس — لا تزال واقفة. مُنهكة، فقيرة، لكنها على قدميها. لقد أصبحت غزة هيروشيما جديدة، لكن روحها ما زالت حيّة."
في مقالاتٍ لاحقة، كتب ليفي أن "كل اتفاق تطبيع يجعل الفلسطينيين أشبه بالهنود الحمر الجدد في المنطقة"، وأن "الحرب الأخيرة، على فظاعتها، أعادت الفلسطينيين إلى الوعي العالمي بعدما حاولت السياسة طمسهم".
وفي 23 أكتوبر 2025 كتب ليفي:
"حكومة إسرائيل تفخر بالسادية والإساءة والتعذيب ضد الفلسطينيين."
ثم في 26 أكتوبر نقل ليفي مشهدًا مروّعًا:
"صبيٌّ فلسطيني في التاسعة من عمره وقف قرب الطريق، فجثا جنديٌّ إسرائيلي على ركبتيه وأطلق النار عليه فأرداه قتيلًا."
وفي 2 نوفمبر، كتب ليفي:
"هاجم عشرات المستوطنين فلسطينيين يجنون الزيتون، وضربوا امرأة خمسينية حتى النزيف. قائد الشرطة وعد بالتحقيق، لكن شيئًا لم يحدث. لو كان المعتدي فلسطينيًا لسُجن فورًا، لكن لأنه مستوطن فلن يُمسّ بسوء."
هكذا تتحوّل كتابة ليفي إلى شهادةٍ أخلاقية ضدّ منظومةٍ يعيش في قلبها. إنه لا يكتب من موقع البطولة، بل من موقع الندم الإنساني، مؤمنًا بأن "قول الحقيقة في وجه السلطة هو ذروة المقاومة"، كما قال سعيد. وفي عالمٍ تتواطأ فيه النخب على الكذب، يصبح الصدق فعلًا ثوريًّا.
ثالثًا: المفارقة الأخلاقية الكبرى – حين يبرّر المقهور قاهره:
المفارقة ليست في أن كاتبًا إسرائيليًا يناصر الفلسطينيين، بل في أن كاتبًا عربيًا يبرّر قتلهم. الأول، جدعون ليفي، يمارس نقد الضمير من داخل الجدار، والثاني، أمجد طه، يمارس تمجيد الجدار نفسه باسم "السلام".
هنا يتجلّى ما أشار إليه إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية: الصراع ليس على الأرض فحسب، بل على الحق في السرد — من يملك رواية العالم؟
الكاتب الإسرائيلي الحر يسرد الحقيقة من داخل منظومة الكذب، و الكاتب العربي المطبّع يسرق صوته ليحكي باسم القاهر. بينهما، تتجلى مأساة الوعي العربي الذي لم يُهزم بالسلاح فقط، بل باللغة أيضًا.
خاتمة: حين تُختَطف اللغة، تسقط الأمة
ليس العار في أن يوجد "أمجد طه"، بل في أن يجد جمهورًا يصفّق له، وإعلامًا يمنحه شرعية الحضور. فالخيانة ليست في الجريمة وحدها، بل في الاحتفاء بها. حين يتماهى المثقف مع القاتل، تسقط اللغة في الخيانة، وحين يقف يهودي حر ليقول "العدالة للفلسطينيين"، تستعيد الإنسانية معناها المفقود.
كتب إدوارد سعيد ذات مرة:
"إن الهزيمة الأخطر ليست في خسارة المعركة، بل في أن نروي الحكاية بلسان العدو." وهذا بالضبط ما يفعله الأمجد ومن على شاكلته: يروون القصة كما يريدها المحتل، في حين يردّ ليفي للضحايا صوتهم داخل لغةٍ اغتُصبت منهم.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا على جرحٍ أخلاقيٍّ لا يندمل:
هل صار المثقف العربي ناقلًا للهيمنة، في حين صارت شجاعة الضمير حكرًا على بعض الأحرار من أبناء الجلاد؟
في زمنٍ كهذا، ربما يكون الإسرائيلي الحر أقرب إلى فلسطين من العربي المأجور.