المارد والسلطة


محمد المناعي
2025 / 8 / 9 - 04:50     

بعيدا عن منطق المساندة أو الهجوم.
لنفكك الأمر قليلا أو طويلا
🔴بين السلطة والمعارضة:
الاتحاد العام التونسي للشغل هو جزء لا يتجزء من المنظومة السياسية للدولة التونسية منذ ما قبل الاستقلال، قام بأدوار عديدة من هذا الموقع أدوار جعلته أقرب للسلطة وجزء من ألة الحكم من أيام حشاد بل إلى زمن قريب كان قلب رحى الحكم والرقم الصعب فيه.
وأدوار جعلته في صف المعارضة إذ كانت تتحرك وتتوحد وتنقسم وتختبر وجودها وقوتها داخله مختلف التيارات السياسية التي ضاقت بها الحياة السياسية المغلقة فكان أقرب لمعسكر تدريب للمعارضة على التعددية والصراع السياسي المدني.
الحكومات التي تعاقبت على تونس وزعمائها الذكي منهم كان يحسن قياس هذا الوزن وهذا الدور فيشرك الاتحاد أحيانا شكليا من باب التوريط و تجنب المواجهة وأحيانا فعليا و استخدم في حالات لإطفاء حرائق اجتماعية عديدة كانت يمكن أن تنتشر ولا قدرة للحكومات على وضع اليد عليها بل في بعض المراحل كان الوزراء يخشون بعض الجهات ويتخفون خلف الاتحاد لحل بعض الاشكاليات وحتى القوى السياسية التي تحررت نسبيا بفعل المناخات الجديدة تجدها تتسابق للبطحاء مع كل أزمة سياسية ولهذا تقييم طوبل بايجابياته وسلبياته.
هذه الحكومات كانت تقيس جيدا وزن المنظمة ترخي الحبل لاستغلال قوته وانتشاره وتشد الحبل لتجنب التغول والانفلات القطاعي وكان عاشور وجراد وحسين العباسي من أقدر الأمناء العامين على فهم هذه اللعبة و الانخراط فيها وإتقانها .
هذه الوصفة السحرية التي تركت البلاد في حالة من التوازن الحذر دائما رغم الأزمات التي مرت بها العلاقة بين المنظمة والسلطة.
� والاتحاد محور الفعل السياسي من خلف الستار ومن أمامه :
التركيبة السياسية للاتحاد سنة 2011 والسياق السياسي العام جعلا من الاتحاد قوة أقرب للمعارضة لحكم الترويكا لكن ليست أي معارضة بل المعارضة التي تحكم ، فمن ناحية الاعتراف بالصندوق وتحميل المسؤولية لمن يحكم ومن ناحية ثانية التدخل في كل تفاصيل الحياة السياسية مباشرة وبطريقة غير مباشرة .
وباعتبار الطرف الحاكم لم يكن بالوضوح المعهود بل كان يتربص بالقوى التي يمكن أن تزعجه في مخططه طويل المدى وفي مقدمتها إن لم يكن الوحيد الاتحاد كان لابد من المواجهة ولعب الطرفان بوجه مكشوف ، النهضة دفعت للاعتداء على الاتحاد في واقعة القمامة وفي 04 ديسمبر 2012 وفي محاولة النفخ في التعددية النقابية المشلولة والاتحاد أعلن بوضوح معارضته لحكمها ودفعه نحو اسقاطها وسحب بساط الدستور من تحتها خاصة بعد الاغتيالات.
كان للمنظمة دور كبير في إعادة التوازن للمشهد السياسي الذي أرادت النهضة الهروب به تحت مسمى "الشرعية" وأرادت بعض القوى الدفع نحو مواجهة مفتوحة تحت شعار "بعد الدم لا شرعية..." فكان التوجه الاصلاحي الذي حكم السياسة التونسية هو الفيصل في النهاية بايجابياته وسلبياته لذلك يتهم البعض الاتحاد بأن كان طوق نجاة للنهضة بعد الاغتيالات التي لا شك أنها تتحمل فيها المسؤولية السياسية باعتبارها الماسكة بزمام الحكم . وشق آخر يتهم الاتحاد بأنه سحب الحكم من طرف له الأغلبية والشرعية وأعاد خلط الأوراق بالحوار الوطني وكان المرزوقي الأوضح في هذه التهمة ونبتت من رحمها فكرة ائتلاف الكرامة كمجموعات محافظة حاملة لفكرة أن المعرقل الأساسي هو الاتحاد (هذا المزاج يتواصل إلى اليوم بين كل مشتقات حزب المؤتمر).
