الازدهار بلا فرص للعمل: ماذا يُحتم؟


ليث الجادر
2025 / 9 / 29 - 14:09     

يشهد العالم لحظة مفصلية مع بروز الذكاء الاصطناعي المتقدم كقوة اقتصادية قادرة على إعادة تشكيل طبيعة الإنتاج والتوزيع والعمل في مجتمعات دول مراكز الرأسمال. التقرير الذي نشرته أكسيوس في أيلول/سبتمبر 2025 قدّم صورة دقيقة لهذه المفارقة: الأسواق المالية تنتعش بفعل الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، فيما سوق العمل يفقد زخمه، فلا تُخلق وظائف جديدة بالقدر الكافي. كأننا أمام اقتصاد يفيض بالثروة لكنه يتراجع في توفير أبسط شروط الأمان الاجتماعي للعمال.

هذه الظاهرة تمثل قطيعة مع العلاقة التي سادت خلال القرنين الماضيين بين النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. في زمن الثورة الصناعية كان كل توسع في الإنتاج يعني المزيد من العمال في المصانع، وكل ازدهار اقتصادي يعني بالضرورة زيادة في التوظيف. أما اليوم فالمعادلة تنكسر: بناء مركز بيانات جديد قد يستوعب آلاف العمال لفترة محدودة، لكن تشغيله يحتاج إلى عشرات فقط. السوق يحقق مكاسب رأسمالية كبرى دون أن يمنح المجتمع تعويضًا عبر الوظائف.

الأرقام التي عرضها المقال تؤكد هذه القطيعة. فمعدل البطالة في الولايات المتحدة لا يزال رسميًا عند 4.3%، لكنه يخفي تباطؤًا خطيرًا في خلق الوظائف: 27 ألف وظيفة فقط أضيفت شهريًا في الصيف الماضي مقابل 168 ألف في العام السابق. وحتى حين يفقد العمال وظائفهم، فإن احتمال أن يجدوا وظيفة بديلة خلال عام واحد لا يتجاوز 45%، وهو أدنى مستوى منذ عام 2013. والأخطر أن 38% من الرؤساء التنفيذيين يخططون لتقليص الوظائف، بينما الغالبية العظمى منهم تزيد استثماراتها الرأسمالية، ما يعني أن المال يتدفق نحو التقنية بينما يتقلص نصيب البشر.

هنا يظهر التناقض السياسي–الاجتماعي. فالليبرالية الجديدة التي سادت منذ الثمانينيات قامت على فرضية أن السوق قادر على تحقيق الرفاه العام إذا تُرك حراً، لكن ما يحدث الآن أن السوق ينتج رخاءً للمؤشرات المالية فقط، فيما المجتمع يواجه بطالة بنيوية وعدم استقرار. بهذا المعنى تتحول الليبرالية الجامحة إلى آلية لإقصاء البشر من دورة الثروة، وتُعاد صياغة العقد الاجتماعي بشكل خطير: لم يعد النمو يولد وظائف، ولم يعد العمل يولد أمانًا.

من منظور ماركسي، يبرز الذكاء الاصطناعي كمرحلة جديدة من تراكم رأس المال الصناعي–التقني، حيث تُركز وسائل الإنتاج في أيدي أقلية محدودة، بينما يُقصى غالبية العمالة التقليدية من دائرة القيمة المنتجة. إن الفكرة الماركسية الأساسية عن الفائض المنتج تصبح هنا أكثر وضوحًا: الآلات ونظم الذكاء الاصطناعي تنتج فائضًا هائلًا، لكن هذا الفائض لا يعود إلا على أصحاب رأس المال الرقمي، بينما الطبقات العاملة تتحول إلى مجرد مستهلكة وربما مهمشة في دورة الإنتاج نفسها. يمكن القول إن "الازدهار بلا وظائف" ليس مجرد حالة اقتصادية مؤقتة، بل تجسيد حي لصراع الطبقات الجديد: صراع بين قوة العمل التي فقدت قيمتها الإنتاجية في مواجهة رأس المال التكنولوجي الذي يستحوذ على الإنتاجية والفائض.

