قمة الدوحة للتنمية الاجتماعية: نحو عقد اجتماعي عالمي جديد يعيد مركزية العمل والعدالة والفقر


جهاد عقل
2025 / 11 / 2 - 12:14     

منذ أكثر من عام تطرح الحركة النقابية العالمية مطلبها من أجل توقيع "عقد إجتماعي جديد" ، يضمن حقوق الطبقة العالمة في ظل المتغيرات الكبيرة التي حدثت في عالم العمل خلال العقود الأخيرة ، وتأتي قمة الدوحة للتنمية الإجتماعية لبحث هذا المطلب النقابي الهام.
فبعد ثلاثين عامًا من القمة العالمية للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن، يجتمع قادة العالم مرة أخرى في الدوحة ما بين 4 و6 نوفمبر 2025 لإطلاق ما يُتوقّع أن يكون أهم حوار أممي حول العدالة الاجتماعية والعمل والكرامة الإنسانية منذ جيلٍ كامل.
قمة الأمم المتحدة الجديدة تُعقد تحت شعار “إحياء العهد الاجتماعي – كي لا يتخلف أحد عن الركب”، في لحظة عالمية تتقاطع فيها الأزمات الاقتصادية والمناخية والرقمية، ويعلو فيها السؤال: هل يمكن للعالم أن يعيد بناء عقد اجتماعي يضمن العدل والمساواة؟

* من كوبنهاغن إلى الدوحة: عودة إلى الجذور
في عام 1995، التزمت الحكومات في كوبنهاغن بجعل القضاء على الفقر والعمل الكامل والاندماج الاجتماعي ركائز التنمية.
اليوم، ومع مرور ثلاثة عقود، تعود الأمم المتحدة إلى هذا الوعد، مدفوعةً بالتحذيرات من أن العالم يبتعد عن أهداف التنمية المستدامة لعام 2030.
يصل الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى الدوحة ليفتتح القمة برسالة حاسمة: “التنمية الاجتماعية ليست ترفًا، بل هي درع الاستقرار العالمي.”
سيسلط غوتيريش الضوء على الفجوات المتسعة في الثروة والعمل، وعلى أن “نجاح القمة لن يُقاس بالخطابات، بل بالتنفيذ” — تنفيذ السياسات التي تخلق وظائف لائقة، وتوسّع الحماية الاجتماعية، وتعيد الثقة بين الحكومات وشعوبها.
كما عاد وأكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن القمة تمثل لحظة حاسمة لإحياء "العهد الاجتماعي" الذي التزمت به الحكومات في كوبنهاغن عام 1995.
وفي كلمته الافتتاحية المنتظرة، سيشدد على أن التنمية الاجتماعية ليست ترفاً بل شرطاً للاستقرار والسلام.
المواد الصادرة عن الأمم المتحدة، ولا سيما مقال "نحو عالم أكثر عدلاً"، تُبرز أن القمة تسعى إلى تجديد الالتزامات الدولية عبر ثلاثة محاور رئيسية:
- القضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية.
- توفير العمل اللائق وتعزيز الحماية الاجتماعية الشاملة.
- إعادة بناء الثقة بين الحكومات والشعوب، وترسيخ الشراكة بين الدول والمجتمع المدني والنقابات.

* إعلان الدوحة: دعوة عالمية للعمل
خلال الشهور الماضية، قادت الأمم المتحدة مشاورات بين الحكومات والمنظمات الإقليمية لصياغة "إعلان الدوحة السياسي" الذي سيُعتمد في الجلسة الافتتاحية.
تقول السفيرة علياء أحمد سيف آل ثاني، المندوبة الدائمة لقطر لدى الأمم المتحدة: “إعلان الدوحة هو جوهر القمة. إنه دعوة عالمية للعمل وتجديد للالتزام بتحقيق التنمية الاجتماعية للجميع.”
الوثيقة المرتقبة ستربط بين العدالة الاجتماعية والاقتصاد المستدام، وتعيد التأكيد على أن التنمية التي لا تضع الإنسان في مركزها ليست تنمية.
القمة ستشهد أيضًا إطلاق منصة الدوحة لحلول التنمية الاجتماعية – مبادرة قطرية - فرنسية تعرض نماذج جديدة للشراكات والتمويل الموجه للحد من الفقر وخلق فرص العمل.

