مراحل نشوء وتطور الحزب الشيوعي السوري /4 - 4/
عبدالله تركماني
2025 / 11 / 9 - 22:32
مراحل نشوء وتطور الحزب الشيوعي السوري /4 – 4/
المرحلة الرابعة (2000 – 2023): تابع
(ب) ـ الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (رياض الترك)
ساهم هذا الجناح مساهمة كبيرة في توضيح قضايا المسألة القومية العربية، ليس على صعيد قضية الوحدة العربية والقضية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً على صعيد السياسات الداخلية للأقطار العربية بشكل عام، ولسورية بشكل خاص.
عندما أعلن هذا الجناح عن نفسه، بشكل مستقل عن الحزب الآخر، في المؤتمر الرابع للحزب الذي انعقد في أواخر سنة 1973، حرص على تجنّب توتير علاقته مع السلطة السورية خلال السنوات (1973 - 1976)، ولكنّ تطور الأحداث، وخاصة اتفاقية فك الارتباط على الجبهة السورية - الإسرائيلية في العام 1974، واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 وما رافقها من اختلافات بين السلطة السورية من جهة، والحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة ثانية، دفعت الحزب إلى إعلان انسحابه من " الجبهة الوطنية التقدمية " في كانون الثاني/يناير 1976، وتبنّي خط " التصعيد " ضد سلطة حافظ الأسد.
كما جاء تطور الوضع الداخلي السوري في اتجاه الصدام المباشر بين السلطة والحركة الشعبية عامة، وجماعة " الإخوان المسلمين " خاصة. كل هذه التطورات جعلت التعايش بين الحزب وسلطة الحكم غير ممكنة، مما أدى إلى افتراق الخطين، وبالتالي معاناة الحزب من الملاحقة والاعتقالات وحتى القتل.
فمنذ أواسط سبعينيات القرن الماضي تحدّث الحزب عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في سورية، قبل أن ينتقل، في أواخر السبعينيات، إلى موقف المعارضة المباشرة للسلطة الحاكمة. ومنذ سنة 1976 بدأ التوتر يتصاعد بين الحزب والسلطة الحاكمة، إلى أن وصل إلى القطيعة والصدام المباشر في سنة 1979، لذلك فإنّ كتابات ومواقف الحزب حينئذ بدأت بالتصعيد والنقد اللاذع لسلطة الدولة. إذ أشار الحزب إلى " الأزمات الاقتصادية والسياسية الخانقة، وتردي أحوال الجماهير المعاشية، وضرب ومصادرة الحريات الديمقراطية واضطهاد قوى وأحزاب وطنية وديمقراطية، وزج المناضلين في السجون، وتسليط أجهزة القمع ضد الجماهير، واستفحال ظاهرة الطائفية، وازدياد عزلة النظام عن الجماهير".
كما جرى الحديث، في أوائل العام 1979 بعد انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الذي شكّل قطيعة كاملة مع الفكر التقليدي للحزب في اتجاه تبنّي منظومتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، عن " أنّ ما يميز الأوضاع السورية هو اشتداد وتعمق الأزمة العامة بنواحيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كنتيجة منطقية للنهج الذي سار عليه النظام". وقد طالب الحزب بـ "بناء الحركة الشعبية المستندة إلى وعي اجتماعي متقدم كطريق لإجراء التغيير الجوهري للأوضاع في سورية ". وعدّد المهام التي يجب إنجازها بأنها " إقامة نظام ديمقراطي يخضع لمراقبة الجماهير ولقرارها واختيارها، وتأسيس دستور ديمقراطي تقره هيئات شعبية منتخبة بحرية، دستور يكفل استقلال السلطات بعضها عن البعض الآخر وخضوع السلطة التنفيذية لسلطة تشريعية يتم انتخابها بشكل دوري، كما يضمـــــــن استقلال القضاء، ويكفل المساواة بين المواطنين، ولا يميّز بينهم بسبب العرق أو الدين أو الطائفة أو الانتماء السياسي" .
