فخ ثوسيديديس.. قناع إغريقي لتبرير الصراع الأمريكي–الصيني
ليث الجادر
2025 / 9 / 23 - 16:13
حين نشر الباحث الأمريكي غراهام أليسون كتابه الشهير ( هل محكومون بالحرب ...امريكا والصين عام 2017،) وأعاد فيه صياغة عبارة ثوسيديديس عن خوف إسبرطة من صعود أثينا باعتبارها "فخًا" يفسر اندلاع الحروب بين القوى المهيمنة وتلك الصاعدة، وجدت النخبة السياسية والإعلامية في واشنطن أداة مثالية لتسويق رؤيتها. سرعان ما تحوّل "فخ ثوسيديديس" إلى شعار جاهز يتردد في المؤتمرات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأمريكية كلما طُرح سؤال عن العلاقة مع الصين، وكأن التاريخ يحكم على الأمريكيين بالحرب الحتمية.
غير أنّ هذا الاستدعاء يكشف عن وظيفة أيديولوجية أكثر مما يعكس حقيقة تاريخية. فالأمريكيون، في لحظة يشعرون فيها بأن هيمنتهم تتآكل، يحتاجون إلى قصة مقنعة يقدمونها لشعبهم، ولا شيء أنسب من تحويل صراع قديم بين مدينتين يونانيتين إلى "قانون" يفسر ضرورة المواجهة مع بكين. وهنا يظهر جوهر الخدعة: ما يُسوَّق كحتمية تاريخية ليس سوى ذريعة لتغطية مصالح استراتيجية واقتصادية معقدة، لا علاقة لها بما حدث في القرن الخامس قبل الميلاد.
هكذا يصبح "فخ ثوسيديديس" أداة خطابية تسوّق الخوف وتقدمه على أنه حقيقة موضوعية لا مهرب منها. فإذا كانت إسبرطة قد خشيت صعود أثينا فاندلعت الحرب، فالأمريكي العادي يُقال له اليوم: لا عجب أن نخشى صعود الصين، فهذا ما تقتضيه طبائع التاريخ. ومن هنا تُصبح كل سياسة عدائية تجاه بكين مجرد ترجمة لقدر تاريخي محتوم، لا خيار سياسي قابل للنقاش.
لكن أي قدر هذا، إذا كان أكبر دائني واشنطن هي بكين نفسها؟ وأي خوف هذا، إذا كان السوق الأمريكي مفتوحًا حتى التخمة أمام البضائع الصينية، بينما لا يمكن لاقتصاد الصين أن يعيش خارج الدولار الأمريكي؟ إن العلاقة بين الدولتين ليست علاقة خصمين يتهيآن لمجابهة نهائية، بل علاقة مشبّعة بتناقض غريب: مواجهة سياسية وإعلامية، مقرونة بتشابك اقتصادي يجعل كل طرف رهينة للآخر. فهل كان بين إسبرطة وأثينا شيء كهذا؟ كلا.
إن الذين يصرّون على "فخ ثوسيديديس" يتجاهلون أن خطوط الإنتاج الأمريكية تعتمد على العمالة الصينية الرخيصة، وأن شركات التكنولوجيا الصينية تحتاج السوق الأمريكي كي تحافظ على وتيرة نموها. يتغاضون عن أن وول ستريت تستثمر في البورصة الصينية، وأن الصين تموّل جزءًا من عجز الخزانة الأمريكية. كيف يمكن إذن اختزال هذه الشبكة المعقدة إلى مجرد "خوف" من الصعود؟ إنها ليست قراءة للتاريخ بل تلاعب به، وليست رؤية للعالم بل خدعة سياسية لتغطية مصالح مادية يجري إخفاؤها عن الجمهور.
بل الحقيقة أعقد وأكثر إثارة للسخرية: العلاقة الأمريكية–الصينية ليست خصومة بسيطة بل شراكة غير مرئية، تجمع بين الاعتماد الاقتصادي المتبادل والتهديد السياسي الظاهر. فالولايات المتحدة تحتاج السوق الصيني لاستمرار أرباح شركاتها الكبرى، والصين تحتاج السوق الأمريكي لتمويل نموها الصناعي والحفاظ على استقرار اقتصادها الداخلي. أي أن الخصومة المعلنة في الإعلام الأمريكي لا تلغي حقيقة التبادل الاقتصادي العميق، ولا تحل محل شبكة مصالح مترابطة تجعل كل طرف لا يستطيع تجاهل الآخر.
من هنا يغدو "فخ ثوسيديديس" ليس أداة لفهم الواقع بل قناعًا إغريقيًا تخفي الولايات المتحدة خلفه سياساتها. فإذا كان لا بد من اسم آخر لهذه الحالة، فهو "فخ التبعية المتبادلة"، حيث الخصومة لا تنفصل عن الحاجة، والمواجهة لا تلغي الشراكة. وحين يُقال للأمريكي إن التاريخ يحكم بالمواجهة، فإن ما يُحجب عنه هو أن هذا "العدو" المزعوم شريك في إنعاش أسواق بلاده وفي سدّ فجوات موازنته.
والأدهى أن الإعلام الأمريكي يشارك في هذه اللعبة بحماسة. فبدل أن يكشف للجمهور حقائق الاقتصاد المتشابك، يكرر على مسامعه رواية "الفخ" كأنها نبوءة علمية، ويعرض الخبراء الذين يرددونها بوصفهم أصواتًا محايدة. الإعلام هنا لا يفسر الواقع، بل يُنتج وعيًا زائفًا يحشد الرأي العام خلف سياسة صدامية. وهكذا تتحول شاشات الأخبار ومراكز الأبحاث إلى مصانع للرواية الرسمية، تبيع للمواطن قصة إغريقية قديمة كي تبرر له سياسات معاصرة لا يمكن الدفاع عنها علنًا دون قناع.
وبهذه الصورة، يصبح نقد التشبيه بين الصين وأمريكا ضرورة ليس فقط فكرية، بل سياسية، لأنه يفضح كيف يُسوَّق التاريخ ليخدم مصالح راهنة، وكيف تتحوّل أحكام التأريخ الغابر إلى أدوات لإخفاء الحقائق الاقتصادية والسياسية المعقدة.