-الدكتورة بان- بين مشرط المافيات وجحيم المنبر!
فارس محمود
الحوار المتمدن
-
العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 00:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مع كل قضية رأي عام تهز المجتمع، تخرج علينا عمائم المنابر ورجال الدين بمواقف لا تنتمي بأي شكل إلى القيم الإنسانية أو المدنية، بل تعادي الإنسان بحد ذاته. ما نشهده ليس "أخلاق" فردية أو زلات لسان، بل مواقف ممنهجة تصدر عن مؤسسة دينية–سياسية تكرّس الظلم والتراتبية وتبرّر الاستغلال والفقر وهدر الكرامة البشرية.
وها هم اليوم يمدّون أعناقهم من جديد نحو قضية الرأي العام الحالية: مقتل الدكتورة بان زياد. بدلاً من الوقوف إلى جانب المظلومة، انبرى أحد خطباء الجمعة للدفاع عن الرواية الرسمية المزعومة التي تبنّاها محافظ البصرة أسعد العيداني، ومجلس القضاء الأعلى، ومن ورائهم مافيات النفوذ.
ورغم أن كل الشواهد والظروف تؤكد أن ما جرى هو جريمة قتل واضحة، لم يكلف الخطيب نفسه حتى محاولة تقديم دليل على "الانتحار"، بل صبّ جام غضبه على الضحية نفسها، مهدداً ومتوعداً بجحيم أبدي، قائلاً:
"الانتحار أعظم عند الله من تدمير الكعبة، من الزنا، من قتل المسلم، من سبّ الله والرسول، وعذابه أشد من الملحد والكافر...، ولهذا فإن مصير المنتحر هو النار والعذاب الأبدي..."
تعاطف جماهيري... وخطبة تهديد!
في الوقت الذي عبّر فيه ملايين الناس، داخل العراق وخارجه، عن حزنهم العميق وغضبهم على مقتل الدكتورة بان، وقلقهم من تغوّل المافيات الحكومية والفساد والعنف ضد النساء، جاء هذا الخطيب لا ليتعاطف مع الضحية ولا ليواسي أهلها واصدقائها والناس، ولا ليعبّر عن رأي "نزيه"، بل ليصطف مع أولياء نعمته من مافيات السلطة، ويقذف بالضحية إلى "نار جهنم" دون خجل أو حسّ إنساني.
أن ما يقوم به هذا المافون ومن لف له هو ليس عمل فردي، بل عمل سياسي، يستهدف تأليب المجتمع على الضحية مستندا الى أكثر الأفكار والقيم رجعية وقرووسطية.
علماُ ان "الإنتحار" هو رواية القتلة وحكومة القتلة وقضاء القتلة. وهي الرواية التي هم يعرفون قبل غيرهم مدى كذبها وبعدها عن الحقيقة. ولكن لاندحة لهم من هذه الرواية، لان ستتلقى مصالحهم المتداخلة ضربة جدية، وسيفترسهم المجتمع الغاضب منهم الى ابعد الحدود.
إنه تقصير"المنتحر؟!!"
ولكن، وبمعزل عن هذا الموضوع، لو نعود الى ظاهرة "الإنتحار" المتفاقمة اليوم بشكل مرعب ومخيف في مجتمع مثل العراق وتحديدأ اثر أكثر من عقدين من حكم الاسلام السياسي في العراق، وبالأخص بين الشباب، فإنها لسذاجة منقطعة النظير أن تحوّل الضحية الى مجرم. تحرم ملايين الشباب من العمل، من المستقبل، من الزواج ومن بناء عائلة كسائر البشر، ومن كل شيء وتسلب حياته وغده ومستقبله وسعادته وفرحه وتدفع البعض جراء الياس وإنعدام الحيلة وغياب العون نحو أن ينهي حياته، وبعدها تأتي لتحمله المسؤولية!!! هذا ليس في مجتمع فقير، بل في بلد ميزانيته بمئات المليارات! وحين يتظاهر تقتلوه! تشيعون الافكار والقيم الرجعية والمتخلفة والذكورية في المجتمع ويتعاظم العنف على النساء إرتباطأ بهذه القيم البالية وتجعلون من حياتهن كابوس لا ينقطع، وتعيش الجحيم يومياً على أيدي الذكور عديمي القيمة والكرامة والانسانية لتردوا ببرود أعصاب ما بعده برود ان مصيرها جهنم!!! انهم عاشوا الجهنم مقدما ودفعوا ثمنه مقدماً! سلبتم منهم كل شيء ولم تبقوا لهم بصيص أمل وبعدها تحاكموهم بكون مصير المنتحر هو كذا وكذا هناك؟! اي إنصاف ومنطق هذا؟!