وفي المؤتمر التداولي الذي عقده الحزب في شباط/فبراير 1980 كان الاهتمام منصبّاً، بالدرجة الأولى، على الأوضاع الداخلية التي " أخذت تتفاقم نتيجة اشتداد أزمة النظام، واتساع حركة المقاومة الجماهيرية، وتصاعد أعمال العنف ... واختلال الركائز الأساسية لمؤسسات النظام التي اعتمد عليها في ترتيب أوضاعه وفي تحركه السياسي ". واعتبر الحزب أنّ الأحداث التي شهدتها سورية في العام 1979 (هجوم إرهابي مسلح على مدرسة المدفعية بحلب ومقتل العديد من طلاب الضباط في تموز/يوليو 1979) " نقطة انعطاف كبيرة في مسار الأزمة القائمة ". وإزاء ذلك رأى الحزب " أنّ الأمر يتطلب الارتقاء إلى مستوى أعلى، فالظروف السياسية الحادة التي تمر بها البلاد، والتقارب في تحليل الأوضاع، والوحدة حول المخارج من أزمات البلاد، قد وضعت مسألة الجبهة الوطنية الديمقراطية كمسألة راهنة، وكوسيلة لتوحيد كافة القوى المعارضة في جبهة عريضة، تتصدى للسلطة وتقود الجماهير الشعبية لدفع التطور اللاحق نحو التغيير الجذري وإقامة النظام الوطني الديمقراطي " .
لقد تناول النقاش بصدد الوضع الداخلي، في المؤتمر، ظاهرة " الإخوان المسلمين "، وفي هذا السياق ذكر الحزب " أنّ ظاهرة الإخوان، من الناحية السياسية، يجب رؤيتها في إطار الظاهرة الدينية التي تنتعش في مناطق معينة من العالم الثالث، كرد فعل على فشل عدد هام من التجارب (التحديثية) التي سادت في هذه المناطق ". وقد توصّل النقاش إلى تحميل النظام " مسؤولية تأجيج الروح الطائفية في البلاد، التي تغذت من سياسة التمييز الطائفي التي اتبعتها السلطة خلال السنوات الماضية ". واستدرك تقرير الحزب عن المؤتمر التداولي " أنّ طائفية النظام لا تُسأل عنها جماهير الطائفة العلوية التي تعاني كغيرها من الجماهير الشعبية المقهورة، والتي تنصبُّ تجاهها كافة أنواع التسلط والقمع والنهب، فالامتيازات التي يمنحها النظام هي على العموم موجهة لخدمة فئات قليلة. لكنّ المنتفعين بهذه الامتيازات يسعون جهدهـــــم لجر الطائفة إلى سياستهم، والدفاع عن مصالحهم، بحجة أنّ الحكم هو حكم الطائفة والمنافع هي منافعها" .
وعلى أثر حملات القمع التي شهدتها بعض المدن السورية نشطت الأحزاب الوطنية المعارضة، إضافة إلى المنظمات المهنية المختلفة، وشهدت سورية ما سمي بـ" ربيع التغيير " خلال شهري شباط/فبراير – آذار/مارس 1980. وفي هذا السياق أُعلن عن قيام " التجمع الوطني الديمقراطي " الذي ضم خمس تشكيلات سياسية سورية، لعب الحزب دوراً أساسياً في تشكيله.
ووزع التجمع بياناً عبّر " عن الحالة السياسية التي تتصف بالصراع الحاد بين جماهير الشعب وبين السلطة القمعية الاستبدادية، فاضحاً سياسة السلطة ومحاولاتها للالتفاف على مطالب الجماهير وقواها الوطنية، وداعماً انتفاضة الشعب من أجل الحرية والديمقراطية والتغيير ... ولعلَّ القيمة الكبرى للبيان لم تكن آتية من أنه شق طريقاً ثالثة (غير طريق السلطة وطريق الإخوان المسلمين) فحسب، وإنما جاء تعبيراً سياسياً عن مضمون وأهداف الانتفاضة التي استمرت حوالي الشهر. بمعنى آخر لم يعبّر البيان فقط عن القوى التي صاغته ووزعته، وإنما أيضاً عن مواقف ومزاج الأغلبية الساحقة من الناس والقوى التي نزلت إلى ساحــة المـعركة" .
