من القوة إلى المدين الأكبر....مآلات الرأسمالية المالية وأسطورة السيادة الاقتصادية
ادم عربي
2025 / 11 / 9 - 20:48
بقلم : د . ادم عربي
مع تزايد قوة وهيمنة رأس المال المصرفي في الولايات المتحدة، أخذت ظاهرة "العيش بالدَّيْن" تتغلغل في بنية المجتمع حتى أصبحت سمة أساسية من سماته الاقتصادية. فلم يَعُد في مقدور الشركات أنْ تمول نفسها من أرباحها أو مدخراتها، كما لم يَعُد الأفراد قادرين على تلبية احتياجاتهم دون اللجوء إلى القروض وبطاقات الائتمان. تحول الاقتراض من وسيلة استثنائية إلى أسلوب حياة مفروض، وبات المجتمع بأسره يعيش ضمن دائرة مغلقة من الالتزامات المالية التي لا فكاك منها. وهكذا أوجد رأس المال المالي نظاما جديدا من العبودية، عبودية الدَّيْن، التي جعلت الإنسان الحديث أسيرا للبنوك كما كان العبد القديم أسيرا لسيده. ولم يكن مصير هذه العبودية إلا أن تنتهي إلى نتيجتها المنطقية والحتمية وهي العجز الجماعي عن السداد، أي انهيار قدرة المدينين أفرادا ومؤسسات على الوفاء بديونهم، وهو ما يكشف في النهاية الوجه الحقيقي للرأسمال المالي بوصفه أداة للهيمنة والاستعباد لا وسيلةً للتنمية بالمفهوم الاقتصادي .
لقد بلغت الولايات المتحدة، التي أدمنت على الاستدانة من الداخل والخارج وجعلت من الاقتراض عادة اقتصادية مزمنة، مرحلةً غير مسبوقة في تاريخها المالي. فالدولة التي طالما قدمت نفسها نموذجا للرأسمالية المنتصرة، باتت تعتمد بصورة متزايدة على بيع سندات الخزانة لتمويل نفقاتها الجارية وسد عجوزاتها المتراكمة، حتى غدت أكبر مقترض في العالم. وقد سجلت الموازنة الفيدرالية الأمريكية عجزا هو الأضخم في تاريخ البلاد بأسره، متجاوزةً كل الأرقام التي عرفتها في الحروب أو الأزمات الكبرى. وبذلك يمكن القول إنّ "الدَّيْن العام" الأمريكي لم يعد مجرد ظاهرة عابرة في دورة الاقتصاد الرأسمالي، بل تحول إلى سمة بنيوية من سمات النظام الأنجلو ـ سكسوني نفسه، وإلى الدليل الأوضح على المأزق التاريخي الذي وصلت إليه الرأسمالية في قلب معقلها الأبرز.
إنَّ الولايات المتحدة تُعد اليوم المدين الأكبر والأخطر في تاريخ البشرية الاقتصادي، فهي الدولة التي لا تشبع من الاقتراض، كلما فُتح لها باب قروض جديد، طالبت بالمزيد، وكأنها تعيش على دوران دائم داخل حلقة الدَّيْن. وكلما تضخمت مديونيتها، ازداد عجزها عن سدادها، إذ إنّ مواردها الفعلية وفي مقدمتها الضرائب لا تكفي إلا لتغطية جزءٍ ضئيل ومتقلص من هذا الجبل المتراكم من الديون. إنّها حالةٌ فريدة من التناقض البنيوي ، دولةٌ تملك أكبر اقتصاد في العالم، لكنها في الوقت ذاته أعظم مدين فيه، تمول استمرار وجودها عبر الاستدانة المستمرة، وتغذّي عجزها المالي بمزيد من القروض التي لا تؤدي إلا إلى توسيع الفجوة بين قدرتها على الجباية وبين التزاماتها المتزايدة بلا سقف. وهكذا تغدو الولايات المتحدة المثال الأوضح على اقتصاد يعيش على الائتمان، ويتنفّس بالدَّيْن، ويراكم عجزه كما لو كان مصدر قوته.
