الجنرال النحيف !!


حسن مدبولى
2025 / 10 / 6 - 13:32     

كان المشير محمد عبد الغني الجمسي كلما اشتعلت الحرب بين مصر وأعدائها وُجد في الصفوف الأولى، وكلما جاء النصر انسحب إلى الظل بشرف مؤثرا الصمت ، جسده كان نحيفا، لكنه كان أحد أعظم العقول العسكرية في تاريخ مصر الحديث،

وُلد الجمسي عام 1921 في قرية البتانون بمحافظة المنوفية لأسرة ريفية متواضعة، التحق بالكلية الحربية بعد قرار حكومة مصطفى النحاس بفتح أبوابها لأبناء الشعب. حيث،تخرج عام 1939 ضابطًا بسلاح المدرعات وشارك في الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية. وبعدها التحق بالمخابرات العسكرية وتخصص في دراسة التاريخ العسكري الإسرائيلي، ليصبح من أبرز من عرفوا عقل العدو وخططه. شارك في خمس حروب كبرى: حرب 1948، العدوان الثلاثي 1956، نكسة يونيو 1967، حرب الاستنزاف، وأخيرًا نصر أكتوبر 1973.

في العدوان الثلاثي كان في قلب النيران، يقاتل وسط الدبابات والغارات بلا خوف. وعندما وقعت نكسة يونيو 1967، لم يهرب أو يبرر الفشل، بل جلس في صمت يراجع الخرائط ويحلل الأخطاء. تقدّم باستقالته، لكن الرئيس جمال عبد الناصر رفضها قائلاً: "الفارس لا يترك الميدان أثناء القتال". ومنذ تلك اللحظة، تولى الجمسي مسؤولية إعادة بناء الجيش من جديد، فعمل رئيسًا لهيئة التدريب، ثم رئاسة هيئة العمليات عام 1972، حيث قاد عملية إعداد القوات المسلحة للمعركة القادمة، مؤمنًا بأن النصر لا يُهدى بل يُنتزع.

خلال حرب الاستنزاف، كان يزور الجبهة باستمرار ويتابع بنفسه استعداد الجنود، ودوّن ملاحظاته الدقيقة في دراسته الشهيرة التي عُرفت باسم "كشكول الجمسي"، وهي دراسة علمية شاملة حدد فيها التوقيت الأمثل للهجوم على أساس دقيق من تحليل سرعة التيار في قناة السويس واتجاه الرياح والعوامل الجغرافية والمناخية. كانت تلك الحسابات جزءًا من التخطيط الدقيق الذي جعل يوم السادس من أكتوبر 1973 يومًا لتاريخ جديد.

في معركة العبور، كان الجمسي أحد العقول المفكرة خلف العمليات، ينسق بين الخطة والواقع، بين العلم والإرادة. وحين جاءت أزمة الثغرة في الدفرسوار، ووقع الخلاف بين الرئيس أنور السادات والفريق سعد الدين الشاذلي، أُقيل الأخير فتولى الجمسي رئاسة الأركان، حيث قام بوضع خطة محكمة سُمّيت "شامل" لمحاصرة القوات الإسرائيلية وتدميرها، لكن قرار وقف إطلاق النار حال دون تنفيذ تلك الخطة،

بعد النصر، اختاره السادات لقيادة المفاوضات مع إسرائيل عام 1974، لخبرته الواسعة ودرايته بتركيبة العدو. هناك، أطلقت جولدا مائير عليه لقب "الجنرال النحيف المخيف"، إذ كان صارمًا وبارد الأعصاب، يجلس خلف طاولات المفاوضات كما لو كان في ساحة معركة. لم ينسَ الإسرائيليون يوم غادر القاعة دون أن يصافح الجنرال ياريف، ثم عاد متجاهلًا البروتوكولات ليترأس الوفد المصري بثبات. وفي إحدى الجلسات، أبلغه هنري كيسنجر بموافقة السادات على انسحاب أكثر من ألف دبابة وسبعين ألف جندي مصري من الضفة الشرقية، رفض الجمسي القرار بشدة وسارع بالاتصال بالرئيس، واتضح عدم صحة ذلك الكلام، فكانت لحظة صدمة نادرة في وجه الأمريكيين والإسرائيليين على السواء.

وللمفارقة انه في العام نفسه عُيّن وزيرًا للحربية، وكان آخر من حمل هذا اللقب قبل أن يتحول إلى "وزيرا للدفاع"، ثم قائدًا عامًا للجبهات العربية عام 1975.

غير أن القدر كان يُخبئ له مفارقة موجعة، فقبل يوم واحد من الذكرى الخامسة لنصر أكتوبر، في الخامس من أكتوبر 1978، صدر قرار بإقالته من منصبه. تقبّل الرجل القرار في صمت، دون مرارة أو تبرير، كجندي أنهى معركته بشرف وترك الميدان بهدوء. وهكذا ظل الجمسي حتى آخر أيامه: يعطي دون أن يطلب، ويصمت حين يحق له الكلام.

نال المشير الجمسي أرفع الأوسمة والنياشين المصرية والعربية، أبرزها وسام نجمة الشرف العسكرية ووسام التحرير ووسام الجمهورية. ومع مرور الزمن، بقي اسمه حاضرًا في ذاكرة القوات المسلحة المصرية والعالمية، حيث يُدرّس فكره في الأكاديميات العسكرية كواحد من أعظم خمسين قائدًا عسكريًا في التاريخ الحديث.

وفي السابع من يونيو عام 2003، رحل المشير محمد عبد الغني الجمسي عن عمر يناهز الثانية والثمانين، بعد حياة نذرها للوطن وللشرف العسكري. رحل كما عاش: نظيف اليد، شامخ الرأس، قليل الكلام، كثير الفعل. ترك وراءه إرثًا لا يضاهى من الانضباط والتواضع والعقلانية، وتجسّد فيه معنى الجندي الحقيقي الذي لا يصنع الضوضاء حين ينتصر، ولا يبرر حين يُقصى. كان بالفعل "الجنرال النحيف الصامت" الذي قاتل في كل حروب مصر... ولم يسقط يومًا.