ومع تزايد أعمال القمع التي مارستها السلطة من خلال " حصارها للمدن وقمعها للمعارضة واستباحتها للسكان "، توقفت اللجنة المركزية للحزب أمام هذه الأحداث، على ضوء المشاركة النشطة للحزب فيها، واستنتجت أنه " قد طرح نفسه كحزب وطني ديمقراطي متميّز، أخذ يخرج من عزلته التاريخية، ويتحول إلى قوة سياسية تدافع عن مصالح الجماهير، وتعبّر عن مطامحها في التغيير وإقامة النظام الوطني الديمقراطي ".
كما أبدت اعتقادها بـ " أنّ التجمع الوطني الديمقراطي سيشق طريقه، نتيجة التقارب في الرؤية السياسية والاتفاق على الحد الأدنى لمتطلبات الوضع السوري، ونتيجة نشاطه لإقامة العلاقات مع الأوساط الشعبية والديمقراطية والمشاركة في الأحداث. ويمكن أن يتحول إلى مركز من مراكز الاستقطاب السياسي، بل إلى إطار سياسي يضم القوى الديمقراطية والأوساط التي تنتهج الأسلوب الديمقراطي في النضال والتغيير ... لقد دخل التجمع تاريخ الحركة الوطنية الديمقراطية، وهناك كافة الإمكانيات كي يتطور ويندفع كقوة مؤثرة في الحركة الشعبية، وطليعة من طلائع شعبنا التي تتصدى للنظام " .
لقد أبدى الحزب تخوّفه من أن تؤدي توجهات وممارسات السلطة إلى خيار تفكيك المجتمع والكيان في سورية ".
لقد أدت مواقف الحزب هذه إلى اعتقال عدد كبير من إطاراته وأعضائه، بما فيهم أمينه الأول رياض الترك، في تشرين الأول/أكتوبر 1980. وبالرغم من انكفاء التحرك الديمقراطي بعد حملة الاعتقالات " أضحى القمع سمة جوهرية في تكوين النظام، ولم يعد خياراً من بين الخيارات المطروحة لتجاوز أزماته، إنه خيار عضوي ونهائي يترادف مع المحاولات الحقيقية لإخفاء الهياكل السياسية الرثة التي كان يعمل في إطارها، وتشجيع الانحطاط السياسي الذي يتبع أحزاب جبهته والفئات المرشحة للحاق بها، وربط الجميع بحبل القمع والانتهاز والعهر السياسي :
(أ) ـ استمرار مظاهر القمع والإرهاب، من خلال القمع الجماعي وزرع الرعب والإرهاب في بعض المدن فأي حادث عنف، ولو كان صغيراً، في مدينة أو منطقة، كفيل بمحاصرتها أو قسم منها، حيث يتحول المواطنون فجأة إلى رهائن في سجن كبير، مع كل الاحتمالات من إذلال مهين للكرامة الشخصية، حتى الاعتقال والتعذيب، بما في ذلك التصفية الجسدية الجماعية ...
(ب) ـ استمرار عسكرة المجتمع، من خلال تنظيم وتدريب الفتيان والفتيات وتعبئتهم وشحنهم بروح الحقد والتمايز عن الشعب وضده، وترسيخ التمايز السياسي والطائفي والعشائري، فهو لم يتوانَ عن دفع العشائر بعضها ضد البعض في المنطقة الشمالية الشرقية (الجزيرة)، وتسهيل امتلاك السلاح واستعماله.
وفي سياق آخر تحدث الحزب عن " شرعنة الاستبداد " من خلال " ضبط الحركة السياسية في أطر معينة مرسومة مسبقاً، بما يوجه النشاط السياسي للأحزاب الأخرى في تيار موازٍ لتيار حزب النظام (الجبهة الوطنية التقدمية). وضبط الحركة النقابية، العمالية والفلاحية والمهنية، بتقوية إشراف الأجهزة عليها، وإسباغ مظهر عسكريّ أمني على بنيتها العامة.
وعلى الصعيد الدولي، تميز موقف الحزب بالاستقلالية عن التنظيرات السوفياتية، وقد تجسّد ذلك في انتقاده الاحتلال الفيتنامي لكمبوديا والغزو الصيني لأراضي فيتنام، وكذلك التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان.