في هذه اللحظة التاريخية تستحضر الذاكرة تجربة الكساد الكبير عام 1929، حين انهار السوق الحر وتدخلت الدولة الأميركية عبر "الصفقة الجديدة" لتعيد بناء الاقتصاد على قاعدة الحماية الاجتماعية والضمان والوظائف العامة. ما يفرضه الذكاء الاصطناعي اليوم ليس تكرارًا آليًا لهذه التجربة، بل ما يشبهها من حيث المبدأ: الحاجة إلى سلطة جديدة تلعب دور "الأم الراعية"، سلطة تتدخل لإعادة توزيع الأرباح الرقمية عبر الضرائب، وتوفر دخلاً أساسيًا يحمي الأفراد من البطالة البنيوية، وتؤسس برامج ضخمة لإعادة التأهيل، وتضمن أن لا تتحول التكنولوجيا إلى أداة احتكار بيد قلة صغيرة.

المفارقة إذن ليست في ازدهار الأسهم ولا في ضعف الوظائف وحدهما، بل في انهيار الصلة بين الاثنين. فإذا استمر الاقتصاد في إنتاج الثروة دون تشغيل البشر، فلن يكون أمام المجتمعات سوى خيارين: إما ترك الليبرالية الجامحة تقود إلى اتساع الفجوة بين القلة الغنية والأغلبية المهمشة، وهو مسار لا ينتهي إلا باضطرابات وانفجارات اجتماعية؛ أو بناء سلطة أم–راعية تعيد تعريف وظيفة الدولة باعتبارها ضامنة للتوازن بين رأس المال والعمل، وبين التقنية والمجتمع.

في المقابل، الصين تمثل حالة مغايرة. نظامها السياسي مركزي واشتراكي–سلطوي، حيث تسيطر الدولة على مفاصل الاقتصاد، بما فيها شركات التكنولوجيا الكبرى والاستثمارات في الذكاء الاصطناعي. هذا يتيح للصين توجيه العمالة نحو مشاريع استراتيجية، وتجنب مفارقة "الازدهار بلا وظائف" التي تواجه السوق الحر في الولايات المتحدة. القدرة على التخطيط بعيد المدى تتيح تحويل الابتكار التقني إلى قوة إنتاجية شاملة، بدلاً من مجرد أرباح رأسمالية لمجموعة قليلة، ما يمنحها استقرارًا اجتماعيًا وسياسيًا أكبر.

انعكاس ذلك على الصراع بين أمريكا والصين يظهر جليًا: المنافسة ليست فقط على الأسواق أو التكنولوجيا، بل على نموذج إدارة العمل والإنتاج. الولايات المتحدة تعتمد السوق الحر، ما يخلق فجوات اجتماعية محتملة، بينما الصين تعتمد الدولة المخططة، ما يمنحها قدرة على دمج التكنولوجيا والعمالة بشكل متوازن نسبيًا. هذه الفروقات تشرح جزئيًا طبيعة التنافس الراهن، حيث يشتد الصراع على النفوذ الرقمي والتقني، لكنه في جوهره صراع حول كيفية دمج أو استبعاد البشر من دائرة الإنتاج والثراء.

إن الذكاء الاصطناعي يَعِد بزيادة الإنتاجية وقدرة هائلة على توليد القيمة، لكنه يضعنا في مواجهة سؤال لم يعد اقتصاديًا صرفًا بل سياسيًا وفلسفيًا في العمق: لمن ننمي الاقتصاد؟ إذا كان الناتج القومي يتصاعد بينما حياة الناس لا تتحسن، فإن الشرعية السياسية مهددة، والعقد الاجتماعي مكسور. عند هذه النقطة يصبح واضحًا أن "الازدهار بلا وظائف" ليس مجرد مرحلة انتقالية في السوق، بل علامة على تحوّل تاريخي يحتم إعادة التفكير في دور الدولة، ليس كحارس للسوق فقط، بل كأم حقيقية تحمي أبناءها من أن يُتركوا على قارعة الطريق باسم التقدم، مع ملاحظة أن النموذج الصيني يثبت أنه يمكن دمج التكنولوجيا والعمالة إذا كانت الدولة راغبة في التخطيط والتدخل الاستراتيجي.