إنجلز: العقل المنظم وراء النظرية الماركسية
حازم كويي
2025 / 9 / 26 - 15:39
«معظم ما نعرفه عن الماركسية هو في الأصل لإنجلز»
ترجمة وإعداد: حازم كويي
دراسة لجوفاني سغرو* حول أعمال فريدريك إنجلز ومساهمته في صياغة الماركسية كمنظومة فكرية شاملة. ويسلّط الضوء على دور فريدريك إنجلز في بلورة الماركسية كعقيدة عالمية
في تموز/يوليو من هذا العام صدر كتابه«بين ماركس والماركسية»، الذي تناول فيه دور فريدريك إنجلز في التفكير وفي تطور الماركسية.
والغرض الأساسي من عمله هو التعامل مع إنجلز بوصفه مفكراً مستقلاً وأخذ خصوصيته الفكرية على محمل الجد وتقديرها. وهذا لا يعني تجاهل ثغراته النظرية أو إساءاته في التفسير، بل على العكس، يقتضي إبرازها أيضاً. يتركز الاهتمام في الأساس على النتاج الفلسفي لإنجلز في مرحلته المتأخرة (1873–1895)، وخاصة تفسيره للديالكتيك الهيغلي وتقييمه للدور الذي أدّاه فويرباخ في تفكك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية وفي بلورة الفهم المادي للتاريخ.
ماركس وإنجلز يُذكران غالباً في سياق واحد، لكنه يؤكدعلى استقلالية إنجلز. لماذا؟
لقد شدّد أنطونيو غرامشي بالفعل في ثلاثينيات القرن العشرين على هذه النقطة، ويرى أنه من الضروري حتى اليوم التمييز بين إنجلز وماركس. ليس لأن ولاء إنجلز موضع شك، بل لسبب بسيط هو أن إنجلز ليس ماركس. فبدلاً من دمج الاثنين بشكل غير مُميز في ما يشبه «ثالوثاً مقدساً»، فهو يعتقد أن المهم هو إعادة إبراز الاختلافات المميزة والاختصاصات المعرفية الخاصة بكلٍّ منهما والتأكيد عليها.
ولكن ما الذي يميز فلسفة إنجلز عن فلسفة ماركس؟
وفقاً لإنجلز، فإن العلاقة بين الديالكتيك المادي والديالكتيك المثالي هي علاقة تضاد قطبي وانعكاس مرآوي. ومع ذلك، ظلّت البنى الأساسية لقوانين الحركة الجدلية صالحة وغير متغيّرة لدى الاثنين، تلك القوانين التي وصفها هيغل وصفاً صحيحاً، وإن كان قد غلّفها بقشرة صوفية. إنجلز يعرض قلب الديالكتيك المثالي الهيغلي بوصفه مجرد عكس للاتجاه: فالقوانين الثلاثة للديالكتيك المادي (تحوّل الكم إلى كيف والعكس، صراع الأضداد، ونفي النفي) هي القوانين نفسها التي صاغها هيغل. الخطأ الوحيد عند هيغل، بحسب إنجلز، كان في أنه فرض هذه القوانين «من فوق» كقوانين للفكر، بدلاً من إشتقاقها «من تحت» من الطبيعة والتاريخ.
ويمكن تقديم مثال يوضح الفرق بين مواقف إنجلز وماركس؟
وذلك من خلال مفهوم الحرية. عند هيغل تتيح مقولة التفاعل الانتقال من مملكة الضرورة العمياء إلى مملكة الحرية الواعية. وبالطريقة نفسها، تتمثل الحرية عند إنجلز في إدراك الضرورة والوعي بقوانين الطبيعة الحتمية، التي تُخضع في انتقالها من الـ«في ذاته» إلى الـ «لذاته» لحيز السيطرة البشرية، فتتحول بذلك من كونها «في ذاتها» إلى كونها «لأجلنا». على النقيض من إنجلز (وهيغل)، فإن مملكة الحرية عند ماركس لا تقوم ببساطة على الوعي بقوانين الطبيعة والتاريخ وتطبيقها عن معرفة تامة، بل تبدأ (ولا تبدأ إلا) مع تقليص يوم العمل، أي مع التحرر من عبودية العمل المأجور.