لقد تميزت كتابات ومواقف الحزب بمحدوديتها – نسبياً - بعد الاعتقالات الواسعة، ولكن بتركيزها على الوضع الداخلي السوري. إذ تابع الحزب، خلال هذه الفترة، انتقاداته للسلطة السورية، وكذلك تحليلاته للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، فبعد أن نجحت السلطة في توجيه ضربات قوية للقوى السياسية المعارضة، وصف الحزب النظام الحاكم بأنه " دخل طوره الفاشي منذ سنة 1979، والذي توّجَهُ في شباط/فبراير 1982 بتدمير مدينة حماه والفتك بأكثر من عشرين ألفاً من مواطنيها، وتشريد عشرات الآلاف منهم " .
وفي أوائل العام 1990 وبعدما بدأت أنظمة الحكم " الاشتراكية " تتساقط تباعاً في أوروبا الشرقية، تحدث الحزب عن " رياح التغيير والانبعاث الوطني الديمقراطي "، حيث أسقطت " البيروسترويكا " الغطاء السوفياتي عن أنظمة قمع شمولية تدثرت بـ " التقدم والاشتراكية ". وفيما يتعلق بانعكاسات ذلك على المنطقة العربية، كتــــــــب الحزب " إنّ المنطقة لن تكون بمنأى عن هذه الرياح، فالتغيّرات الهامة، الخجولة حتى الآن، الجارية على صعيد الأوضاع الداخلية في العديد من الأقطار العربية في مغرب الوطن العربي ومشرقه، التي تحاول إعادة بناء هذه الأوضاع على أساس الاقتراب من الديمقراطية وإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية، وشملت من بين ما شملته الإفراج عن أعداد كبيرة من المعتقلين السياسيين والتوجه نحو التعددية السياسية، هي مقدمة عملية لاستباق هذه الرياح واستجابة محدودة للتحدي الذي تفرضه هذه الأوضاع ...
وقد يكون النظام السوري، لا يزال هو الأكثر ابتعاداً عن تلك المتغيّرات، والأحرص على اجتناب ملامستها، والأشد تزمتاً وانغلاقاً على ذاته! بيد أنّ الأزمة العامة والشاملة التي يزداد تفاقمها في جوانبها المختلفة، والاحتقان المتزايد الذي يشهده الوضع السوري، والتطلعات الشعبية نحو التغيير والحرية والتوق إلى الانعتاق من الاستبداد ومن أجهزته القمعية ... سيكون من العسير على البلاد معها، إذا لم نقل من المستحيل، الاستمرار في الابتعاد عن المد الديمقراطي الذي يشهده الوضع الدولي والانزياح العظيم الذي يجري في العالم باتجاه الديمقراطية " .
وفي سياق الاستعدادات لانتخابات " مجلس الشعب " في العام 1990، ذكر الحزب أنّ العملية الانتخابية " لا تفلت من سيطرة أجهزة النظام التي تمسك بها بشكل شبه مطلق، ابتداء من القانون الانتخابي المفصّل على قياس توجهاتها.. بعيداً عن ممارسة أي دور رقابي جدي على السلطة التنفيذية، وعن أي دور تشريعي حقيقي...
إنّ المواطن الذي جرّدته السلطة من حقوقه الأساسية وشيّأته في ظل سريان حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وفي ظل ممارسات لا تدخل في قاموس العلاقة بين المواطن والدولة، كائناً ما كان المنظور إلى هذه الدولة أو الطبقة المهيمنة داخلها.. هذا المواطن يشعر بالسخرية والنفور حين يناشَد كي يمارس حقـــــــه الانتخـابي ... " .
لقد تميزت هذه الفترة بتصعيد خطاب الحزب و" التجمع الوطني الديمقراطي " حول المطلب الديمقراطي: دولة الحق والقانون، والتعددية الفكرية والسياسية، والدعوة إلى الانفراج السياسي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والدعوة إلى الانفتاح الديمقراطي، وتحديث الدولة ودمقرطة السياسة والمجتمع ....
