على ظهر امرأة: صورة واحدة تكشف ثقل التاريخ
أوزجان يشار
2025 / 10 / 21 - 21:05
اللقاء الأول مع الصورة
وجدت صورة مزعجة للضمير الانساني مصادفةً أثناء بحثٍ بسيط في أرشيفٍ فوتوغرافي يعود لبدايات القرن الماضي.
امرأة سيكيمية بملامح آسيوية هادئة، تحمل على ظهرها رجلًا أوروبيًا يجلس داخل سلّة من القشّ وكأنه في نزهةٍ قصيرة.
هي تمشي بانحناءةٍ متعبة عبر طريقٍ جبلي وعر، وهو يجلس في ارتخاءٍ كامل، كأن ثقل جسده قدر مكتوب يثقل ظهرها ولا يثقل ضميره الغائب.
توقفت طويلًا وأنا أتفحص هذه الصورة.
تخيلت أحداث الصورة، رغم صمتها، كانت تتحدث بلغةٍ يعرفها كل إنسانٍ جرّب أن يتم استغلاله يُستغل بصمت.
إنها لا تُظهر فقط جسدين في وضعٍ غريب، بل تلتقط لحظةً من اختلالٍ أخلاقيّ عميق: جسدٌ يعمل ليحمل آخر، وتاريخٌ بأكمله يجلس في سلّته مطمئنًا.
⸻
حكاية الصورة
تعود الصورة إلى شمال البنغال أو سيكيم في بدايات القرن العشرين، حين كانت المنطقة تحت تأثير النفوذ البريطاني، والمرأة — من جماعة “البوتيا” — تعمل حاملة أمتعةٍ للتجار والرحّالة الأوروبيين.
كانت تلك المهنة مألوفة آنذاك في المناطق الجبلية الوعرة، حيث لم تكن وسائل النقل متاحة، فكانت الأكتاف هي المواصلات ووسيلة الطريق.
لكن ما يبدو في الأرشيف مجرّد “تفصيلٍ عابر” هو في الحقيقة مشهد رمزيّ لعصرٍ كامل.
الصورة التي التُقطت بلا نيةٍ سياسية أصبحت لاحقًا شاهدًا على طبيعة العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر — علاقة تتكثّف في أبسط مشهد: من يحمل من؟ ومن يحقّ له أن يجلس مرتاحًا بينما الآخر يمشي وهو يحمله؟
⸻
عبء مقلوب
قبل عامٍ واحدٍ فقط من التقاط هذه الصورة، كتب روديارد كيبلين قصيدته الشهيرة “عبء الرجل الأبيض”، داعيًا الغرب إلى تحمّل مسؤولية “تمدين الشعوب”.
كانت القصيدة في ظاهرها دعوة أخلاقية، لكنها في جوهرها تبريرٌ ناعمٌ لسطوة القوة، فقد صوّر كيبلين الشعوب المستعمَرة كأطفالٍ غير قادرين على إدارة حياتهم.
لكن حين أتأمل هذه الصورة، أرى تلك الفكرة مقلوبة تمامًا.
الرجل الأبيض المستعمر لم يتحمّل عبئًا قط، بل جلس في سلّته فوق كتفي امرأةٍ مجهولة الاسم، تسير به لتوصله إلى غايته.
إنها المفارقة أيها النبلاء الأكثر وضوحًا في التاريخ:
من نُعِتوا بأنهم “عبءٌ على الحضارة” هم الذين حملوا العالم فعليًا على ظهورهم.
⸻
ما تخفيه اللقطة
لا شيء في الصورة يصرخ، ومع ذلك تُحدث في الضمير جلبة.
المرأة لا تلتفت إلى الكاميرا، كأنها تعرف أن النظرة لن تُغيّر مصيرها، والرجل لا يشي بامتنانٍ أو خجل، كأن الأمر طبيعي.
وهذا ما يجعلها موجعة: الطبيعة الصامتة للظلم حين يتحوّل إلى عادة.
في ملامحها يمكن قراءة تاريخٍ طويل من التحمّل؛
ذلك الصبر الذي لا يختار البطولة بل البقاء.
إنها لا تحمله من حبٍّ أو رضا، بل من نظامٍ كاملٍ علّمها أن تَحمل، كما علّمه أن يُحمَل.