لقد دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء كانت جمهورية أم ديمقراطية، على انتهاج سياسة مالية واحدة في جوهرها، قوامها اللجوء الدائم إلى الاستدانة، من الداخل تارةً ومن الخارج تارةً أخرى، لتغطية العجز المزمن والمتنامي في الموازنة الفيدرالية. فبدلا من أن يكون الاقتراض استثناء تلجأ إليه الدولة في حالات الطوارئ أو الأزمات الكبرى، أصبح قاعدةً ثابتة من قواعد إدارتها المالية. ويعود السبب الجوهري في ذلك إلى أن حجم الإنفاق الحكومي وخاصة في المجالات العسكرية وبرامج التسلّح يفوق دائما وبشكل كبير ما تستطيع الدولة تحصيله من ضرائب على مواطنيها وشركاتها التي ما عادت تستثمر الا بالرأسمال المالي . وهكذا تحوّل العجز المالي إلى سمة دائمة من سمات الاقتصاد الأمريكي، يغذّيه سباق التسلّح الهائل الذي لا تهدأ ناره، وتنفق عليه الدولة أموالا تفوق قدراتها الحقيقية، حتى غدت الولايات المتحدة تمول قوتها العسكرية لا من ثروتها الفعلية، بل من ديون تتراكم على حساب الأجيال القادمة.
وكانت الوسيلة المألوفة التي تلجأ إليها الحكومات الأمريكية المتعاقبة لسد هذا العجز المزمن في الموازنة أشبه بلعبة مالية مدروسة بعناية، قاعدتها الأساسية الطلب من مجلس الاحتياط الفيدرالي أي البنك المركزي الأمريكي رفعَ سعر الفائدة على الدولار. فكلما ارتفعت الفائدة، ازداد جاذبية الدولار في الأسواق العالمية، إذ يجد المستثمرون، في الداخل والخارج على السواء، في هذا الارتفاع فرصة لتحقيق أرباح أعلى، فيُسارعون إلى تحويل مدخراتهم من العملات الأخرى إلى الدولار، ثم إيداعها في البنوك الأمريكية. وهكذا يتدفّق رأس المال العالمي نحو الولايات المتحدة، لا استثمارا في الإنتاج الحقيقي أو في تطوير البنية الاقتصادية، بل بحثا عن فائدة مالية آمنة وسريعة. وبذلك تنجح الحكومة مؤقتا في تمويل عجوزاتها من خلال هذا التدفق النقدي الهائل، لكنها في الوقت ذاته تُعمّق اعتمادها على رأس المال المالي الأجنبي، وتربط استقرار اقتصادها الداخلي بتقلّبات السوق العالمية وثقة المستثمرين بالدولار.
إنّ ازدياد الطلب، سواء من الداخل أو من الخارج، على الورقة الخضراء كان يؤدي حتما إلى رفع قيمته في أسواق الصرف العالمية مقارنةً ببقية العملات القوية. ومع كل ارتفاع في سعر صرف الدولار، كانت تظهر النتائج السلبية على الاقتصاد الأمريكي الحقيقي، إذ تفقد الصادرات الأمريكية قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية بسبب ارتفاع أسعارها النسبي، فتصبح السلع الأمريكية أغلى من نظيراتها المنتَجة في بلدان أخرى. وبهذا تتراجع مبيعات الولايات المتحدة في الخارج، ويتفاقم العجز في ميزانها التجاري عاما بعد عام. وفي المقابل، كانت القوى الاقتصادية المنافسة، وعلى رأسها الصين، تجني المكاسب الكبرى من هذا الوضع، إذ تستفيد من ارتفاع الدولار لتوسيع حصتها داخل السوق الأمريكية نفسها، حيث تُغرقها بالبضائع الأرخص ثمنا والأكثر جاذبية للمستهلك الأمريكي. وهكذا يؤدي كل ارتفاع جديد في قيمة الدولار إلى مفارقة لافتة وهي ازدهار مالي ظاهري في الداخل يقابله ضعف في الإنتاج الصناعي الحقيقي واتساع في العجز التجاري لمصلحة الخصوم الاقتصاديين الذين يزاحمون الولايات المتحدة في عقر دارها ، وما يفعله ترمب من قضية الرسوم الجمركية إلا جنون اقتصادي وليس حلاً.
غير أنّ هذا الجانب السلبي المتمثل في تضرر الصادرات الأمريكية وتفاقم العجز في ميزانها التجاري أمام القوى الاقتصادية المنافسة لم يكن سوى الوجه الآخر لما تعتبره الإدارة الأمريكية فائدة كبرى. فارتفاع قيمة الدولار، رغم ما يسببه من خسائر تجارية، كان يشكل في الوقت ذاته شرطا ضروريا لتحقيق مكسب مالي ضخم، يتمثل في تدفّق الودائع الدولارية إلى المصارف الأمريكية من مختلف أنحاء العالم. فكلما ازدادت جاذبية الدولار وارتفعت معدلات الفائدة عليه، تدفقت إليه رؤوس الأموال الأجنبية بحثا عن الأمان والعائد المرتفع، لتستقر في البنوك الأمريكية. وبهذه الطريقة، كانت الحكومة تجد نفسها قادرة على تمويل عجوزاتها المزمنة عبر الاقتراض من هذا الفائض المالي المتكدس لديها، دون الحاجة إلى فرض ضرائب إضافية أو تقليص إنفاقها العام. وهكذا تحول ما يبدو في ظاهره ضررا اقتصاديا إلى أداةٍ مالية فعالة في خدمة الدولة، تُبقي آلة الاقتراض دائرة بلا توقف، وتُغذّي استمرار النمو الوهمي الذي يقوم على المال المُستدان لا على الإنتاج الحقيقي.