� جويلية والأزمة الداخلية :
بعد عملية 25 جويلية 2021 لم يكن الاتحاد ولا الخط التقدمي الاصلاحي عموما برافض لحركة 25 جويلية في حد ذاتها وكانت القراءة مبنية على فكرة أن الانتقال الديمقراطي بلغ مأزقا شديدا تمثل في وجود شلل نتيجة قوى متمترسة خلف الشرعية البرلمانية وهذه القوى ضحلة سياسيا هي خليط من ميليشيات مسيسة كالكرامة وكتل المال السياسي كقلب تونس والنهضة المنهكة من تجربة التحالف مع نداء تونس و تحيا تونس الذي أنفق كل الرصيد الذي ورثه من النداء وانتهى أمره و كتلة الدستوري الحر التي دخلت في مواجهة مفتوحة مع الجميع وبين أنظار زعيمته انتخابات 2024 لا غير و حزبين يتأرجحان بين هذا وذاك أقرب للمحافظة. في المقابل رئيس دون حزب ودون قواعد متسيسة وفكرة عامة حول مشروع بعناوين غليظة وقمة هذه الأزمة في رفض الرئيس آداء الوزراء للقسم .
هذا المشهد المتشظي جعل من الدولة في حالة شلل وبرز ذلك في آدائها خلال الوباء الذي بلغ ذروته في جويلية 2021 .
الاتحاد وغيره أيضا رأى في هذا الحدث فك لحالة العطالة التي بلغتها الدولة على أمل أن تكون هذه الحركة لاعادة البناء المشترك من جديد لموازين قوى جديدة تقطع مع حالة الفشل وأساسا تقطع مع إرادة الهيمنة لدى الحزب الأغلبي وهو ما تبين عكسه بسرعة بعد المراسيم 117 وغيرها والتي أكدت أن العملية لا علاقة لها بإعادة تشكل مشهد سياسي جديد على الطريقة التونسية تشاركيا بل بوضع تجربة الانتقال الديمقراطي (محاولات التعددية والحريات العامة والفردية ...) بين قوسين والانطلاق في صفحة قديمة جديدة متواصلة إلى اليوم.
إلى هنا كان الاتحاد مثقلا بأمرين أساسيين : الأول وجود جانب هام داخله وخاصة داخل قيادته أقرب للرئيس وهو ما برز بجلاء خلال تجربة المبادرة التي كان يعتزم الاتحاد التقدم بها و قبرت بعيد انطلاق عمل الخبراء والثاني هو الأزمة الداخلية التي دبت بين فرقاء اشتركوا في تعديل القوانين وإعادة ترتيبها دون أن يهضم الناس الهدف من تلك الخطوات عمليا لصالح العمل النقابي او لتطوير المنظمة فبلغت للناس بوضوح على أنها ترتيبات تهم الأشخاص فكان أن اتسعت الهوة بين القواعد المنهكة ماديا ومعنويا وسلطتين سلطة المنظمة الغارقة في تفاصيل المؤتمرات والقوانين و سلطة البلاد الغارقة في تنظيم الانتخابات تلو الانتخابات.
ساهم ذلك في حالة استرخاء نقابي طويل أخرج الاتحاد من حراك السلطة والمعارضة معا وهو الذي كان إلى سنوات 2019 و2020 المبادر والمجمع والمترأس للحراك المدني والسياسي في تونس وبلغ هذا الانحدار أقصاه حين اعتصم جزء من القيادة ضد جزء آخر بالرغم من اتفاقهم على كل التفاصيل بما في ذلك تعديل القوانين الداخلية.
🔴 الهجمة الأخيرة
السلطة الحالية ترهبها هذه الألة على وهنها، من ناحية لا تستطيع الاقدام على عمل عملاق كما قام بذلك نظام بورقيبة ذات مرة بالاستيلاء على المقرات ووضع القيادة في السجن فهذا يبدو لها مخيفا ولا يمكنها توقع عواقبه إذ من أنصارها قواعد لهذه المنظمة ومصالحهم أكثر ارتباطا بها من السلطة بقطع النظر عن المبادىء والنوايا والقصص التي لا يمكن قياسها وأغلب المناهضين جذريا للاتحاد هم في صفوف جزء من المعارضة ويعلنون ذلك في قمة محنتهم ، ومن ناحية ثانية السلطة تعلم أن فشلها الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن أن يتواصل السكوت عنه بمسكنات لغوية وشعارات وهي تعلم أن ليس لها قواعد صلبة بل مجاميع أقرب للمريدين عاطفيا أو مصلحيا وهي تخشى ان يستفيق المارد من جديد بعد مؤتمره القادم ولا قدرة لها بمواجهته ومواجهة جوع الناس وشاهدت قدرته على التعبئة في إضراب النقل مثلا رغم بقايا الانقسام في قيادته وضعفه وبالتالي انطلقت في مهارشته من بعيد لاختبار مدى استعداد الناس نخب وسكان للاصطفاف خلفه أو الاجهاز عليه وكانت بالونة اختبار تونسية صرفة جربت مرارا ولها أهميتها في قياس الأوزان بالنسبة للسلطة ورجة للمنظمة خلال غفوتها الحالية وتحيين للقواعد ... وهكذا تسير هذه البلاد.