في اليوم العالمي لمنع الإفلات من العقاب


نهاد ابو غوش
2025 / 11 / 2 - 22:50     

نهاد أبو غوش
من سخريات القدر أن تتزامن ذكرى وعد بلفور (2/11/2017) مع اليوم الدولي لمنع الإفلات من العقاب الي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والستين عام 2013 وقد خصص هذا اليوم الأخير لمنع إفلات مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين من العقاب، حيث تشير إحصائيات المنظمات النقابية والحقوقية إلى مقتل نحو 1700 صحفي في جميع أنحاء العالم في الفترة بين 2006 ونهاية العام الماضي 2024. في حين تؤكد إحصائيات نقابة الصحفيين الفلسطينيين والمنظمات الدولية والحقوقية العاملة في قطاع مقتل اكثر من 265 صحفيا فلسطينيا خلال حرب الإبادة والتدمير والتهجير التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وثمة احتمالات كبيرة بأن يرتفع العدد إلى أكثر من ذلك بما يزيد عن 15% من الرقم المسجل نظرا لحالات الاختطاف والإخفاء القسري لآلاف المدنيين الفلسطينيين في القطاع، بالإضافة إلى وجود أكثر من عشرة آلاف مفقود يرجح أن أكثرهم هم شهداء ما زالوا تحت أنقاض البيوت والبنايات المهدمة في قطاع غزة.
قبل أيام من هذه الذكرى اتهم مسؤول أميركي رفيع هو العقيد المتقاعد ستيد جابافيكس إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، بالتلاعب في نتائج تحقيق اميركي حول استشهاد الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة على يد الجيش الإسرائيلي في مدينة جنين في شهر مايو/ ايار 2022، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الضابط المذكور الذي كان يشغل منصب المسؤول عن التنسيق بين أجهزة الأمن الفلسطينية والإسرائيلية، أن إدارة بايدن تعمدت تخفيف اللهجة تجاه إسرائيل في التقرير النهائي الذي رفع إليها من الجهات العسكرية الأميركية التي حققت في جريمة الاغتيال، على الرغم من الأدلة القاطعة التي أكدت ضلوع الجيش الإسرائيلي في الجريمة.
وكان البيان الرسمي الذي صدر عن الإدارة الأميركية بشأن اغتيال شيرين أبو عاقلة التي تحمل أيضا الجنسية الأميركية وصف الحادثة بأنها وقعت نتيجة "ظروف ماساوية" في تناقض صارخ مع النتائج التي خلص إليها فريق التحقيق، ونقل عن الضابط قوله أنه وزملاءه شعروا بالذهول حين اطلعوا على التقرير النهائي، وأن ذلك فجر خلافا علنيا بينه وباقي الضباط من جهة وبين الجنرال الأميركي مايكل فنزل رئيس فريق الضباط الأميركيين العاملين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما يتعارض بيان إدارة بايدن ومواقفها مع نتائج ستة تحقيقات مستقلة على الأقل لمؤسسات صحفية اميركية ودولية من بينها نيويورك تايمز وواشنطن بوست، وشبكة الجزيرة والتي أكدت جميعها بشكل قاطع مسؤولية إسرائيل الحصرية وغير القابلة للجدل عن الجريمة.
في الأول من نوفمبر الجاري، اي قبل ساعات من المناسبة، نشرت قيادة القوات الأميركية التابعة للقيادة الأميركية الوسطى (سينتكوم) المرابطة في مستوطنة كريات جات، جنوب فلسطين المحتلة وعلى أنقاض قرية عراق المنشية المدمرة، تقريرا مدعوما بصور جوية غير واضحة، زعمت فيه أن مسلحين فلسطينيين تابعين لحركة حماس سيطروا على شاحنة مساعدات إنسانية، بعد ان أوقفوها وأبعدوا السائق، وبالتدقيق في الخبر وما نشر منه في البيان وفي الصحافة العبرية يتبين أنه ينطوي على تضليل كبير وانحياز صارخ للرواية الإسرائيلية واسطوانتها المشروخة عن توزيع المساعدات، فالخبر يتحدث عن "الاشتباه" بقيام مسلحي حماس بسرقة المساعدات، بينما يتحدث العنوان بشكل حاسم وواثق عن السرقة. حركة حماس نفت من جانبها بشكل قاطع حصول السرقة وتحدت الجهة الأميركية إثبات ادعاءها وتعيين المنطقة التي حصلت فيها الواقعة، لافتة إلى العصابات المسلحة المدعومة من إسرائيل والتي تخصصت في سرقة الشاحنات، هي الموجودة في مناطق سيطرة الجيش الإسرائيلي وخاصة عند مداخل المعابر التي تأتي منها الشاحنات.
عيون الجيش الأميركي المزودة باحدث تقنيات التصوير الجوي وصور الأقمار الصناعية تظهر براعة مطلقة في تصوير الانتهاكات الفلسطينية المزعومة، ولكنها تغض بصرها مجموع الغارات والهجمات التي أدت على استشهاد 105 فلسطينيين، بينهم 50 طفلا في يومي التاسع والعشرين والثلاثين من أوكتوبر، تماما مثلما أغمضت الإدارة عيونها عن جريمة اغتيال شيرين ابو عاقلة، علما بأن الغارات الإسرائيلية شملت معظم مناطق قطاع غزة واستهدفت خيام النازحين ومركبات مدنية، وكل هذا الهجوم الانتقامي الذي أبلغت به الإدارة الأميركية سلفا قبل وقوعه، كما أبلغت بنتائجه اعتبرته الإدارة الأميركية ردا مقبولا.
الإدارة الأميركية تغمض عيونها أيضا عن مجموع الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية التي أوقعت منذ سريان الاتفاق في 19 اوكتوبر أكثر كم 250 شهيدا، وعن عمليات التفجير والتدمير الهندسية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية لما بقي من منازل وبنايات ومنشآت في المناطق التي تخضع الآن لسيطرة الجيش الإسرائيلي وخاصة في أحياء الشجاعية والتفاح شرق مدينة غزة.
الإفلات الأكبر من العقاب خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين هو ما حظي به مطلقو وعد بلفور، ومن مكّنوا من إقامة دولة إسرائيل، ودعموا تفوقها العسكري النوعي، وصمتوا على جرائمها خلال 78 سنة ودافعوا عنها بكل الوسائل السياسية والعسكرية والدعم المالي واستخدام حق الفيتو، ومعاقبة قضاة المحاكم الدولية والمدعي العام للجنائية الدولية، بدل معاقبة مجرمي الحرب ومرتكبي جرائم الإبادة وقتل الصحفيين.