بنية كتاب سغرو تبدأ أولاً بتحليل وظيفة مقولة "التفاعل" في النظام الجدلي للطبيعة، الذي طوّره إنجلز في كتابه غير المكتمل «ديالكتيك الطبيعة» وكذلك في ما يُعرف بـ «ضد دوهرينغ». ومن هناك أعيد بناء الطيف الواسع والمتنوع من موضوعات أعمال إنجلز بين عامي 1883 و1895، ويصل في الفصل الثالث إلى كتيّبه الثقافي-السياسي عن فويرباخ الصادر عام 1886. بعد ذلك أعيد بناء الاستراتيجية التي اتبعها ماركس وإنجلز بين عامي 1867 و1895 للدفاع عن تصورهم المادي للتاريخ في مواجهة سوء الفهم والتأويلات الخاطئة المتزايدة من قِبل نقّادهم. وفي الفصل الخامس والأخير يُقَوم النتائج المتحصلة من منظور تاريخ الفلسفة، ويتناول الفروق بين إنجلز وماركس. وهنا أيضاً يتضح الدور الذي لعبه إنجلز في تأسيس الماركسية، أي في عملية تحوّل النظرية النقدية الأصلية لماركس إلى الماركسية كعقيدة عالمية.
وعن مدى إسهام إنجلز، ومسؤوليته في تشكّل الماركسية كعقيدة عالمية والفاعلين الآخرين المُهمين،يُقدرسغرو دور إنجلز الأساسي في تأسيس الماركسية كعقيدة شاملة. ولا سيما عمله المكثّف في تبسيط الماركسية ونشرها، والذي قدّمه على نحو نموذجي في كتابه «ضد دوهرينغ»، كان له أثر حاسم في الانتشار العالمي للماركسية ـ ويمكن اعتباره بحق مؤسّس الماركسية كعقيدة عالمية. ومن الفاعلين الآخرين المهمين في هذا المسار نذكر: إدوارد برنشتاين (1850–1932)، وكارل كاوتسكي (1854–1938)، وغيورغي بليخانوف (1856–1918)، ورودولف هيلفردينغ (1877–1941).
ويرى سغرو في وجود «إنجلزية» خاصة أيضاً في عملية تحويل النظرية النقدية الأصلية لماركس إلى الماركسية كعقيدة شاملة ـ سواء كان ذلك عن وعي أو، والأرجح، دون وعي؛ سواء كان مقصوداً أو، والأرجح، غير مقصود ـ قد تم تحضيرها وبدأها إنجلز نفسه في أعماله التي تهدف إلى التبسيط والنشر، مثل «ضد دوهرينغ» و«فويرباخ». لقد تم بناء المادية الجدلية أساساً من كتابات إنجلز المتأخرة، ولهذا أعتقد أنه يمكن القول إن الجزء الأكبر من «الماركسية» في القرن العشرين لم يكن في أفضل الأحوال سوى «إنجلزية» أكثر أو أقل وعياً.
العمل على النسخة الألمانية من كتابه أتاحت له فرصة التحقق من جميع الاقتباسات، وإدراج مقاطع نصية جديدة، ودمج الهوامش الطويلة ضمن النص الرئيسي، كما أتاحت له إعادة تحرير النص بالكامل بشكل كبير. أما الأدبيات الجديدة حول هيغل وفويرباخ وإنجلز وماركس، فلم يكن بالإمكان الاستعانة بها إلا بشكل انتقائي ومقتضب في الهوامش. إن الاستيعاب المكثف والنقاش المفصّل للوفرة الهائلة من المنشورات خلال السنوات الثماني الماضية يحتاج إلى وقت مناسب ومساحة كافية، ولهذا لم يكن بالإمكان تضمينها في هذا الكتاب.
في هذا السياق ينبغي دراسة الأسئلة التالية كما يراها سغرو:
أولاً، يبدو من الضروري أن تؤخذ بعين الاعتبار الدراسات العديدة التي صدرت خلال العقد الماضي حول هذه الموضوعات وأن نناقشها نقدياً. استناداً إلى هذا الأساس، الذي دعمه بشكل خاص المجلدات الجديدة من «المجموعة الكاملة لأعمال ماركس وإنجلز»، ينبغي أن يتم توضيح التمييز بين فكر ماركس وفكر إنجلز بدقة أكبر: أي المفاهيم تعود بوضوح إلى ماركس، وأيها تمثل إسهامات إنجلز الخاصة؟ كما يهم معرفة كيف تبنّى أو غيّر ماركسيون آخرون، مثل كاوتسكي، لوكسمبورغ، لينين والمنظرون اللاحقون، هذه الملاحظات أو الإضافات التي أتى بها إنجلز. وأخيراً، يمكن تقييم حداثة فكر إنجلز: ما مدى صلة فلسفة إنجلز بالجدل الاشتراكي والبيئي المعاصر؟
جوفاني سغرو*: أستاذ مشارك في تاريخ الفلسفة بجامعة e-Campus في نوفيدراتي (كومو/إيطاليا). وقد أصدر العديد من المنشورات حول هيغل، ماركس، إنجلز وماكس فيبر. كما ترجم أعمال ماركس وإنجلز إلى الإيطالية، وهو محرر للعديد من المجلدات الجماعية حول هذا الموضوع. وصدر له كتابه «بين ماركس والماركسية: فريدريك إنجلز ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» .