إنَّ هذه اللعبة المالية لم تكن لتكتمل دون الحلقة الأهم فيها وهي إصدار سندات الخزينة. فبموجب تفويض يمنحه الكونغرس، تتولى الحكومة ممثلة بوزارة الخزانة مسؤولية إصدار تلك السندات، التي تُعد في جوهرها وثائق دين تتعهد الدولة بموجبها بسداد قيمتها لحامليها في آجال محددة مع فائدة مضمونة. وبعد إصدارها، تقوم الحكومة ببيع هذه السندات إلى مجلس الاحتياط الفيدرالي، أي البنك المركزي، مقابل مبالغ نقدية يضخها الأخير في خزينتها. وهكذا تحصل الدولة على السيولة التي تحتاجها لتغطية العجز المتزايد في الموازنة، بينما تتحول السندات إلى أصول مالية في حوزة البنك المركزي.
لكن البنك المركزي لا يحتفظ بهذه السندات لنفسه، بل يتعامل معها كما يتعامل التجار مع البضائع في السوق. فهو يبيعها ويشتريها في أسواق المال وفقا للسياسات النقدية التي يريد تنفيذها ، فإذا أراد تقليص حجم السيولة في الاقتصاد، باع جزءا من هذه السندات، فيسحب النقود من السوق؛ وإذا أراد زيادتها، اشترى جزءا منها، فيضخ مزيدا من الأموال في الدورة الاقتصادية.
غير أنّ النتيجة النهائية لهذه اللعبة المعقدة هي واحدة وهي ازدياد تورط الدولة والمجتمع معا في مستنقع الديون. فكلما توسع الدين الحكومي لتغطية العجز المزمن والمتنامي، ازدادت الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب، ومع كل ارتفاع في الأعباء الضريبية يزداد اعتماد المواطنين أنفسهم على القروض لتغطية احتياجاتهم اليومية. وهكذا تتكرس حلقة مفرغة تُغذّي فيها الدولة عجزها من جيوب مواطنيها، ويغذّي المواطن عجزه الشخصي من ديونه الخاصة، لتصبح الأمة بأسرها أسيرةً لآلية ديْن لا تعرف نهاية.
بإمكان الولايات المتحدة أينما شعرت بأن مكانتها الاقتصادية العالمية أو أمنها الاقتصادي مُعرض للخطر بصورة جدية أن تستخدم أدواتها المالية كـقنابل نووية اقتصادية ، لقدرتها على إشعال أزمات مالية استراتيجية، مثل أزمة تراجع حاد في قيمة الدولار أو أزمة عجزٍ عن سداد ديونٍ هائلة، لتتحول تلك الأزمات إلى صدمات موجعة للاقتصاد العالمي.
تلك القنابل تُطلق عبر سياسات وقرارات تُغير توازنات السيولة والثقة في الأسواق على شكل تقلبات كبيرة في سعر الصرف، انهيارات في أسواق الائتمان، أو موجات افتراضاتٍ متسلسلة عن عدم قدرة حاملي الديون على التسديد. وعندما تضرب هذه الصدمات، فإنها لا تُؤذي الاقتصاد الأمريكي وحده فقط، بل توسع رقعة الضرر لتصل أولاً إلى اقتصادات المنافسين الكبار ، بل وتجعـل نظما مالية وسيولة في بلدان أخرى عرضة للانهيار أو التذبذب الحاد.
النتيجة النهائية لهذه الاستراتيجية تكون مروعة ، فهي اختلالات كبيرة في التجارة والتمويل الدولي، وتصفية استثمارات، ونزوح رؤوس أموال حاد، وربما إفلاسات تتنقل أثرها كعدوى بين أسواق الدول المختلفة. هكذا تُظهر القوة الاقتصادية الأمريكية أنَّ لديها، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة، قدرةً عملية على تحويل أدواتها المالية إلى سلاح استراتيجي يَصيب الاقتصاد العالمي وبالأخص اقتصادات منافسيها بجراحٍ بالغة.