كارل ماركس فيلسوف أفسده الشيوعيون فلسفياً
عائد ماجد
2025 / 9 / 7 - 12:03
قبل مدة ليست بالبعيدة، قبل أشهر من الآن، كتبتُ مقالةً انتقدتُ فيها الأيقونة الماركسية اجتماعيًّا من نواحٍ عديدة، ومسستُ من بعيدٍ أماكن التحريف لفكر كارل ماركس. كانت المقالة بعنوان مباشر، فكان عنوانها: “كارل ماركس فيلسوف أفسده الشيوعيون”. حصلت هذه المقالة على العديد من الردود من قبل الإخوة، بعضهم قابل بعض المقالة بالتأييد، وبعضهم قابل بعضها بالرفض، وبعضهم قابل المقالة بالكامل بالرفض التام، وكما وصفها أحدهم: “هراء في هراء لا علاقة لها بفكر ماركس الحقيقي”.
فبعد أن رأيتُ دخول بعض الإخوة إلى ساحة الفكر، كان يجب أن أتدخل بمقالة تمس الفلسفة الماركسية ولا تمس الإيديولوجيا اللينينية، فهناك فرق بينهما، وسأُبيّن فيما يلي أين يقع هذا الفرق.
وبدايةً، لا يمكننا تجاهل أحد أهم النقاط التي غيّرها لينين في فلسفة ماركس، وهي تحويلها إلى إيديولوجيا نضالية بعد أن كانت فكرة فلسفية نظرية كما طرحها ماركس في مؤلفاته. بل ولماركس كتاب ينتقد فيه الشيوعية اللينينية بشكل واضح، رغم أنها جاءت بعده، وهذا في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية”، لأن ما قدمه من انتقاد لفكرة الإيديولوجيا ينطبق بالحرف على الإيديولوجيا اللينينية. وبإمكان كل من يريد معرفة هذا أن يذهب لأحد مواقع الشيوعيين التي تنشر مؤلفات ماركس بشكل ملفات إلكترونية – بدون علم منهم بأنها تمس الإيديولوجيا اللينينية – فعلى كل من يريد معرفة كيف نقد ماركس الإيديولوجيا أن يشرع في قراءة هذا المؤلف.
ولنعد إلى أفكار ماركس. فكل من قرأ أفكار ماركس يعلم أن ماركس قدم مفهوم الديالكتيك الذي استقاه من هيغل، لكن حوّله من مثالي إلى مادي، فقدم المفهوم على أن التناقضات في المجتمع والصراع بين الطبقات، وأثر المادة من اقتصاد وحال سياسي، يؤدي إلى حركة التاريخ. وهذا ما حوّله لينين بشكل كامل، حيث ألغى مفهوم الوعي الطبقي لكي يحتكر الوعي الطبقي في إيديولوجيا ونخبة – الحزب الشيوعي – لكي يمثل كل الوعي الطبقي. هذا ما أدى إلى تحول الديالكتيك إلى إيديولوجيا، وليس أداة فهم للواقع، بل وحوّل الديالكتيك إلى إيديولوجيا تمثل الدولة وتعاملاتها الرسمية. ومع وجود طبقة الحكم – الحزب السياسي – الذي وضعه لينين كالقائد للأمة الماركسية، وُضِعَ مفهوم يسمى “دكتاتورية البروليتاريا”، التي يمثلها الحزب الشيوعي الحاكم. بذلك، تكون السلطة المطلقة بيد هذا الحزب، ليُلغي الوعي الطبقي، فأصبح كل شيء يدور حول الحزب. ولا أحتاج لشرح كيف حدث هذا، فإن التجربة السوفييتية موجودة لكي نفهم منها كيف حدث هذا، وكيف تم إلغاء الرأي والفكر والجدل تمامًا داخل الاتحاد السوفييتي “اللينيني”، بحيث إن الطبقة التي كان مُقدّرًا لها أن تحكم، وهي “البروليتاريا”، أُلغي فيها الرأي أيضًا.
وأحد التناقضات الجلية النظرية في اللينينية هو أننا يجب أن نحرر الإنسان من قيوده ونتخلص من الظلم ونبسط العدل، كما دعا ماركس. بعيدًا عن ما حدث فعلاً في الاتحاد السوفييتي، فهذه فكرة غبية إن تم تطبيقها بمفهوم لينين، لأنه حرفيًّا لم يُلغِ الطبقات، بل وضع طبقة فوق طبقة. أي أن موقفه لم يكن إنسانيًّا ببادئ الأمر حسب هذه الفكرة، بل بمن تقع عليه الظلامة. ماركس أشار إلى إلغاء الطبقية، وليس إلى دكتاتورية الطبقة المظلومة حاليًّا على الطبقة الظالمة، فتنعكس الأدوار فيهما، بعد فتحتاج الطبقة المظلومة – الظالمة سابقًا – إلى “لينين رأسمالي” لكي يحررها، ولا حل غير هذا الحل.
وتم على إثر كل ما دعا له لينين من تناقضات، أن رأينا انتقادًا لاذعًا لها فيما بعد من فلاسفة كبار، أمثال الفيلسوف الكبير هربرت ماركوز، في كتب له مثل: “الماركسية، الثورة واليوتوبيا”.
فلو فرضنا أن ما قدمه لينين هو ما قاله ماركس فعلاً، رغم التحريف الواضح، فإن ماركس الفيلسوف العبقري بمعنى الكلمة، صاحب إحدى أكبر الأفكار النظرية الفاشلة في تأريخ البشرية. لكن الواقع هو أن ماركس لم يكن صاحب هذه النظرية الفاشلة، بل لينين كان صاحبها، ونجد إلى اليوم من يستميت لها على أنها فكرة ماركس، رغم أنها ليست فكرة ماركس، وليست فكرة ناجحة، بل أثبتت فشلها على مدار ما زاد عن قرن من الزمن، بدول دكتاتورية عسكرية يحكمها حزب واحد، لا يوجد فيها جدال طبقي، لأن من يحكم كل الطبقات طبقة أعلى، وهي الحزب، وتدّعي بأنها تمثل طبقة البروليتاريا. وأدّت هذه الأحزاب إلى فشل بكل المقاييس، بدءًا من الاقتصاد إلى تطبيق ما ادعوا أنهم يريدون تطبيقه. أساس وضع كارل ماركس لفكرته هو إنهاء الطبقات، لا أنها الحرية، بل ما أراده ماركس هو الحرية، التي لو طلبها بقلمه النقدي داخل الاتحاد السوفييتي “العملاق الماركسي”، لتم قمعه، وقمع من يتكلم بعده بنفس أسلوبه النقدي. وهذا هو الاختلاف الجوهري: لينين جرّم النقد، بينما كان النقد أساس ظهور فكرة ماركس التي حرفها لينين، فتحولت فكرة لينين – كما وصفها ماركوز – من وسيلة لتحرير الإنسان إلى وسيلة حكم دكتاتورية فاشلة تهلك الدول.
فتحول ماركس من فيلسوف إلى أيقونة إيديولوجية بعيدة كل البعد عن فلسفته. فلم يمت فكر كارل ماركس على الورق، فهو موجود، لكن من حملوا صورته على أنه أيقونة قمع، دفنوه حيًّا.