وهكذا، فإنّ الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي واصل تطوير الخطّ المعارض الذي بدأه في المؤتمرين الرابع والخامس، فأصبح الحزب الأبرز في صفوف المعارضة الديمقراطية، ومع الانفراجة النسبية التي شهدتها سورية، في أواخر تسعينيات القرن الماضي وما رافقها من إطلاق سراح المعتقلين، ومن ثمَّ توريث السلطة لبشار الأسد في عام 2000، وحراك المثقفين السوريين والقوى الديمقراطية المعارضة خلال " ربيع دمشق "، عقد الحزب مؤتمره السادس في عام 2005 واختار اسماً جديداً هو " حزب الشعب الديمقراطي السوري "، وأصدر صحيفة " الرأي ". وفي العام نفسه عمل على تشكيل تحالف ديمقراطي عريض " إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي "، الذي عقد مؤتمره الوطني الأول في دمشق بحضور 167 عضواً من المثقفين والأحزاب المعارضة.
ومما كتبه الحزب حول المجلس " لم يكن المجلس الوطني لإعلان دمشق الذي عقد في مطلع كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي لحظة سياسية عابرة في تاريخ سورية. فمنذ أوائل الخمسينيات لم تشهد مثل هذا الحدث السياسي، ومثل هذا الاجتماع الموسع لقوى معارضة تنشد تغيير الاستبداد والدكتاتورية باتجاه الديموقراطية وتكريس الحريات السياسية والمدنية. وتاريخية هذه اللحظة تكمن في أن أطيافاً أوسع، وتنوعاتٍ أكثر من النسيج الشعبي السوري، تشمل أحزاباً سياسية مختلفة وهيئاتٍ من المجتمع المدني وشخصياتٍ ديموقراطية وطنية، قد حزمت أمرها على بناء هيكلها التنظيمي ومؤسساتها، والاتفاق على أهدافها المرحلية المشتركة من أجل التغيير الديموقراطي.
إنّ تبنّي الطابع السلمي في استراتيجية التغيير ونبذ ممارسة العنف، في ظل نظام شمولي استبدادي يملك آلة قمعٍ ضخمة، ينطلق من رؤية عقلانية لموازين القوى... إننا في حزب الشعب الديموقراطي، لسنا ليبراليين بمعنى الانتماء السياسي، ولكننا لا نخجل من تثمين الدور التاريخي الحداثي والتنويري والتقدمي لليبرالية. ولقد أقمنا صلحاً تاريخياً في مؤتمرنا السادس بين الديموقراطية والاشتراكية " .
لقد شكل محتوى البيان الختامي للمجلس إحراجاً كبيراً للسلطة، وخاصة حين ربط بين الديموقراطي والوطني والقومي والاجتماعي، وحين أكد على أهمية الدور المركزي للداخل في التغيير، ورفض كل تدخل عسكري خارجي من أجل هذه الغاية. فما كان من الأجهزة الأمنية للسلطة إلا أن قامت بحملة اعتقالات لأغلب أعضاء قيادة المجلس، بما فيها رئيسة المجلس الدكتورة فداء حوراني.
وعندما انطلق الحراك الشعبي السوري في آذار/مارس 2011، وضع الحزب كل أعضائه في حالة استنفار لدعم الحراك، من خلال الانخراط في التنسيقيات التي انتشرت في كل المحافظات السورية. وفي سنة 2014 عانى الحزب من أزمة داخلية، كان عنوانها هيمنة الأمانة العامة للحزب على الحياة الداخلية، بما فيها مبادرات أعضاء الحزب في كيفيات المساهمة في الثورة، مما أدى إلى تجميد عدد من الأعضاء الناشطين في الحزب، بما فيهم ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية، مما أدى إلى تدخل " هيئة الرقابة الحزبية " المنتخبة في المؤتمر السادس، التي طلبت من اللجنة المركزية للحزب " التراجع عن قراراتها المجحفة بحق الرفاق المجمدين "، حيث لم يتم الاستجابة لنداء الهيئة، مما أدى إلى انقسام داخل الحزب، فتشكلت " الهيئة القيادية المؤقتة " مقابل " اللجنة المركزية ". وثمة محاولات من الغيورين على وحدة الحزب ودوره الوطني للعمل المشترك من أجل مؤتمر سابع موحد، وربما يساعد التغير في 8 كانون الأول/ديسمبر، والموقف المتقارب من قيادته الذي يتسم بالوسطية، على عودة الوحدة للحزب.