إن أهم الصفات البشرية هو التعاطف مع معاناة الآخرين، بيد ان هذا التناول والموقف من الانتحار يعبر عن الإفتقاد التام لهذه السمة البنيوية للإنسان. وعادة ما يكون لحالات الانتحار وقع كبير على المجتمع لسبب رئيسي وهو هذا التعاطف مع المعاناة النفسية وانعدام الافاق والجزع الذي يصيب المنتحر قبل ان يلجا الى هذا الخيار الأصعب. ويشعر عدد كبير ممن يعرف المنتحر بالذنب في عدم قدرتهم وقدرة مؤسسات المجتمع من القيام بشئ يحول دون وصول الشخص المنتحر الى هذه الدرجة من المعاناة التي تجبره على انهاء حياته، وخاصة ان هذه الوفيات تكون غير متوقعة وقبل اوانها.
للحيلولة دون وصول الانسان الى هذه الدرجة من المعاناة بحيث يقرر إنسان ما انهاء حياته، تقوم الكثير من المجتمعات بتوفير خبراء نفسانيين على خطوط تلفون ساخنة 24 ساعة في اليوم من اجل التدخل. ولكن تجد قادة الاسلام السياسي ورجال الدين الذين هم السبب الاساسي في زيادة معدل الانتحار في بلد مثل العراق بسبب الظروف الوحشية التي فرضوها على المجتمع، لا يقومون بشئ للتقليل من هذه الظاهرة او على الأقل التعبير عن تعاطف او الشعور بالذنب تجاه هذه الوضعية، بل يلقون باللوم على الضحية. ان سبب هذه المفارقة هي تلك الايديولوجيا والهوية اللتان تسلبهم من اهم صفة انسانية. اذ يصعب فهم التهجم على شخص يضع نفسه في اسوأ مصير يمكن تخيله، وهو قرار انهاء الحياة. اذأ لم تشعر بالتعاطف، او بالذنب على الاقل، دع المنتحر في حاله.
أن أحد أهم أدوار الدين على إمتداد التاريخ البشري هو تبرير الظلم القائم للأنظمة الطبقية الحاكمة. الدين أداة بيد الطبقة الحاكمة لإبقاء عبودية الإنسان مقابل الفتات الذي ترميه الطبقات الحاكمة لرجالات الدين. أنه جزء من بنية وهيكل النظام الرأسمالي.
من صاحب القرار في حياة الأنسان؟!
ولكن وكشيء عام أقول إنه حتى لو جرى إنتحار ما، وهو أمر لا ربط له بموضوع الطبيبة بان إطلاقاً، كيف ننظر له من زاوية إنسانية تقر بالحقوق والحريات والكرامة الإنسانية؟! إن "حق الحياة" هو حق! وحتى "وضع حد أنسان ما لحياته" هو ايضاً حق. إن قرر إنسان ما، بكامل إرادته وعقله، أنه لا يريد ان يواصل حياته لأي سبب كان. كيف تتعامل مع الأمر؟! المسالة، ببساطة تسعى، وقصدي كمؤسسات حكومة ودولة، بكل الإمكانات أن ترد على الظروف الدافعة لقراره هذا، أن تنصحه وأن ترشده وأن توفر الأمكانات اللازمة لتجاوز هذه الظروف ورفعها من حياته بصبر وتاني وطول بال، ولكن إذا قرر رغم هذا أن ينهي حياته، فالانسان هو، في المطاف الأخير ، صاحب الكلمة الاخيرة في حياته ومصيره مهما كان القرار مؤسفاً. إنه مثل ذاك المصاب بمرض مزمن ويقرر لأي سبب كان أن لا يخوض مراحل العلاج ويدع الطبيعة تواصل مسارها. لا فرق!
ولهذا ليس لهذا الأمر ربط بـ"تدمير الكعبة" أو "الزنا" او "سبّ احد"! إنه قرار شخصي صرف، وإن يكن مؤسفاً!
وأخيراً، ما فعله هذا الخطيب ليس زلة، بل موقف سياسي ومؤسسي، يهدف إلى تشويه الضحية والدفاع عن الجاني، وتبرئة سلطة ظالمة ومجرمة. وفي وقت تهتف فيه الملايين: "العدالة لبان!"، وآن الأوان أن يُحاسَب كل من ساهم في قتل بان وكل من من حاول قتل الحقيقة بعدها.
23 آب 2025