حين يصبح الكيان سجنًا للوطن: دعوة إلى الكونفدرالية العراقية


ليث الجادر
2025 / 11 / 2 - 17:11     

من الوطن إلى الكيان

حين نُعرّف الوطن بمعناه الحقيقي، لا السياسي، نجد أنه ليس مجرد مساحة تُحدّدها الخرائط، بل هو الفضاء الذي تتطابق فيه الذاكرة الجماعية مع الوجود المادي للناس؛ أي حيث تصبح الأرض امتدادًا للذات والتاريخ معًا. بهذا المعنى، فإن ما يُسمّى اليوم بالعراق لا يمكن اعتباره وطنًا بالمعنى العميق للكلمة، بل كيان سياسي أُنشئ بقرارٍ استعماريّ صاغته بريطانيا لتأمين نفوذها في الممرّ الرافديني نحو الخليج، وجمعت فيه جغرافيتين متباينتين في التاريخ والبنية والوجدان.

فالكردي يرى وطنه في كردستان، حيث تتكوّن هويته من اللغة والجبل والأسطورة، والعربي يرى وطنه في وادي الرافدين، بوصفه امتدادًا حضاريًا لسومر وبابل والعباسيين. أمّا “العراق” ككيان سياسي، فهو محاولة إدماج قسرية بين هذين العالمين دون عقدٍ اجتماعي أو مشروع وطني جامع. ومن ثمّ، لم يكن العراق يومًا وطنًا لأحد، بل إطارًا إداريًا فُرض على وطنين تاريخيين لم يُتح لهما أن يتصالحا على هويةٍ مشتركة.

من الدولة إلى السلطة

لم يفشل العراق لأنه متنوع، بل لأنه أنكر تنوّعه. فالدولة التي أُقيمت منذ 1921 لم تُبنَ على قاعدة المواطنة، بل على مبدأ السلطة المركزية التي تدّعي تمثيل الجميع وهي في الحقيقة تمثّل ذاتها.
الدولة لم تكن يومًا مؤسسات، بل نظامًا سلطويًا يتوارث أدوات السيطرة باسم الوحدة الوطنية. وهكذا غابت فكرة الدولة بالمعنى الحديث، لتحلّ محلها سلسلة سلطات تتبدّل وجوهها دون أن يتغيّر جوهرها.

النتيجة أن الكيان العراقي لم يعرف يومًا معنى “الشرعية التعاقدية” بين مكوّناته، بل عاش على منطق الغلبة؛ غلبة المركز على الأطراف، وغلبة الهوية الرسمية على سائر الهويات.
فصار “العراق” مسرحًا للسلطات أكثر منه وطنًا للدولة، وورث شعبه ذاكرةً مثقلة بالخيبات لا بالتجارب المشتركة.

الكونفدرالية: نحو عقدٍ جديد

انطلاقًا من هذا التشخيص، فإن الدعوة إلى الكونفدرالية العراقية لا تعني تقسيم الكيان القائم، بل إعادة تعريفه على أسس واقعية وتعاقدية.
الكونفدرالية، في جوهرها، هي اتحاد بين كيانات متكافئة تتقاسم السيادة ضمن اتفاقٍ طوعيّ، بحيث يحتفظ كل طرفٍ بإدارته الداخلية واستقلاله في القرار، بينما تُدار الشؤون المشتركة باتفاقٍ متوازن لا يخضع لهيمنة أحد.

بهذا المعنى، فإن الكونفدرالية ليست انشقاقًا، بل تسوية تاريخية بين وطنين وذاكرتين.
هي انتقال من منطق الدولة المفروضة إلى منطق الدولة التوافقية، ومن وهم “الوحدة بالقسر” إلى واقعية “الاتحاد بالاختيار”. إنها الصيغة الوحيدة القادرة على تحويل هذا الكيان من محبسٍ جغرافي إلى إطارٍ للتعايش الحرّ والمسؤول.

العراق بين التاريخ والضرورة

إن الكيان الذي لم يُخلق كوطن لا يمكن إصلاحه بمنطق الدولة الواحدة.
فما لم يُبنَ على إرادةٍ حرة، لا يُمكن أن يُدار بالوصاية. الكونفدرالية ليست حيلة سياسية، بل ضرورة تاريخية لإعادة التوازن بين المكوّنات التي فُرض عليها التعايش دون عقد.
إنها السبيل لتحويل التعدّد من عبءٍ سياسي إلى بنيةٍ منتجة للتكامل، بحيث تصبح الاختلافات مصدراً للغنى لا للانقسام.

بهذا الوعي، تغدو الدعوة إلى الكونفدرالية إعلانًا لوعي جديد: وعيٍ يعترف بأن العراق لم يُخلق كوطن، لكنه يستطيع أن يُعاد تأسيسه كعقد إنساني حرّ بين وطنين متجاورين في الجغرافيا، مختلفين في الذاكرة، ومتّحدين في المصير.

استدراك: الكونفدرالية الواقعية المقنّعة

من الناحية الفعلية، الكونفدرالية قائمة في العراق منذ عقدين، ولكن بوجهٍ مشوّه. فمنذ انهيار النظام السابق، انهارت الدولة المركزية ولم تقم مكانها مؤسسات اتحادية حقيقية، بل نشأت سلطات محلية تتصرف باستقلال فعلي تحت مظلّة فدراليةٍ شكلية.

تُمارس هذه الفدرالية اليوم بوصفها غطاءً لسلوكٍ انفصاليّ لا يعترف بالمركز إلا حين يحتاجه.
فالأحزاب الكردية، مثلًا، تشارك في الانتخابات الاتحادية لا باعتبارها فعلًا ديمقراطيًا، بل كوسيلة ابتزاز سياسي تضمن استمرار استقلالها المالي والإداري داخل الإقليم. وهكذا تتحوّل الفدرالية إلى أداة شرعنة للانفصال، لا إلى وسيلة شراكة.

إن ما أدعو إليه ليس هذه الكونفدرالية المقنّعة التي تخفي الانقسام خلف واجهة الوحدة، بل كونفدرالية صريحة وواعية، تُبنى على الاعتراف المتبادل لا على المناورة، وعلى التنظيم العقلاني للعلاقة لا على فوضى التوازنات.
فهي وحدها القادرة على أن تحوّل الانفصال القائم بالفعل إلى اتحادٍ عقلانيّ مؤسسيّ بين وادي الرافدين وكردستان، بين الدولة الممكنة والوطن الغائب.