العراق بين الفدرالية المشوهة والكونفدرالية الممكنة (امتداد للجزء الأول: في معنى الوطن والدولة)
ليث الجادر
2025 / 11 / 5 - 18:53
إذا كانت الدولة في معناها الحديث ليست سوى الشكل التنظيمي الذي يحتضن الإرادة الوطنية، فإنّ الدولة العراقية لم تكن في يومٍ من الأيام تعبيرًا صادقًا عن وطنٍ جامع، بل هي ـ كما أسلفنا ـ كيان وُلد من رحم الترتيبات البريطانية في لحظةٍ كانت فيها الجغرافيا أهم من الجذور. العراق، بهذا المعنى، لم يكن وطنًا جامعًا بل مَحبسًا لوطنين: كردستان من جهة، ووادي الرافدين من جهة أخرى؛ وبهذا يصبح السؤال عن مستقبل الدولة العراقية سؤالًا عن طبيعة العلاقة بين هذين الوطنين داخل كيانٍ واحد لم يعد يملك مقومات الديمومة إلّا بوصفه عقدًا إداريًا هشًا.
ومنذ انهيار النظام السابق، تبدّت حقيقةٌ لم تعد خافية: أن النظام السياسي العراقي يعمل في الجوهر بمنطق كونفدرالي فعلي، وإنْ كان يُسمّى فدراليًا. فالممارسات اليومية، من إدارة الإقليم إلى توزيع الموارد، تكشف أن كلّ طرف يتصرّف ضمن نطاقٍ سياديٍّ خاص، فيما يتحوّل المركز إلى واجهة رمزية أكثر منه سلطة تنفيذية. حتى الانتخابات الاتحادية باتت تُوظّف من قبل القوى الإقليمية كأداة ابتزازٍ سياسي، هدفها ضمان حرية التصرف المحلي أكثر من المشاركة في القرار الوطني.
إنَّ الدعوة إلى كونفدرالية عراقية لا تنبع إذن من نزعةٍ انفصالية، بل من محاولةٍ واقعية لتنظيم ما هو قائم أصلًا. فالعراق يعيش اليوم توازُنًا قلقًا بين أطرافٍ تتشارك أرضًا واحدة دون أن تتشارك تصوّرًا موحدًا للدولة. وبدلًا من المكابرة في الحفاظ على وحدةٍ صورية، قد يكون الاعتراف بالتعدد السيادي هو الخطوة الأولى نحو استقرارٍ حقيقي.
في الموارد المشتركة
يُقال كثيرًا إنَّ الدستور العراقي الحالي قد عالج مسألة الموارد المشتركة في مواده (111) و(112)، وإنه أقرَّ مبدأ "الإدارة المشتركة" للنفط والغاز بين المركز والأقاليم. لكن هذه الصيغة لم تَنتج سوى نزاعٍ دائم، لأنها حافظت على منطق الدولة المركزية الذي يُفوّض الصلاحيات من الأعلى إلى الأدنى.
أما في التصور الكونفدرالي، فالأمر ينعكس تمامًا: فالموارد لا تُدار بقرار اتحادي بل بعقدٍ سياديٍّ متكافئ بين الكيانات المكوِّنة. أي أن الاتحاد لا يملك الموارد، بل يملك آلية تنظيم التوزيع وفق اتفاقٍ ماليٍّ معلن، تُحدّد فيه نسب العائدات، ومسؤوليات الإدارة، وطرق التسويق. إنّها إدارة من “الأسفل إلى الأعلى”، وليست وصايةً بيروقراطية.
وبذلك تتحول العلاقة من تنسيقٍ إداري إلى شراكة سيادية، ومن ملكيةٍ موحدةٍ بلا صلاحيات إلى ملكية مزدوجة بعقدٍ اتحادي منظم.
