ثورة من خلف الشاشات: جيل Z المغربي بين المطلبية والغموض القيادي


ليث الجادر
2025 / 10 / 6 - 22:48     

شهد المغرب خلال الأيام الأخيرة واحدة من أوسع موجات الاحتجاج الشبابي منذ سنوات، امتدت إلى أكثر من عشر مدن كبرى، من الرباط والدار البيضاء إلى أكادير ومراكش وأوجدة. وعلى الرغم من هذا الانتشار الأفقي الواسع، بقيت التغطية الإعلامية الإقليمية والدولية محدودة ومتفاوتة، ما أثار تساؤلات جدّية حول أسباب هذا الصمت النسبي، خاصة من قنوات كبرى مثل «الجزيرة» و«العربية» و«سكاي نيوز».

أولاً: احتجاجات ميدانية كثيفة ولكن غير متجانسة

من حيث الواقع الميداني، اتسمت الاحتجاجات بتفاوت في الكثافة بين مدينة وأخرى. ففي بعض المدن خرجت مظاهرات كبيرة اتسمت بالزخم والانتشار، بينما في مدن أخرى بقيت التحركات سلمية ومحدودة. وعلى الرغم من الطابع السلمي العام، شهدت بعض الليالي أعمال عنف متفرقة، من حرق سيارات إلى صدامات محدودة مع القوى الأمنية، أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى واعتقال المئات. هذا التباين جعل المشهد أكثر تعقيداً من أن يُختزل في صورة واحدة، سواء كانت «انتفاضة شاملة» أو «احتجاجات رمزية».

ثانياً: التنظيم الرقمي… القلب النابض

المفارقة اللافتة أنّ قلب التنظيم لا يوجد في الساحات، بل في الفضاء الرقمي، وبالتحديد في منصات مغلقة مثل ديسكورد (Discord). فالحركة الشبابية التي تطلق على نفسها اسم GenZ 212 اعتمدت على هذه المنصة لتنسيق التحركات، توزيع الأدوار، ونشر التعليمات، في مشهد غير مسبوق في المغرب من حيث البنية التنظيمية الرقمية الخالصة.
هذا النمط من التنظيم «اللامركزي–المغلق» جعل السلطات ووسائل الإعلام التقليدية في موقع ردّ الفعل، إذ لم تعد قادرة على التقاط لحظة التأسيس ولا خطوط التنظيم بسهولة، كما لم تظهر رموز قيادية واضحة أو شعارات مركزية يمكن البناء عليها في التغطية.

ثالثاً: التمويل والسؤال المشروع

يثير هذا النمط من التنظيم تساؤلاً محورياً: كيف لمنصة رقمية مغلقة مثل ديسكورد أن تقدّم كل هذه الخدمات المتقدمة مجاناً؟ ومن أين تأتي قدرتها على دعم مساحات صوتية ومرئية ضخمة دون مقابل مباشر من المستخدمين؟ هذا السؤال مشروع، ويفتح باباً واسعاً لفهم علاقة الشركات الرقمية الكبرى بالبنى الاجتماعية والسياسية الجديدة التي تولد في فضاءاتها، خاصة حين تتحول هذه الفضاءات إلى أدوات تعبئة وتنظيم فعالة في لحظات احتجاجية.

رابعاً: لماذا تجاهلت القنوات الكبرى الحدث جزئياً؟

رغم أهمية الحدث، لوحظ أن القنوات العربية الكبرى لم تُولِه مستوى الاهتمام الذي حظيت به احتجاجات مماثلة في دول أخرى. يمكن تفسير ذلك بعدة عوامل عملية وسياسية:

1. ضعف المواد الميدانية المصوّرة بسبب طبيعة التنظيم المغلق وصعوبة وصول الصحفيين إلى نقاط التجمع.


2. التحفظ الدبلوماسي تجاه المغرب، بوصفه دولة ذات وزن إقليمي، ما يجعل بعض المؤسسات الإعلامية تتحاشى الظهور بمظهر «التحريض».


3. تزاحم الأولويات الخبرية، إذ تزامنت الاحتجاجات مع أحداث دولية أخرى استحوذت على الشاشات.


4. غياب سردية قيادية واضحة، فالإعلام التقليدي ما زال يعتمد على رموز أو بيانات مركزية لبناء التغطية، وهو ما غاب تقريباً في الحالة المغربية.



خامساً: «بشر رقميون» يقودون الشارع

النتيجة المدهشة أنّ الفعل الاحتجاجي في المغرب بدا كأنه يُقاد من قنوات رقمية لا من زعامات ميدانية تقليدية. ما جعل بعض المراقبين يصفون الحركة بأنها «تنظيم بشري رقمي»، يتصرف كجسد افتراضي واحد موزع على مئات الأجهزة، بلا مركز قيادي مرئي.
وهنا تبرز فرضية أن الذكاء الصناعي والمنصات الذكية ليست مجرد أدوات محايدة، بل أصبحت فاعلاً حقيقياً في إنتاج الحراك وتوجيهه، ولو بطريقة غير مباشرة، عبر توفير البنى التحتية والتنظيمية التي لم تكن متاحة من قبل.

خاتمة

الاحتجاج المغربي الراهن لا يمكن قراءته فقط كحدث اجتماعي أو سياسي، بل بوصفه علامة على تحوّل جذري في أنماط التعبئة والتنظيم. فبينما كانت الثورات السابقة تبدأ من الشارع وتنتقل إلى الفضاء الرقمي، نرى اليوم العكس تمامًا: تنظيم يولد في المنصة، ويُختبر في الشارع.
لكن مهما كانت مصداقية المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي تعبّر عنها هذه الحركة، يبقى الموقف منها محكومًا بدرجة من التحفّظ الواعي ما دام الغموض القيادي يلفها، وما دامت تفتقر إلى برنامج مطالبي واضح ومتماسك يمكن من خلاله تحليل أبعادها السياسية والاجتماعية بدقة.

إن إصدار حكم نهائي على هذه الموجة الاحتجاجية يجب أن يكون مرهونًا بتبلور خطاب وبرنامج يعكسان إرادة سياسية واجتماعية حقيقية، لا مجرد تدفقات رقمية غير محددة المعالم. فـالتحفظ المبدئي في مواجهة الحركات ذات التنظيم الرقمي الغامض ليس ترفًا فكريًا، بل هو مبدأ ضروري لمواجهة احتمالات الطغيان الرقمي وابتزازاته، التي قد تحوّل التعبئة الشعبية المشروعة إلى أدوات عمياء في يد قوى غير مرئية.