وهكذا، تستمر الحركة منذ قرون: أكتافٌ تمضي، وأجسادٌ تستريح، وعدسةٌ تلتقط الصمت كأنها تُوثّق الطبيعة لا القهر.
⸻
الأوجه الحديثة للعبء
اليوم، بعد أكثر من قرنٍ على تلك الصورة، لم يتغيّر الجوهر كثيرًا، فقط تبدّلت الأسماء والملابس.
ما زالت الشعوب تحمل، وما زال آخرون يجلسون في سلالٍ مزيّنة بالكلمات اللامعة: “التنمية”، “المساعدات”، “التعاون الدولي”.
لكن تحت هذه المسميات يتكرر المشهد ذاته.
في الاقتصاد، تفرض الدول الغنية شروطًا على الفقيرة باسم “الإصلاح”، حتى لو أوجعتها تلك الشروط.
في المناخ، تُطالَب الدول التي لم تلوّث الكوكب بدفع ثمن إنقاذه.
وفي السياسة، تُشنّ الحروب باسم الحرية، بينما تُترك الشعوب بين الركام بلا بوصلة.
الصورة القديمة تعيش بيننا بألف شكلٍ جديد:
في العاملات اللواتي يخطن العالم بعرقٍ لا يُرى،
في المهاجرين الذين يحملون اقتصادات الغير على أكتافهم،
وفي كل مرةٍ يقال فيها “نحن نعرف مصلحتكم أفضل منكم”.
⸻
الإنسان حين يحمل الإنسان
ما يمسّني في تلك الصورة ليس التاريخ وحده، بل الإنسان.
تلك المرأة التي لم تقل شيئًا كانت تحمل العالم كله بصبرٍ يشبه العظمة.
كانت تمشي لا لأنها تؤمن بعدالة ما تفعل، بل لأن الحياة علّمتها أن تمضي كي تستمر.
في وجهها تختبئ أسئلة كثيرة:
هل تعرف إلى أين تمضي؟
هل تؤمن أن من على ظهرها يستحق هذا الجهد؟
وهل كانت تفكّر يومًا أن صورتها ستصبح مرآةً للعالم كله؟
من خلال هذا المشهد الصغير نكتشف كم هو سهل أن يتحوّل الإنسان إلى وزنٍ على كاهل إنسانٍ آخر، وكم هو صعب أن يعترف الراكب بامتنانٍ لمن حمله.
⸻
العدالة التي لا تحتاج إلى سلّة
ربما كان الرجل في الصورة يرى نفسه متفوّقًا بالمعرفة أو الثقافة أو العرق، لكنه في النهاية مجرد إنسانٍ نسي أن قدميه تصلحان للمشي.
تلك هي مأساة القوة حين تفقد حسّها بالواقع: إنها تجعل صاحبها يصدّق أنه خُلِق ليُحمَل لا ليكي يشارك الطريق.
لكن العالم لا يُبنى بالوصاية، بل بالمشاركة.
العدالة ليست أن يتبادل الناس الأدوار في القهر، بل أن يتخلّوا عنه معًا.
فما نحتاجه اليوم ليس أن ننزل أحدًا من سلّته فحسب، بل أن نكسر فكرة السلّة نفسها.
أن نتعلّم أن السير جنبًا إلى جنب أجمل من أي تفوّقٍ فوقي، وأن التقدّم لا يقاس بكمّ الأكتاف التي صعدنا عليها، بل بعدد القلوب التي مشينا معها في الطريق.
⸻
خاتمة الطريق
ربما لم تكن تلك المرأة تدرك أن لحظتها العابرة ستتحول إلى رمزٍ خالد.
وربما لم يفكّر الرجل في أنه سيجلس إلى الأبد فوق كتف التاريخ كصورةٍ للامتياز الصامت.
لكن الصورة بقيت، لتذكّرنا بما نفضّل أن ننساه: أن لا حضارة تقوم على انحناءةٍ ظهر قسرية، ولا إنسانية تُبنى على كتف متعب.
العالم لا يحتاج إلى منقذين، بل إلى من يسيرون بجانبنا بخطوات متساوية.
إلى من يعرفون أن الطريق يتسع للجميع، ولا يحتاج إلى أكتافٍ منحنية لكي نكمل رحلتنا.