(ج) ـ الحزب الشيوعي السوري الموحد (يوسف فيصل)
عقدت هذه الجماعة مؤتمرها السادس في الفترة ما بين 29 - 31 كانون الثاني/يناير 1987، وبذلك تكرّس وجود حزب شيوعي ثالث في سورية، استطاع أن يجذب إليه مجموعتين صغيرتين بقيادة يوسف نمر الذي انشق عن جماعة رياض الترك ومراد يوسف الذي انشق عن جماعة بكداش، فيما عدا حزب العمل الشيوعي الذي تشكّل من مجموعات ماركسية تكوّنت خارج الحزب الشيوعي السوري. وقد اعتبر الحزب أنّ ثمة قضيتين أساسيتين تشكلان محور الوضع الداخلي في سورية، في العام 1991، هما: استئناف عملية التنمية، وتوسيع الديمقراطية وتطويرها. وأكد على ضرورة إصلاح قطاع الدولة، وتشجيع الرأسمال الخاص الوطني للمساهمة في عملية التنمية.
واتخذ لنفسه خطاً وسطاً لا يغضب السلطة من جهة، ولا يعزله شعبياً من جهة ثانية، في محاولة منه لفصل السياسة عن الاقتصاد، ومن أمثلة ذلك أنه كثيراً ما تناولت تقاريره سوء الوضع الاقتصادي " الصراع الاجتماعي في الداخل يحتدم أكثر فأكثر بين نهجين: النهج الذي يريد المحافظة على سورية قوية ذات بنية اقتصادية إنتاجية، ومستقلة، وتعددية تسمح بتفتح كل الطاقات الاقتصادية الذاتية وتطوّرها بقيادة الدولة والقطاع العام، وترفع من خلاله الأعباء الثقيلة عن كاهل الجماهير الشعبية الكادحة وتسمح بتوزيع عادل للثروة. والمدخل إلى هذا النهج هو إصلاح القطاع العام، وتشجيع القطاع الخاص المنتج، ومحاربة الفساد والبيروقراطية، مترافق مع إصلاح سياسي تدريجي ومتوازن. وبين نهج آخر قوامه المجموعات المالية والاقتصادية الريعية والطفيلية التي بدأت تأخذ أبعادها وتمتد أظافرها إلى شرايين الدولة وعلى مستويات مختلفة، وهو نهج لا يعبأ بمدى قدرة سورية على ممارسة مهامها الوطنية والقومية إن لم نقل إن هذه المجموعات تعمل بالضد من ذلك " .
وفي الوقت نفسه الاحتجاج على اعتقال بعض أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق، ولكن على لسان هيئة تحرير صحيفته " النور " وليس على لسان قيادته السياسية " في الوقت الذي انتظرنا فيه الإفراج عن معتقلي الرأي ومنهم د. عارف دليلة وميشيل كيلو، فوجئنا بتوقيف عدد جديد من بينهم د. فداء الحوراني، وأخيراً الصحفي الزميل فايز سارة، على خلفية مشاركتهم في اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق. وقد أبدينا رأينا، كما هو معروف، في مضمون إعلان دمشق واختلافنا مع العديد من أطروحاته، إلا أننا في هيئة تحرير النور نعبّر من موقعنا الوطني والإعلامي عن عدم موافقتنا على الطريقة التي جرى بها التعامل مع هذه القضية، وندعو للإفراج عن المعتقلين، لأن ذلك يخدم مصلحة وطننا، ويتجاوب مع تطلعنا لتعايش الآراء وتوسيع الحوار وإغنائه، وحماية أصحاب الرأي الناقد أو المختلف تحت سقف الوطن. وهي تطلعات تنسجم مع دستور بلادنا وميثاق جبهتنا الوطنية التقدمية " .
وفي سياق أغلب مواقفه كان وسطياً، بحيث لا يفقد امتيازاته من السلطة. إذ كان يؤكد أنّ التعددية السياسية قائمة في سورية من خلال " الجبهة الوطنية التقدمية "، وقد ظهرت وسطية الحزب أثناء الحراك الشعبي السوري، إذ من جهة أشار إلى أحقية مطالب الشعب في الحرية والكرامة، وفي الوقت نفسه اعتبر أنّ الحراك بفعل تدخل قوى خارجية.