-الاقتصاد الرقمي والإنتاج السلعي: إعادة تأكيد الدور المركزي للإنتاج المادي في تراكم رأس المال


ليث الجادر
2025 / 8 / 12 - 15:46     

تشير العديد من الدراسات والتحليلات الاقتصادية المعاصرة إلى أن الإنتاج السلعي المادي ما زال يشكل الرافد الرئيسي والواقعي لديمومة رأس المال في النظام الرأسمالي العالمي. فرغم التطور الكبير في الاقتصاد الرقمي، إلا أنه لا يشكل بديلاً مستقلاً أو أساسياً في خلق القيمة الاقتصادية، بل يُعتبر نشاطاً تجارياً تكميلياً يعتمد في جوهره على البنية التحتية والإنتاج السلعي التقليدي.

فعلى سبيل المثال، تشير دراسات مثل تقرير "Global Manufacturing Report" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) إلى أن الصناعات التحويلية والإنتاج المادي يشكلان قاعدة أساسية للتراكم الرأسمالي، ويعملان كأساس لتطوير التقنيات الرقمية التي تعتمد عليها المنصات الرقمية.

وتبيّن تحليلات شركات التكنولوجيا الكبرى مثل آبل، أمازون، ومايكروسوفت، أن أرباحها الضخمة رغم اعتمادها على الخدمات الرقمية، لا يمكن تفسيرها بمعزل عن سلاسل التوريد المادية المعقدة التي تشتمل على استخراج المعادن، تصنيع الأجهزة، والشحن والتوزيع. فـ"آبل" تعتمد على مصانع ومصادر أولية حقيقية لتصنيع أجهزتها، و"أمازون" تحتاج إلى شبكة لوجستية ضخمة تتضمن مخازن وشبكات نقل فعلية، في حين أن "مايكروسوفت" تبني مراكز بيانات ضخمة تعتمد على موارد الطاقة والبنية الصناعية الثقيلة.

أظهرت أبحاث اقتصادية صادرة عن معهد الدراسات الصناعية والاقتصادية (Institute for Industrial and Economic Studies) أن أي توسع في الاقتصاد الرقمي لا يمكن أن يستمر دون دعم وتكامل مع الإنتاج السلعي، سواء في المواد الخام، المعدات، أو البنية التحتية المادية.

هذه الأمثلة تؤكد أن الاقتصاد الرقمي لا يمتلك دائرة إنتاج مستقلة قادرة على إعادة إنتاج شروط وجوده المادية من دون الاعتماد على الإنتاج السلعي. الاقتصاد الرقمي، كما تؤكد الدراسات، هو امتداد تجاري-خدمي يقوم على إعادة توزيع القيمة المنتَجة في القطاعات المادية، مستفيداً من تطور تقنيات الاتصال والمعلومات.

ومن ثم، فإن أي تحليلات أو دراسات تتجاهل هذا الأساس المادي للإنتاج، وتُقدّم الاقتصاد الرقمي كمصدر رئيسي أو مستقل للقيمة الاقتصادية، تقع في خطأ تحليلي يبالغ في دور الرقمنة، ويتغاضى عن الأهمية الجوهرية للإنتاج السلعي في دورة تراكم رأس المال.

تجارب الأزمات الأخيرة، مثل أزمة أشباه الموصلات التي ضربت الاقتصاد العالمي أثناء جائحة كورونا، تؤكد هشاشة الاقتصاد الرقمي واعتماده الكلي على القطاعات المادية. إذ تعطل الإنتاج السلعي أدى فوراً إلى تعطل خدمات رقمية كثيرة، مما يؤكد أن الرقمنة لا يمكنها أن تحل محل الاقتصاد المادي بل هي فيه ذراع تجاري فقط.

ختاماً، يؤكد مجموع الأدلة الاقتصادية على أن الإنتاج السلعي الملموس هو الركيزة التي يبنى عليها النظام الرأسمالي، والاقتصاد الرقمي، مهما امتدّ وتألق، يظل نشاطاً تكميلياً غير قادر على الاستغناء عن البنية المادية التي يضيف إليها فقط طبقة وساطة وتوزيع.