في معنى الحدود المتنازع عليها ومادة 140
ليست الموارد وحدها ما يعبّر عن تشتت السيادة، فالجغرافيا بدورها تحمل دلالات مماثلة. فالمادة (140) من الدستور العراقي، التي تناولت ما يُسمّى بـ “المناطق المتنازع عليها”، تبدو للوهلة الأولى معالجةً إجرائية لمسألةٍ إدارية، لكنها في جوهرها تحمل اعترافًا ضمنيًا بحقّ تقرير الانتماء المحلي.
فالمادة تنص على ثلاث مراحل: التطبيع، ثم الإحصاء، ثم الاستفتاء، لتحديد تبعية المنطقة للإقليم أو للحكومة الاتحادية. أي أن القرار الأخير يُترك لإرادة السكان، لا لسلطة المركز.
هذه الفكرة، حين تُقرأ فلسفيًا، تتجاوز حدود كركوك والمناطق المختلف عليها، لتطرح سؤالًا مبدئيًا عن من يمتلك السيادة الأصلية: هل هي الدولة بوصفها كيانًا جامعًا، أم المجتمع المحلي بوصفه صاحب الأرض؟
ولأن الدولة العراقية لم تستطع تطبيق المادة عمليًا، فقد تحولت من نصٍّ دستوري إلى واقعٍ مؤجل، يُمارَس جزئيًا من الطرفين: فالإقليم يتصرف في بعض المناطق كامتدادٍ طبيعي له، بينما المركز يستخدم أدواته الإدارية والمالية لترسيخ سلطته عليها. هكذا تحيا المادة 140 في الظل، لا كقانونٍ نافذٍ بل كواقعٍ غير معلن.
لكن إذا نظرنا إليها بمنظار الكونفدرالية، فإنها تصبح ركيزة تنظيمية لا موضع نزاع. فهي تُقرّ بحقّ تقرير الانتماء المحلي — وهو المبدأ الذي تُبنى عليه الكونفدرالية من الأساس. وبهذا يمكن تحويلها من أداة خلافٍ إلى آلية تأسيسٍ لعقدٍ سيادي متكافئ، يعترف بتعدّد الجغرافيا والهوية ضمن إطارٍ اتحادي مرن.
خاتمة جدلية
إنّ أزمة الدولة العراقية الحديثة لا يمكن ردّها إلى العامل السياسي أو الإداري فحسب، بل إلى الاقتصاد الريعي الذي شكّل بنيتها المادية منذ نشأتها. فالدولة التي لا تقوم على إنتاجٍ ماديٍّ حقيقي، بل على توزيع الريع النفطي، تُنتج بالضرورة مجتمعًا ممزقًا بفعل المنافسة على الموارد لا بفعل العمل المشترك.
إنّ غياب القاعدة الإنتاجية الوطنية حرم العراق من البنية الطبقية التي تُوحّد مصالح البشر عبر حدودهم القومية والمذهبية، فظلّ الانقسام الاجتماعي قائمًا على الولاءات الأولية لا على علاقات العمل. ومع هيمنة الريع، لم تعد الدولة أداة لتنظيم الإنتاج، بل أداة لتوزيع الثروة على أساس الولاء السياسي أو العرقي.
من هنا يمكن القول إنّ الاقتصاد الريعي هو المسبّب الأول لأزمة الدولة العراقية، لأنه ألغى شرطها التاريخي بوصفها “تعبيرًا عن وحدة القوى المنتجة في حقلٍ ماديٍّ مشترك”. وفي غياب هذا الشرط، غابت معها إمكانية نشوء وطنٍ جامع.
الكونفدرالية، في هذا السياق، ليست مجرد إعادة توزيع للسلطة، بل هي محاولة لإعادة تعريف بنية الاقتصاد والسيادة معًا على أساسٍ يعترف بتعدّد المراكز، ويتيح لكلّ كيانٍ أن يطوّر قاعدته الإنتاجية الخاصة ضمن منظومة تبادلٍ متكافئة.
إنها ليست بديلاً عن الدولة، بل إطارٌ مادي جديد لبناء دولةٍ تنتج وحدتها من العمل لا من القسر، ومن الإنتاج لا من الريع.