الناخب كفاعل مضاد للمصلحة العامة: قراءة في تشوّه الوعي الانتخابي العراقي


ليث الجادر
2025 / 10 / 6 - 14:05     

لم تعد الإشكالية السياسية في العراق محصورة في فساد الطبقة الحاكمة أو عجزها البنيوي عن إنتاج دولة فعالة، بل باتت تمتد إلى السلوك الانتخابي نفسه، بوصفه أحد أبرز العوامل التي تعيد إنتاج الأزمة السياسية مع كل دورة انتخابية. فالعملية الانتخابية التي كان يُفترض أن تكون أداةً للتعبير الشعبي وتداول السلطة، تحولت إلى أداةٍ لإعادة تدوير نفس القوى، ونفس التوازنات المختلة، ونفس الخراب العام، عبر صناديق الاقتراع ذاتها.
وهذا التحول لا يمكن تفسيره فقط بتزوير الانتخابات أو تحكم الأحزاب، بل لا بد من الالتفات إلى المسؤولية الاجتماعية والسياسية للناخبين أنفسهم، الذين يمارس قسمٌ منهم أدوارًا مضادة للمصلحة العامة، إمّا عن وعيٍ انتهازي، أو عن جهلٍ سياسي عميق.

البنية الاجتماعية للناخب العراقي

يتوزع الناخب العراقي على طيفٍ واسع من الانتماءات الطبقية والمناطقية والطائفية، الأمر الذي يجعل سلوكه الانتخابي معقدًا ومركّبًا. فالريف، على سبيل المثال، غالبًا ما يخضع لمنظومات الزعامات المحلية والعشائرية والدينية، ويصوت على أساس الولاء الشخصي أو المذهبي أكثر مما يصوت وفق برامج سياسية. أما في المدن، فتغلب الاعتبارات الطائفية والزبائنية الاقتصادية، حيث أصبحت شبكة المصالح اليومية (الوظائف، الرواتب، الخدمات) مرتبطة بشكل مباشر بولاءات انتخابية.
هذا الواقع البنيوي خلق ناخبًا غير مستقل سياسيًا، تحكمه إما اعتبارات الهوية المغلقة أو المصالح الفردية الضيقة، في غياب شبه تام لأي وعي جماعي بالمصلحة العامة.

الانتهازية والجهل الانتخابي

ثمة نمطان رئيسيان يتكرران في كل دورة انتخابية:

1. الناخب الانتهازي الواعي: وهو الذي يدرك تمامًا فساد من يمنحه صوته، ويعي خطورة إعادة انتخابه، لكنه يختار دعمه لأنه يحقق له مصلحة مباشرة، كالحفاظ على وظيفة، أو امتيازٍ مناطقي، أو مكسبٍ مالي، ولو كان ذلك على حساب عموم المجتمع. هذا السلوك يجعل الناخب شريكًا فعليًا في تكريس الفساد، لا مجرد ضحية له.


2. الناخب الجاهل أو غير الواعي: وهو الذي يُقاد بعواطفه الطائفية أو المذهبية أو العشائرية، دون إدراك للنتائج السياسية والاقتصادية المترتبة على خياره. هذا النمط لا يقل خطرًا، لأنه يُساق بسهولة في الحملات الانتخابية الشعبوية، ويُستخدم لتثبيت القوى التقليدية في مواقعها.



كلا النمطين يساهمان — كل بطريقته — في إنتاج نتائج انتخابية مضادة للمصلحة العامة، ويمنحان الغطاء الشعبي لاستمرار البنية السياسية المشوهة.

