انتصار الإنسان في قلب الرأسمالية: قراءة في تجرِبة زهران ممداني!


منذر علي
2025 / 11 / 6 - 21:59     

شهدت نيويورك، مساء أمسِ، حدثًا سياسيًا لافتًا تجاوز حدود المدينة إلى رمزيته الكونية: فوز زهران ممداني، الاشتراكيّ المسلم، بمنصب عمدة المدينة التي تحتضن أكثر من ثمانية ملايين إنسان. وقد جاء هذا الفوز رُغم حملة معارضة صاخبة شنّها دونالد ترامب ودوائر الضغط الصهيونية، غير أن إرادة الفكرة غلبت ضجيج السلطة والمال.

لم ينتصر ممداني لعرقٍ أو طائفة، ولم يأتِ فوزه بدعم من أية جهة خارجية، عربية كانت أو إسلامية أو إفريقية أو آسيوية. انتصاره كان ثمرة وعي فكريّ عميق، ومبدئية راسخة، وتواضع إنساني نادر، وشجاعة أخلاقية متوقدة، وشخصية تمتلك من الكاريزما ما يجعلها تجذب المختلفين قبل المتشابهين. كما جاء فوزه بدعمٍ صادق من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، ممثلًا ببرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، وبتأييد شعبي واسع من الطبقات العاملة والوسطى التي رأت فيه صدىً لهمومها اليومية وأحلامها المؤجلة.

لم يكن دخول ممداني عالم السياسة بحثًا عن شهرةٍ عابرة أو مكسبٍ شخصي، بل انبثق من قناعةٍ جوهرية بأن السياسة يمكن أن تكون فعلًا أخلاقيًا، وتجسيدًا للمبادئ الإنسانية في العدالة والحرية والتقدّم. وتاريخ أسرته، الممتد في نضالها ضد التمييز العنصري في جَنُوب أفريقيا، يضفي على تجربته صدقيةً أخلاقيةً قلّ نظيرها في عالم السياسة المعاصر.

إن انتصار زهران ممداني داخل المجتمع الأمريكي، الذي أتاح في وقتٍ سابق صعودَ رئيسٍ ذي نزعاتٍ عنصرية وفاشية كدونالد ترامب، يختزن مفارقة عميقة: فالأول — ترامب — انتصر بقوة المال والدعاية، بينما الثاني — ممداني — انتصر بقوة المبدأ والفكرة. ومن هنا، يغدو فوز ممداني ليس مجرد نجاح انتخابي، بل علامة على إمكان انبعاث السياسة الأخلاقية في زمنٍ يهيمن عليه التسليع والابتذال.

إنّ هذا الانتصار في قلب النظام الرأسمالي يبرهن على أن الاشتراكية — حين تتحرّر من جمودها العقائدي وتتعانق مع الواقع الحيّ — ما تزال قادرة على الإلهام والتجديد. كما يكشف فوز ممداني، بوصفه مسلمًا، عن إمكانية استعادة الإسلام في صورته الفكرية المستنيرة، تلك التي جسّدها ابن رشد ومالك بن نبي وعلي عزت بيغوفيتش، إسلامًا عقلانيًا إنسانيًا يرى في العدالة الاجتماعية جوهر الإيمان لا هامشه. فالاشتراكية تعبّر عن الوعي العلمي بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، بينما يجسّد الإسلام الوعي الروحي بالقيمة والمعنى؛ وقد نجح ممداني في الجمع بين هذين البعدين في مشروع إنساني متكامل، دون صدامٍ أو تناقض.

لقد استطاع بوعيٍ نقديٍّ نافذ أن يمزج بين العلم والإيمان، بين الواقعية والروحانية، دون أن يقع في فخّ المزايدة الأيديولوجية أو إنكار العقل. وتمكّن من استقطاب شرائح واسعة من سكان نيويورك على اختلاف أعراقهم وأديانهم: البيض والسود والآسيويين، المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين. أعلن رفضه لكل أشكال العداء — ضد السامية أو الإسلام — وواجه العنصرية والرأسمالية المتوحشة بشجاعة فكرية وأخلاقية نادرة.

ولعل أبرز مواقفه ما اتخذه من إدانةٍ صريحة للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، إذ لم يخشَ أن يجهر بالحقيقة في وجه منظومة سياسية وإعلامية تتواطأ بالصمت أو التبرير. ومن موقعه كاشتراكيّ معاصر، قدّم ممداني حلولًا واقعية وعملية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بحياة سكان نيويورك، مؤكدًا أن السياسة تبدأ من الناس وتنتهي إليهم.

ويبقى السؤال الأهم: ما الذي يمكن للعرب، واليمنيون منهم خصوصًا، أن يتعلموه من تجرِبة زهران ممداني؟

الجواب، ربما، يكمن في إعادة اكتشاف المعنى الأخلاقي للسياسة، والانفتاح على الفكر الاشتراكي في جوهره الإنساني، والتمسك بالقيم الدينية المتناغمة مع الحرية والعدالة والوحدة والتقدّم. السياسة، كما يعلّمنا ممداني، ليست وسيلة للارتزاق أو التسلّق أو تمزيق الأوطان، بل التزامٌ فكريّ وأخلاقيّ بخدمة الإنسان.

إن انتصار زهران ممداني، بهذا المعنى، لا يمثل فوزًا انتخابيًا فحسب، بل لحظة رمزية يتصالح فيها الشرق والغرب، والإسلام والاشتراكية، والعقل والروح، في مشروع إنساني يعيد للسياسة معناها المفقود ويذكّرنا بأن المستقبل لا يُصنع بالمال، بل بالمبدأ.