*النقابات الدولية: من الأقوال إلى الأفعال
من جهة أخرى، دخلت الحركة النقابية الدولية القمة بموقف موحّد عبر الاتحاد الدولي للنقابات ، الذي أصدر ورقته بعنوان "القضايا الرئيسية لقمة التنمية الاجتماعية”.
ترى النقابات أن الوقت حان لإطلاق عقد اجتماعي جديد يقوم على أربع ركائز:
1. العمل اللائق كحق إنساني عالمي.
2. الحماية الاجتماعية الشاملة كضمان للكرامة والعدالة.
3. الأجور المعيشية والمساواة في الأجر بين الجنسين.
4. الانتقال العادل نحو الاقتصاد الأخضر والرقمي بحيث لا يدفع العمال ثمن التحول.
تؤكد الوثيقة النقابية أن أكثر من أربعة مليارات إنسان ما زالوا خارج نظم الحماية الاجتماعية، وأن الاقتصاد غير الرسمي في بلدان الجنوب يبتلع ما يقارب 60% من القوة العاملة.
ولهذا تطالب النقابات بأن يتضمّن إعلان الدوحة التزامات واضحة وقابلة للقياس، لا مجرد وعود رمزية.

* صوت الجنوب العالمي: العدالة المناخية والاقتصادية وجهان لقضية واحدة
قبل أيام فقط من القمة، اجتمعت في جنوب أفريقيا نقابات من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا في ملتقى الجنوب العالمي حول الانتقال العادل (COSATU – أكتوبر 2025).
وفي خطابها الافتتاحي، حذّرت زينغيسوا لوسي رئيسة مؤتمر نقابات عمال جنوب أفريقيا من “تحوّل مفهوم الانتقال العادل إلى شكلٍ جديد من الاستعمار الأخضر”.
وشددت على أن العدالة المناخية لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية، وأن العمال في الجنوب العالمي لا يجب أن يتحمّلوا تكاليف تحوّلات يقرّرها رأس المال العالمي.
هذا الخطاب يلتقي مباشرة مع روح قمة الدوحة، إذ يدعو إلى عقد اجتماعي عالمي جديد يضع الناس قبل الربح والعدالة قبل الاستغلال.

* الموقف العربي: الحماية الاجتماعية أولاً
في العالم العربي، قدّم الاتحاد العربي للنقابات ورقة موقف خاصة بالقمة ركّز فيها على أن الحماية الاجتماعية الشاملة هي المدخل الحقيقي للتنمية.
وطالب بانتقال تدريجي من الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي، مع ضمان المساواة بين النساء والرجال، وتوسيع نظم التأمين الصحي والبطالة والتقاعد.
ترى النقابات العربية أن المنطقة تواجه " تحديًا مزدوجًا”: هشاشة الاقتصاد وضعف شبكات الأمان، وأن أي عقد اجتماعي جديد يجب أن يقوم على تمويل عام مستدام لا يخضع لشروط القروض أو الديون.

*ما وراء القمة: عقد اجتماعي أم فرصة ضائعة؟
القمة لا تُقاس بعدد القادة الحاضرين ولا بصياغة البيان الختامي، بل بما ستفعله الدول لاحقًا.
تقول بيورغ ساندكيار، مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة: "الاختبار الحقيقي هو ترجمة الالتزامات إلى تحسينات في حياة الناس — وظائف لائقة، حماية اجتماعية، وشمول حقيقي.”
في هذا السياق، يشكّل تلاقي مواقف الأمم المتحدة والنقابات والحكومات العربية والعالمية فرصة نادرة لإعادة صياغة العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع.
فالعقد الاجتماعي الجديد الذي تتحدث عنه القمة ليس شعارًا، بل إطارًا لإعادة توزيع الفرص والموارد والسلطة بما يعيد للعمال مكانتهم في مركز السياسات العامة.

*الحق في العيش الكريم
بين كوبنهاغن والدوحة ثلاثون عامًا من التغيّرات العميقة: انهارت أنظمة، وتحوّل العمل، وتبدّلت الأزمات، لكن المطلب الإنساني الأساسي لم يتغيّر — الحق في العيش الكريم.
قمة الدوحة لا تعد فقط ببيان جديد، بل بمحاولة لإعادة الثقة بأن التنمية لا تُقاس بالناتج المحلي فقط، بل بكرامة الناس.
وإن استطاعت القمة تحويل هذه الثقة إلى التزامات، فربما تكون بداية لعقد اجتماعي عالمي جديد… عقدٍ يجعل من العمل اللائق، والعدالة الاجتماعية، والحماية للجميع، ليست أهدافًا مؤجلة، بل أساسًا لحاضرٍ أكثر إنصافًا وإنسانية.

المصادر:
- الأمم المتحدة: بيانات الأمين العام ومقال "نحو عالم أكثر عدلاً"، 29 و31 أكتوبر 2025.
- الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC): وثيقة "Key Issues for the World Summit on Social Development"، أكتوبر 2025.
- الاتحاد العربي للنقابات (ATUC): ورقة الموقف حول الحماية الاجتماعية في المنطقة العربية، أكتوبر 2025.
- مؤتمر نقابات عمال جنوب أفريقيا (COSATU): ملتقى الجنوب العالمي حول الانتقال العادل، إيكورهوليني، أكتوبر 2025.