غياب المساءلة الاجتماعية

يُعامل قرار الناخب في العراق وكأنه شأن شخصي بحت، محصّن من أي نقد اجتماعي أو محاسبة مدنية. فلا توجد تقاليد اجتماعية أو ثقافية تجعل التصويت فعلًا مسؤولًا تجاه الجماعة السياسية. في المقابل، في العديد من المجتمعات التي تمتلك حسًا مدنيًا متطورًا، يتحول الخيار الانتخابي إلى موضوع نقاش وجدال علني، ويُحاسَب الفرد اجتماعيًا على خياراته إذا كانت تضر بالمصلحة العامة.
هذا الغياب للمساءلة الاجتماعية جعل الناخب الانتهازي أو الجاهل يتحرك بحرية دون أن يشعر بأي ضغط أخلاقي أو سياسي من محيطه.

مساءلة الناخب في المجتمعات ذات الحس المدني

في المقابل، تُظهر تجارب عدد من المجتمعات التي تمتلك حسًا مدنيًا متطورًا كيف يمكن للخيارات الانتخابية أن تتحول إلى موضوع مساءلة اجتماعية علنية، وليس مجرد قرار فردي مغلق.
ففي ألمانيا، على سبيل المثال، يُنظر إلى التصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة على أنه موقف سياسي وأخلاقي يستدعي النقاش والمحاسبة، وغالبًا ما يواجه الداعمون لهذه التيارات عزلة اجتماعية أو حوارات حادة في أماكن العمل والجامعات.
أما في الولايات المتحدة، فقد تصاعدت في السنوات الأخيرة حملات مجتمعية تحمل شعارات من قبيل “your vote has consequences” (صوتك له تبعات)، محوّلةً التصويت إلى فعل خاضع للرقابة الاجتماعية داخل الأحياء والعلاقات اليومية، بحيث يُحاسَب الفرد سياسيًا على خياره.
وفي السويد، حيث الثقافة المدنية راسخة، يُتوقع من المواطن أن يصوت وفق المصلحة العامة لا وفق المصلحة الضيقة، ومن يدعم التيارات الشعبوية أو المعادية للمهاجرين يواجه مساءلة علنية في محيطه الاجتماعي.
هذه الأمثلة لا تعني أن تلك المجتمعات مثالية، لكنها تؤكد أن التصويت هناك يُعامل بوصفه فعلًا سياسيًا ذا تبعات اجتماعية، وليس رأيًا شخصيًا محصنًا من النقد، وهو ما يخلق وعيًا انتخابيًا جماعيًا يضغط على الأفراد لتبنّي خيارات أكثر مسؤولية.

الحاجة إلى حركة اجتماعية توبيخية

لم يعد كافيًا توجيه النقد إلى الأحزاب والسلطة وحدها؛ لا بد من هزّ أكتاف الناخبين أنفسهم. يجب أن تنشأ حركة اجتماعية نشطة تفضح السلوك الانتهازي والجهل السياسي، وتعيد تعريف التصويت باعتباره مسؤولية جماعية لا خيارًا فرديًا معزولًا.
ينبغي أن يُوبَّخ هؤلاء الناخبون اجتماعيًا، لا بمعنى الإقصاء أو العنف، بل بمعنى فضح خياراتهم سياسيًا، ومساءلتهم علنًا، وخلق وعي جمعي يجعل من السلوك الانتخابي موضوعًا للمحاسبة الأخلاقية والمدنية. فالديمقراطية لا تستقيم فقط بقوانين الانتخاب، بل أيضًا بثقافة انتخابية مسؤولة.

خاتمة

من دون إصلاح الوعي الانتخابي، سيظل أي إصلاح سياسي في العراق هشًا وعرضة للانتكاس. فصناديق الاقتراع ليست محايدة؛ إنها تعكس وعي المجتمع أو جهله، أخلاقه أو انتهازيته. وإذا استمر الناخب العراقي على هذا المنوال، فإن العملية الانتخابية ستبقى دائرة مغلقة تعيد إنتاج الأزمة نفسها.
إن بناء حركة اجتماعية تحاسب الناخب وتحمّله مسؤولية قراره هو خطوة أساسية في كسر هذه الدائرة، وفتح أفقٍ سياسي مختل