صوت ممداني يطرق جدران الدولة العميقة
ناضل حسنين
2025 / 11 / 5 - 15:10
ليست وقائع الأيام الأخيرة مجرد احتفالية رمزية في سجل الانتخابات الأمريكية، بل هي فعلاً اختبار قاسٍ لقدرة المجتمع السياسي في الولايات المتحدة على مواجهة "شبح الذات المنقسمة" الذي ظل يلاحقه رغم كل نغمات التفاؤل. فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك وصعود غزالة هاشمي إلى منصب نائبة حاكم فرجينيا، يبدوان للوهلة الأولى كدليل غير مسبوق على أن "الحلم الأمريكي" بدأ يتسع أخيراً ليعيد تعريف نفسه عبر وجوه مهاجرة ومسلمة يتجرأ أصحابها على اقتحام مواقع القيادة، لا الاكتفاء بدور المتفرج من هامش التاريخ.
لكن الحقيقة المؤلمة وسط هذه الزفة الإعلامية أن الرقصة ذاتها تكررت قبل سنوات، يوم اغتسل الحبر على أوراق باراك أوباما ليعلن أول رئيس من أصول افريقية قادماً من خارج سردية المؤسسة العتيقة؛ فرفع العالم عالياً راية الأمل، لكنه سرعان ما اكتشف أن الرمزية ما تزال تسكن هامش التغيير، وأن الأبواب الموصدة لا تفتح بسهولة مهما كانت الطبول عالية.
التنوع اليوم صار قوة دافعة، لا مجرد ملصق في الحملات الدعائية. ما حدث مع رشيدة طليب وإلهان (الهام) عمر قبل سنوات كسر الجدار الأول: فتحتا الكونغرس أمام الصوت الفلسطيني والصومالي، أمام سيرة الهجرة الدامية وسؤال الهوية المتلعثمة. اليوم يعيد ممداني وهاشمي تفعيل اللعبة في مواقع تمثل أعمق دوائر السلطة المحلية والتنفيذية، ليس لمجرد تلوين اللوحة، بل بقصد إعادة توزيع أوراق القوة وفرض شروط جديدة على معنى القيادة في "أرض الأحلام".
كلما علت نغمة "إنجاز رمزي" في مجتمع لم يتعاف بعد من شرخ الخطاب العنصري والترهيب السياسي زمن ترامب، يجدر بالمرء أن يتذكر حقيقة أوباما؛ الرجل الذي حمل آمال الملايين وانتهى عهده بمزيد من الشعبوية والكراهية المكبوتة. حين تتحول الرمزية إلى أقنعة بلا سياسات جذرية، يصبح الاحتفاء وهماً يشبه الاستعراض، وتذوي جذوة الحلم في دهاليز الدولة العميقة، حيث تتحكم مصالح الشركات وجماعات الضغط ولوبيات السلاح والمال في مفاصل القرار.
إنجاز أوباما التشريعي، مهما بدا عظيماً، لم يمس حقاً جذور التفاوت ولم يُنجِ أمريكا من موجة التطرف؛ بل جاءت ظواهر "حزب الشاي" ثم فوضى ترامب كارتداد عنيف على وهم الإصلاح الزائف. وهنا لا بد من السؤال: هل يتكرر المشهد اليوم مع ممداني وهاشمي في صيغة جديدة؟ هل تكفي هذه الرمزية لإنقاذ الحلم من شبح الدولة العميقة؟
المفارقة أن توقيت فوز ممداني جاء على وقع الحرب على غزة والاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية، اعتراضاً على انتهاكات إسرائيل وتواطؤ المؤسسة الأمريكية التقليدية. استفاقت الجامعات والميادين على حقيقة أن صوت الشباب لم يعد هامشياً، بل صار رقماً انتخابياً يفرض حساباته: الاحتجاجات غيّرت المزاج العام، دافعت عن القضية الفلسطينية، ودفعت الرأي العام نحو مساءلة أخلاقيّة للسياسة الخارجية الأمريكية التي لطالما كانت حبيسة لغة المصالح الباردة.
مواقف ممداني، هاشمي، طليب وعمر في مواجهة العدوان على غزة لم تعد هامشاً، بل دخلت صلب السياسات التقدمية وعكست رغبة جيل جديد في معاقبة "السلوك الأهوج" للمنظومة السياسية القديمة، شأنها شأن موجة الاعترافات الدولية الأخيرة بدولة فلسطينية التي جاءت كتلويح بعقاب رمزي لإسرائيل. لم تعد مظلة الدعم تلقائية، وصار للعدالة عضلات تشهرها إنجازات رمزية في ميادين القرار.
الدولة العميقة هنا تقف مثل حارس عجوز على بوابة الحلم، لا تهتز لموجة احتجاجات ولا تنتشي بخطاب انتخابي. تمتلك هذه الدولة آليات امتصاص الصدمات وتهميش كل أصوات الخارجين عن النص، وتحويل التغيير إلى مناسبة فولكلورية عابرة دون مساس بأعصاب المصالح المتجذرة. الفرق بين ممداني اليوم وأوباما بالأمس يكمن في الأجندة؛ فالأول يتكئ على حركة شعبية منظمة من الاشتراكيين الديمقراطيين، ويتبنى سياسات جذرية في الإسكان والصحة، ويحاول تشكيل نموذج يساري قابل للتكرار في مدن أخرى. أما أوباما فظل رهانه على كاريزما فردية وتحالفات فضفاضة خذلها الواقع الصلد في مواجهة لوبي المال والسلاح.
التغيير ليس حتمياً ولا مضموناً. ولعل أخطر سذاجة هي الاعتقاد أن مجرد وصول مسؤولين مهاجرين أو مسلمي الهوية إلى سدة القرار يكفي لهدم جدران الدولة العميقة أو فتح أفق العدالة دفعة واحدة. إنما هو اختبار مستمر للقدرة على تحويل الرمزية إلى فعل، وعلى إعادة تعريف الولاء في مجتمع لا يتخلى بسهولة عن تاريخه التقليدي.
نعم، قادم الأيام يحمل بذور تغيير حقيقي، إذا تبع فوز ممداني وهاشمي حراك شعبي متواصل وضغط جماهيري يفرض المحاسبة ويحول الإنجاز الرمزي إلى سياسات ملموسة؛ عندها فقط يصبح القادم أجمل. أما إذا توقف الحلم عند حدود الصورة، وعادت الطاحونة القديمة لدورانها المعتاد، فلن يكون يومنا سوى تكرار جديد لشبح أوباما... حيث يولد الأمل في النهار ويقتله بؤس المساء.